إسحاق وإيفجني
لكن، لنبقى ضمن إشكالية واستحالة الموقف ذاته، لنفحص جنون خياراته الجنونية والإجرامية ثانية. لنسأل أنفسنا إذا ما كان قد حدث في يوم ما من تاريخ الإنسانية وذاكرتها، إن كان ذلك على أرضية الواقع أو في ميدان الفن، شيئاً يماثل ولو من بعيد مأزق "مواطن"؟ ربما. بيد أننا لا نظن بأن هناك ما يتطابق معه، وفي كل تفصيلاته، كان قد حدث، أو يمكن حدوثه مثلما هو حادث في "مواطن. "
نحن نعرف، كما يروي لنا التاريخ أو ذاكرة الشعوب ومخزونها المُتخيل قضية إبراهيم وأبنه إسحاق، وكيف كان على هذا الأب الأسطوري قتل، أو التضحية بابنه الأعز على قلبه، ذلك لأنه كان قد تلقى نداء من ربه يأمره بتقديم ذلك الابن كضحية، كبرهان على إيمانه المطلق بمشيئة وإرادة خالقه، ربه وسيده الذي لا يمكن التمرد على مشيئته، كما كان عليه الإذعان لذلك النداء، مهما بدا غير مفهوماً وعبثياً في قسوته.
هناك قضية "إيفجيني" أيضاً، الصبية الإغريقية ذات الجمال الخارق، والتي كان على والدها، "أغامنون"، القبول بذبحها أمام عينيه، لكي يتم إنقاذ شرف العسكر، أو شرفه الشخصي، أو غيرها من الأسباب والعلل؛ فهذا ليس شأننا في الوقت الحاضر، نحن لا نروي هنا ما حدث بالدقة في تاريخ وذاكرة الشعوب المدمية، لكننا ننوي وحسب القول بأن حالة "مواطن"، كعمل إبداعي جديد يطرح أمامنا نموذجاً لا شيء يدل عن يقين بحدوث ما يمكن أن يماثله بفجيعته، ولكن أيضاً بطريقة معالجته. ففيما يتعلق بإسحاق، يظل أمر وإرادة ذلك الرب القاسي والأناني أمر أو أرادة خرافية، وقد لا يمكن فك طلاسمها، فهي مطروحة كبرهان تجريدي على قوة الإيمان بحد ذاته، من ناحية، ولأن إسحاق قد تم إنقاذه من قبل نفس تلك المشيئة أو الإرادة نفسها، من ناحية أخرى. وهذا يعني أننا ما زلنا، في الحقيقة، مع تفصيلة إسحاق أو أسطورته، نعيش ضمن ميدان الكوميدي، التيولوجي، أو الخرافي. فيما لا تكف مسرحية "مواطن"، البسيطة كبساطة ذلك الرجل عن ترديد المقولة التالية، والتي يمكن أن تكون شعارها أو إيحائها الأكثر رهافة : "السماء أغلقت أبواب الدعاء".
