الرجل: صعدت المنصة التي كان يقف عليها الجندي الذي يقرأ الأسماء.قلت له إن ولدي داخل هذه الشاحنة, ولكنه أسقطني أرضا وقال:
-: الجميع هنا يريد استلام حصته
المرأة: لم يبق أمامي سوى نعش واحد.وها أني احلم بمشاهدة زوجي. ترى كيف تكون سحنته وهل سيتغير شكله
الرجل: يبدو أن الآباء والأمهات المساكين أمثالي عرفوا حجم النار التي تسعر في قلبي مما جعل الجندي أن يسمح لي بالدخول..ومشيت أمام حراس الشاحنات
المرأة: ادخلوا نعش زوجي داخل المغسل
الرجل: قلت لهم افتحوا هذا المجر
المرأة: فتحوا التابوت
الرجل: وإذا به ولدي.كان نائما,مجرد نائم
المرأة: لم استطع مشاهدته لأنهم سرعان ما أخرجوه ورموه رميا على دكة من الحجر
الرجل: كم كنت سعيدا وأنا أشاهده
المرأة: كان حزينا مغمض العينين. مربوط اليدين إلى الخلف وبعض الدماء المتيبسة على بدلته العسكرية
الرجل: خرجت به من الشاحنة وأنا كالفارس المنتصر. وضعته فوق سيارة نقل الموتى وأنا منتصر
المرأة: شعرت إن العالم انهار والظلمة ملأت الكون
الرجل: وفي الطريق أدركت حجم المأساة.إن ولدي لم يرحب بي ولم يحتضني كعادته وانفجرت بالبكاء الذي لم ينقطع
المرأة: لم أبكي حينها كان الدمع قد جف
الرجل: لم تبق معي سجائر وقلبي صار جمرا,عندها شعرت إن العراق صار بحق عبارة عن مقبرة كبيرة وجميعنا ننتظر الدور
المرأة: دخلوا بيتي في ليل ممطر وكانت بنادقهم موجهة إلي, حتى دخلت احداحما فمي,طالبين مني إخلاء منزلي وتسليمه بما فيه إلى رجل امن كان يملك بيتا أجمل من بيتي وفي الزقاق نفسه وقد شهر هو الآخر مسدسه في وجهي ذلك الجار الذي لم ير غير أوامر سيده,قلت لهم: إنني لا املك في هذه الدنيا شيئا غير هذا البيت وزوجي الذي رحل,وفي الحال صرخ ذلك الجار الطيب
- تقصدين الخائن
وأجبته بالحال: أنت تعرفه جيدا انه أكثر الجنود مطيعا للأوامر وهذا سر بلائه,ولكن إلى أين اذهب؟ وأجابني بالحال:
- إلى الجحيم..
- غريب أيها الجار أن يكون هذا قرارك وردك في الوقت نفسه قلت والخوف يملاني قال:
- سنهد البيت فوق راسك صباح الغد إن لم تغادريه الآن..