لا رب، لا إلاه، سيتدخل إذاً لإنقاذ رجل الخبر الذي ولد هذيانات عمل مطرود المدوخة. لنتمسك بقوة بهذه النقطة : السماء ليست فارغة وعارية وحسب، بل أصبحت صماء كما هي عليه دائماً، ولن ينزل كبش فداء ضمن أشعتها النورانية ليحل محل الطفل الذي يراد ذبحه، أو الأب الذي يطلب منه تقديم رقبته كرهينة أو ثمن خطيئة لم يرتكبها. لكن، مرة أخرى، نحن في زمن غياب الآلهة، في لحظة رفضهم الفضائحية وتنكرهم القاسي والذي لا يُغتفر لكل مناشداتنا.. هنا، لا بد من التذكير بمقولة الفيلسوف الألماني هيدغر الشهيرة : "في الكآبة التي نحن فيها، قد ينبغي تدخل أله ما لإنقاذنا". أستشهد بمقولة هيدغر عن ظهر قلب، ولا يعنيني هنا ترديدها حرفياً، ذلك لأن جوهر ما أسعى لقوله عند هذه النقطة هو أن "مواطن" لا تقدم نموذجاً جدياً ولم يسبق لمأساوية الوضع الإنساني وشراسة وانحطاط القوى التي تتحكم فيه وحسب، بل تقدم الشهادة الأكثر صدقاً على غياب وانتفاء المعجزة، لاسيما معجزات السماء؛ "فانغلاق أبوابها أمام الدعاء"، لا يشير على صمتها، ابتعادها، استنكافها عن الرد أو الاستجابة فقط، ولكنه يشير بالدقة على ضرورة الكف عن توجيه هذه الدعاءات لها، الكف عن نقل النظر نحو قبتها غير المملوءة بغير الغاز الفارغ، كما لا بد من الابتعاد عن تدابيرها المتواطئة في خلق الموقف ومأزقه الإجرامي والعبثي معاً. من ناحية ثانية، ينبغي القول بأن السماء ما عادت قادرة، إذا كانت في يوم ما قادرة، على استنباط "تقنيات" الخروج من وحشية الموقف. لقد نضب كل احتياطها القديم وتبخرت طاقتها الأسطورية. أما قضية العسكر وإمكانية الاستعانة بكرامتهم أو شرفهم المفقود، فأن "هذيانات/ مواطن" كانت قد عرفت سلفاً كيف تجعلهم طرفاً مدبراً للمأساة. ذلك ما يخولنا ربما القول بأن "مواطن" تذهب إلى ما وراء اللحظة التراجيدية لإسحاق، كما تخلف من ورائها تمثيلية وعذابات "إيفجيني" المُفترضة. أن ألم ونوعية العبث الكوني الذي تزيل "مواطن" الغطاء عن وجههما القبيح هما بمثابة الكشف الأكثر رهافة عن موقف وجودي يتعلق بإنسانية جديدة تُساق ويُدفع بها يومياً باتجاه مجازر ذبح وغرف تعذيب من نمط آخر، مغايرة تماماً. وقد يكون بمقدورنا القول، دون أن يكون ذلك ما تقوله أو توحي به المسرحية نفسها، بأن تلك المجازر وغرف التعذيب قد تشبه مجازر وغرف التعذيب التي يعيشها الإنسان العراقي اليوم.
ما الذي يمكن فعله ثانية إذاً في موقف كهذا، في عزلة دامية كهذه؟
معالجة العمل
بعد أن وضعتنا "مواطن" على حافة هواية الاختيار الدامي هذا إذاً، وبعد أن وضعت على خشبة المسرح ذلك الرجل الأعزل أمام كارثته الأرضية، التي لا نشك في موقع حدوثها، في قتل أبنه أو قبول موته هو الشخصي، على أيدي "مجموعة مجرمة" لا نعرف عنها شيئاً، ولا نعرف كذلك شيئاُ عن دوافعها باتخاذ قرار إجرامي وإشكالي من هذا القبيل، تشرع المسرحية بالإيحاء بممكنات تحويل وقلب الموقف، لكن ليس بالضرورة الخروج منه تماماً. أي أنها بدل الاستسلام الأعمى للمأزق، تقوم