وبالعنف اخذوا المنزل وخرجت منه بملابسي التي كنت ارتدي فقط, عندها شعرت إن العراق لم يعد لي بيتا وعلي أن ابحث عن بيت امن
الرجل: طلبوا مني استلام تعويض مادي عن ولدي وكأنهم يريدون شراءه مني,و شعرت حينها بأنني أساهم بالجريمة إذا وافقت على استلام دينار واحد,رفضت وبشكل قاطع استلام أي شيء,وكنت اهدد يوميا بالسجن والتعذيب إن لم أوافق على استلام الثمن, بل زدت عليها بطلاء واجهة الدار باللون الأسود احتجاجا على رحيله, ولم أقابل أحدا في عيد أو فرح وفي ليل ممطر جاءني رجال الأمن وهم كثر, وقالوا:
- انك مستدعى عندنا وستعود بعد تحقيق بسيط
وذهبت معهم ولم اعد إلى داري من ذلك التحقيق إلا بعد خمس سنوات من الجحيم, وما أن خرجت شعرت إن العراق لم يعد بيتا لي وعلي أن ابحث عن بيت
المرأة: وهل حصلت على الأمان؟
الرجل: ليس كما كنت أتوقع,صرت احن إلى العراق والى كل عتبة فيه حتى الأمكنة التي لم أفكر يوما بزيارتها,صرت أتمنى ولو المرور بجانبها,لغتي في الغربة كانت هي الحبل السري الذي يجرني ويربطني بالعراق,وكم حاولت تلبس اللغة الأخرى والثقافة الجديدة إلا أني مازلت احمل الجلد نفسه والسحنة نفسها وروحي كما هي تحن لرؤية شوارع العراق وأرصفته
المرأة: لقد تغير كل شيء لقد مات الأحبة والأصدقاء وكبر الصغار وابيض شعر أقراننا, والشوارع هي الأخرى التي تركناها كفتاة تفخر بعفتها تحولت إلى الوحشة والخراب بعد أن داستها أقدام المحتل القادم من خارج الحدود,شوارعنا مستلبة وذاكرتنا ملك لنا وحدنا ويا حزني لو أننا لم نجد ما نحن نرمي إليه
الرجل: لم استمع إلى الغناء العراقي عندما كنت هناك وما أن ودعت الحدود بالحزن والبكاء ووصلت المنفى صرت متعطشا إلى سماع هذه الأغنيات التي تحفر في صدري روح ذلك الذي لا ينتزع
" فترة صمت قصيرة "
المرأة: لقد تأخر,مضى على الموعد أكثر من مما اتفقنا عليه وتجاوز وقته بكثير
الرجل: سنوات طوال ونحن بعيدين عن الوطن, فلا ضير أن زادت ساعات أخرى
المرأة: المشكلة ليست بالساعات بل بمجيئه أو عدمه "صوت سيارة قادمة "
الرجل: إذ لم يأت فلا بد أن يكون المانع صعبا
المرأة: صعب علي العودة إلى المنزل وتوديع الأصحاب ثانية
الرجل: "فترة صمت قصيرة..يخرج من إحدى حقائبه راديو ترانسستور نوع قيثارة صنع في العراق..يحاول الاستماع إليه,لكنه يستمع إلى تشويش فقط" فرحت به كثيرا وأنا استمع إلى الإذاعات العراقية ولكنه ما أن وصل هنا غير لغته ولم يعد يحكي بالعراقي, والمسافة بينه وبين صانعيه كانت واسعة لذا فقد الارتباط وصار يتحدث لغة البلد الذي يسكن"برهة"يقينا ما أن اصل الحدود فانه سيظهر فصاحته وسيغني ثانية بالعراقي
المرأة: معي أنا أيضا جلبت قطعة من ارض العراق وما زلت احتفظ بها
" فترة صمت قصيرة "
الرجل: وأنا أطالع تاريخ الأمكنة في العراق حزنت كثيرا لأنني لم أر الكثير من هذه المعالم أو استكشف خباياها, وأقسمت بان أسجل كل شيء تقع عليه عيني
المرأة: معركتي مختلفة عنك فانا سأدخل معركة قانونية من اجل استرداد بيتي ان بقيت له معالم
الرجل: "يدخن.. وهو يقدم لها سجارة" لندخن قليلا