بمقاومته، انطلاقاً من حركتها الأولى، وبدلاً من الإدعاء بالخروج منه كليةً، بدفعة واحدة، لا تكف عن الإيحاء والإشارة على قدراتنا الضمنية، على الأقل، على لعبه، على خلق أو ابتداع آفاقاً غريبة عليه، وقد نتمكن، بهذه الطريقة أو تلك، في النهاية من تشتيت صرامته ونذالته الكونيين. ذلك ما يقدر عليه الفنان، وما لا تتمكن منه السماء ومن يقطنها. ذلك لأن ما يقدر عليه الفنان يكمن في " خلق هارموني وسط الجحيم". ذلك هو "المهم". وها أننا أصبحنا مهيأين على اتخاذ الخطوة الأولى نحو "مواطن". كيف يمكن للمبدع خلق "هارموني وسط الجحيم"؟ وأي جحيم؟ ومع ذلك... وقبل أن نذهب أبعد في رؤية تلك الإمكانية، دعونا ننظر أولاً "لديكور" المسرحية، لنقطنه قليلاً، لننقله حرفياً ونضعه أمام عين القارىء : "مجموعة كواليس على خشبة المسرح ويمكن رؤية ما يجري خلفها من مشاهد، في وسط المسرح قفص حديدي في داخله طفل صغير وسيم بعمر العشر سنوات أو أكثر يمسك بيده لعبة، وطوال الوقت يلعب بها، إلى جانب القفص يجلس الرجل على كرسي قديم أو علبه صفيح ماسكاً رأسه بين يديه، أصوات ذات صدى من خارج المسرح، يمكن عملها كأصوات متداخلة أو قادمة من عمق السماء أو باطن الأرض". يمكننا إذاً، بعد أن قطنا الديكور قليلاً، رؤية ما يجري خلف مجموعة الكواليس، بيد أن النظر فيما وراء الكواليس لا يعنينا ولا تهمنا رؤية ما "يجري خلفها من مشاهد"، تكفينا رؤية "القفص الحديدي"، وبشكل خاص ما في داخله : "طفل صغير وسيم بعمر العشر سنوات أو أكثر" كذلك يعنينا الانتباه لقضية أنه "يمسك بيده لعبة" لا ندري ما هو نوع تلك اللعبة، هذا الرمز الكبير الذي لا يفارق تقريباً كل أعمال المبدع مطرود، والذي لا نكف نحن من التأكيد على دوره الاستثنائي؛ كذلك نرى، "إلى جانب القفص رجل يجلس على كرسي قديم أو علبه صفيح ماسكاً رأسه بين يديه"، لكننا نسمع أيضاً. ماذا؟ "أصوات ذات صدى من خارج المسرح". ما هذه الأصوات، ومن أين تقدم ؟ : "أصوات متداخلة أو قادمة من عمق السماء أو باطن الأرض". تلك هي اللوحة ذات الجمالية الخارقة والمروعة معاً التي ترسمها أمامنا "هذيانات/ مواطن" والتي تدعونا للدخول فيها. لكن قبل أن ندخل طواعية في كونها الجحيمي هذا، لا بد لنا من التأكيد على نقطتين، أولهما تمنح نفسها مباشرة لرؤيتنا، نعني بذلك العناصر الموجودة فيها والتي تمسنا عن قرب : الطفل، اللعبة، الرجل والأصوات؛ الباقي متروك لمتعة المشاهد أو اضطرابه الداخلي. أما النقطة الثانية، فهي غير مرئية ولا يصرح بها الديكور ولا حتى النص برمته، لكن نحن من يأخذ ثانية مسئولية الإعلان عنها، التصريح بمدلولاتها، مع أنها تنطق بذلك من تلقاء نفسها : نحن أمام موقف سياسي محدد وبدقة. فالكواليس والمشاهد التي يمكن رؤيتها من خلفها تشير صارخةً بأننا في مواجهة واحداً من المواقف السياسية الأكثر شفافية ووضوحاً، بالرغم من دمويته المحيرة والتي لا يمكن وصفها. ذلك كل ما كنا نطمح الإشارة عليه. ومع ذلك، يبقى سؤالنا الأول معلقاً : كيف يمكن للفنان "خلق هارموني وسط الجحيم"، أي كيف يمكنه القيام ولو بحركة واحدة كانت السماء نفسها قد عجزت عن اتخاذها؟ لا ينبغي نسيان ذلك. ومع ذلك، يبقى كل ما ذكرناه، ما تحدثنا عنه حتى الآن لا يشكل سوى مقدمة لكي نقول، بعد كيركغارد، بأن "الاختيار هو الجنون بعينه". لقد تشبثت "هذيانات مواطن" بأسنانها ومخالبها بذلك القول، وظلت وفيه له من بدايتها حتى نهايتها : لا ينبغي مواجهة جنون بجنون آخر، لكن علينا، في حالات كهذه، في مواقف مأسوية مدمرة كموقف "مواطن" هذا، أن لا نقبل أو نستسلم للخيارات الظالمة في جوهرها التي يقدمها لنا الموقف، ولا نركع كالعبيد أو المجانين أمام أحكامه العنفية وسياسته الرقيعة. علينا، من ناحية، تكثيف وسائل وممكنات الإبداع التي لا يفهمها، وكذلك تعمد اختيار "اللااختيار" باعتباره الاختيار الأسمى، رفض أن نوضع بين خيارين أحدهما أكثر مرارة من الآخر. (كما يفعل الرجل في رفضه، دون ضجة مفتعلة، وبلا تهور حيال خطر وشراسة القاتل، الاختيار ما بين ذبح أبنه وتسليم نفسه كضحية أو ثمن). لكن، هل يكفي قرار عدم الاختيار وحده؟ قد لا يكفي، بل وقد يتكشف بسرعة عن استحالته، حين تكون سكين العدو، أو سيفه، قنبلته، أو مثقبه الكهربائي، أو مدفعه موضوعة ومسلطة على رقابنا، أو على رقاب من نحب ونريد الحفاظ عليه وصيانة حياته وكأنها أغلى من حياتنا نحن. لكن إذا ما ترافق قرار الرفض على الاختيار هذا مع مضاعفتنا لقدراتنا الفنية على تحويل اللعبة بكاملها، الكشف عن ممكناتها ضمن الموقف الذي يجهلها ويتظاهر بعدم سماعه لصوتها، حينئذ، ربما ستتولد "معجزة" الفعل/الفن، أو حلول الهذيانات المبدعة التي لا ينبغي التخلي عنها، أو خيانتها في اللحظة التي نكون في أمس الحاجة إليها. أهذا كل ما في الأمر؟ وهل ينبغي علينا الاكتفاء "بالهارمونية" التي ينبغي الحفاظ عليها"وسط الجحيم"؟ صبراً. لا ينبغي التململ من تكرار ضرورة لعب الموقف برمته، كذلك لا بد من التأكيد على قضية أن قوى الموقف، ومهما كانت ضراوة ونوعيه أسلحتها، تظل بعيدة عن الاستحواذ الكلي والمطلق على ممكنات الموقف ذاته، فهي لا تستطيع الاستحواذ وتملك ما لا تعرفه. ولن تعرفه. مادام ذلك "الشيء" الذي لا تعرفه هو بالدقة ما يمتلك الفنان مفاتيح معالجته. أي الرد على أسلحته المرعبة، أبطال مفعولها، وترك تهديداته تمر وكأنها لا شيء آخر سوى انعكاس أو صدى خائباً لجنونه وغبائه. مواجهة تلك الأسلحة الُمخيفة وتلك التهديدات اللعينة بما لا علاقة له لا بالأسلحة ولا بالتهديد المقابل. قد يشكل الصمت، صمت "الرجل البسيط الذي يضع رأسه بين يديه" واحدة من تلك الردود، لكن أيضاً قد يشكل لعب العمل الفني ، بدوره، رداً آخراً على تلك الأسلحة والتهديدات المتواصلة. وذلك ما تقوم به "هذيانات/ مواطن" قاسم مطرود بحرقة، بفطنة، برهافة وبشجاعة تكاد تكون خيالية، أو هي كذلك، بالمعنى الذي يكون فيه المُتخيل هو الإبداعي بحد ذاته.ً لكن كيف؟ لكن بماذا؟ الإجابة هي التالية:بالكيف واللماذا نفسهما، ولوحدهما.