المرأة: "تأخذ السجارة" دعنا نملي وقت الفراغ حتى حـضور السائق الذي أدخلنا اليأس "تدخن"
الرجل: ما أن اصل الحدود سابكي دون خجل, اشعر أني فضت بالدموع سأزور المقبرة التي حلمت بمشاهدتها طوال هذه السنوات,كيف هو قبر ولدي الآن وهل مازال شاخصه باق أم هدموه هو الآخر
المرأة: بعد أن اجبروني على دفع ثمن الطلقات التي اخترقت جسده,ودفنه بيدي,قيل لي: عليك أن تبتهجي,فان الكثير ممن اعدموا رميا بالرصاص أو سحقتهم الجرافات مازالت الأرض تحتفظ بأسرارهم,ولم يظهر لهم أي دليل, زوجات وأمهات بكين لأعوام طوال وانتظرن هذا الزمن كله عسى أن يأتي ذلك الغائب وينفض عنه التراب إلا انه لم يعد والحزن صار معلما في الوجوه
الرجل: يا للخيبة, محسود من يحصل على جثته ولدا كان أو زوجا أو أخا, أي زمن مر نحن فيه
المرأة: أرجوك لا تتحدث عن هذه الويلات أمام السائق
الرجل: ولماذا ؟
المرأة: مازالت هناك بعض من عيونهم
الرجل: متى نتخلص من هذا الخوف ؟
المرأة: قضينا العمر هكذا,الخوف صديق لنا
الرجل: سأتحدث معه عن أشياء أخرى غير الألم
المرأة: أتمنى ذلك
" فترة صمت قصيرة "
الرجل: كيف قضيت وقتك في غربتك؟
المرأة: مثلك تقريبا
الرجل: كنت أقرا كثيرا محاولا قتل الجهل الذي فرض علي
المرأة: لو لا التلفاز وأخبار العراق لألقيت بنفسي من الطابق السادس حيث اسكن,فان التلفاز والهاتف كانا يهونان عليّ ساعات الجنون"برهة"كنت أفكر فيه كثيرا, كلما طبخت شيئا كان يحبه,أضع صحنين على الطاولة مع شوكتين وملعقتين عسى ان يأكل معي"برهة "كان يأتيني كثيرا في منامي واليوم الذي لم يزرن استيقظ غاضبة
" فترة صمت قصيرة "
الرجل: سأعبر الشارع الآخر ربما سيكون السائق هناك,سأضع حقائبي إلى جـانب حـقائبك وســأعود بـعد حيـن " يخرج "
المرأة: "وحدها..ترتب الحقائب"حقاً أنا خائفة لـــم اعــد أثــق بشيء,الــسائق تأخــر و الرحلة إلى هناك مملوءة بالخطر الطريق ملغـوم بالصــور و قطاعي الطرق و الشوارع تزهي بالمجنزرات و السيارات الملغومة تنفجر في كل مكان,و رغم الموت المجاني سأزورك يا عراق.
الرجل: " و هو يدخل" لا اثر له
المرأة: لو انه في العراق لأعذرناه و حتماً كان المانع صعباً, لكننا لم نصل الحدود بعد
الرجل: سنصل حتماً
المرأة: و لكن كيف و متى ؟ "برهة"هل سيطول بقاؤك في العراق ؟
الرجل: لا اعرف, الأمر معلق بما اجده هناك ربما يطول بي البقاء طوال العمر أو أعود بعد حين
المرأة: أنا لم أقرر البقاء أبدا, اشعر أني لا أستطيع العيش هناك ثانية,على الرغم من أني انتظر الساعة التي أضع فيها قدمي على تراب العراق.
الرجل: اشعر ان جسد العراق كجسدي,قد تعرض هو الآخر للغربة و العذاب و الوحشة,وان سنوات العنف سرقت منه ومني ربيع العمر و لم اعش سوى نصف السنين,و هكذا هو العراق.
المرأة : تمر بي لحظات من الجنون احمل فيها غيضا لا يتحمل على الوطن ,حين أفكر بأنه اغتال زوجي ذلك الزوج الوديع الذي لم يؤذ حتى حشرة,اشعر أن هذا البلد لا يعيش فيه الإنسان المسالم.
الرجل: إذا عودي من حيث أتيت طالما...
المرأة :أيها الرجل,أسميتها ساعات الجنون,سأزور العراق و ربما يأتي ذلك اليوم الذي يحتضن احدنا الآخر و نعود لبعضنا ثانية.
" فترة صمت قصيرة "
الرجل:" يدخن.. يتأمل دخانه وكأنه يستحضر الهم"في الغربة يحمل الموت معناه الحقيقي,فإذا مات الواحد منها في منفاه يبتلى بجثته و مكان دفنها, و عليه ان يؤمن على دفنه لكي يضمن دفنه في مكان ما بدل من رميه في حاوية النفايات.
المرأة: تركت الأمر كما هو دون تأمين أو أي شيء آخر
الرجل: قلت لهم و بعد ان دفعت أقساط التأمين: أريد ان ادفن في الوطن حتى و لو كان السعر مضاعفا, و اتفقنا على ذلك وحال موتي سيدفنونني هناك.
المرأة: لا فرق بالنسبة إلي"برهة"كنت أشاهدهم في المستشفى و هم دون أطراف, و يضعون في التوابيت الخشبية أحياننا ساقاً أو يداً ليس لهم حينها أحسست ان هذا الجسد لا يعني شيئا فليمت حيثما يقف.
الرجل: حقاً بدأ اليأس يدب إلي و أظن السائق لن يأتي هذا اليوم.
المرأة: و أخيرا نطقتها, أؤكد لك انه لم يأت وقد تجاوز وقته بكثير, دعنا نحمل حقائبنا و نعود إلى منازلنا, و اترك لك مهمة الاتصال به و معرفة السبب.
الرجل: انتظري قليلاً ربما سيأتي, و إذا جاء ولم يجدنا فسيرمي الحجة علينا ربما علينا ان ندفع له أجرة مضاعفة.
المرأة: إذا جاء و طل علينا فمن أي طريق يأتي.
الرجل: من هذا الاتجاه"يشير إلى نفس الاتجاه الذي خرج هو منه قبل قليل"
المرأة:إذا دعني اقتل ملل الانتظار و أشاهده عسى ان يأتي " تخرج "
الرجل: "وحده" نحن موعون بالأنتظارات و الأحلام المؤجلة,حتى السائق تلاعب في أجمل رغبة و اعنف شوق صاحباني طوال سنين الغربة, انه يأتي, لا انه لا يأتي, و كأننا عدنا إلى اللعبة القديمة التي كنا نودع فيها يومنا و لا نعرف على أي نوع من الموت نصبح.
المرأة: "و هي تدخل" شاهدت سيارة قادمة من بعيد ربما و صل إلينا الآن.
الرجل: أتمنى ذلك"صوت السيارة يقترب و نسمع صوت وقوفها مع انطفاء الأضواء الخارجية..فترة صمت قصيرة..يدخل السائق و وجهه حزين.. فترة صمت"
المرأة: " تحمل حقائبها متجهة إلى الخارج "و أخيرا وصلت, لقد جففت دمي .
السائق: " وهو يوقفها بإشارة من يده " ليس من عادتي ان اخلف وعدا فكيف إذا كان باب رزق,و لكن يؤسفني ان أقول لكم بأني لا أستطيع ان أوصلكم إلى العراق هذا اليوم,اتصل بي مسئول الخط و قال ان الطريق غير آمن و قد تعّرضون أنفسكم إلى الموت.
المرأة: يوم آخر من الحزن
الرجل: هكذا نحن دائماً نضيف حزنا على حزن لذا فأني اشك دائماً بذلك اليوم القادم" إلى السائق"اسمع سوف أنام بأقرب فندق و سأعطيك العنوان و لن أعود إلى منزلي و إذا سمعت أخبار جيدة عن الطريق اتصل بي و سأجلب حقائبي في الحال.
المرأة: اشعر من الصعب الذهاب إلى بيتي لذا سأسكن فندقا قريبا من هذا المكان و عندك رقم هاتفي و انتظر منك الاتصال.
السائق:"يتحرك وسط المسرح وكأنه يوجه كلامه إلى الجمهور مشتكيا"يا أخوتي الطريق غير آمن و قد تطول الحكاية.
تمت
بتاريخ 5-7 -2005