يبدو أن المكان الأمثل لبحث التعددية اللغوية هو پاپوا غينيا الجديدة Papua-New-Guinea، مِساحتها أقلّ من مساحة فرنسا بقليل وعدد سكانها زهاء الخمسة ملايين إنسان ويتكلمون وفق آخر إحصاء 860 لغة وهي مقسّمة إلى 26 فصيلة لغوية. الأغلبية الساحقة لهذه اللغات جدّ مغمورة إذ أن لـ 80% منها خمسة آلاف ناطق فقط. وفي مثل هذا المحيط متعدد اللغات يتعلّم السكّان الكثير منها وبصورة طبيعية، يتسنّى للطفل سماع خمس أو ستّ لغات وتعلمها شرط أن يكون مصدر كل واحدة منها ثابتا. كما وتلعب اللغات في پاپوا غينيا الجديدة دورا اجتماعيا هامّا فاللغة تعزّز صلة الفرد بقبيلته ومعرفة لغات أخرى تفتح للشخص إمكانيات اقتصادية وعسكرية وشخصية أيضا مثل الزواج. وهكذا لم تنتشر لغة واحدة معينة وبسرعة على حساب لغة أخرى. ويذكر أنه في منطقة ثنائية اللغة تواجدَ على الدوام أناس فضّلوا لغة ما على الأخرى وهكذا نمت وعظمت هذه اللغة المنتقاة واحتلت مكان اللغة الثانية في آخر المشوار. وفي الوقت نفسه تنشأ لغات جديدة عند اندثار مجتمعات معينة ونشوء مجتمعات جديدة. وعليه يبقى عدد اللغات على حاله تقريبا وهذا ما يدعوه اللغويون بـ”التوازن اللغوي” الذي يسود معظم الكرة الأرضية كما هي الحال بالنسبة للتوازن في الطبيعة أيضا. ويذكر أن الجنس البشري في مراحله التاريخية الأولى كان متعدد اللغات، أما الوضع الثقافي المتشابه في أمريكا وإنجلترا حيث يتكلم الناس لغة واحدة فقط فهو من المنظور التاريخي ظاهرة جديدة وشاذّة.
أخيرا قد يكون مفيدا ذكر الإحصائيات اللغوية الآتية. هناك في العالم 7227 لغة موزّعة على النحو التالي: في اسيا 2197، وفي إفريقيا 2058، وفي منطقة المحيط الهادىء 1311، وفي أمريكا 1013، وفي أوروبا 230، أما عدد اللغات الميتة تقريبا الآن حيث عدد المتكلمين بها جد قليل فهي: 55, 37, 157, 161, 8 وفق الترتيب المذكور، أي أن عدد اللغات التي في طور الاندثار والتلاشي هو 418 لغة.
ما مصير اللغة العربية الأدبية في هذه المعمعمة التي كثُر الحديث فيها عن الانقراض اللغوي في الآونة الأخيرة. كانت منظمة اليونيسكو قد أكّدت أن العربية ستكون ضمن اللغات المرشّحة للانقراض خلال هذا القرن. لا شك أن القول الشائع بأن العربية لا يمكن أن تندثر لأنها لغة القرآن الكريم فهي خالدة وقد ورد فيه في سورة الحجر "إنا نحن نزلنا الذكر وإنّا له لحافظون" يحتمل أكثر من معنى لغويا وتفسيريا.
تاريخيا أمامنا مثل جليّ لانقراض لغة محكية مدة سبعة عشر قرنا من الزمان تقريبا بالرغم من وجود كتاب ديني سماوي مقدس لدى المنتمين لتلك اللغة. وهذه اللغة فريدة في نوعها في التاريخ اللغوي إذ أنها عادت قبل زهاء قرن من الزمن ، منذ بداية الثمانينيات من القرن التاسع عشر في فلسطين، نتيجة لتظافر عدة ظروف مؤاتية، وغدت لغة محكية حية تدرّس فيها كل المواضيع حتى الطبّ في الجامعات الإسرائيلية، إنها العبرية الحديثة التي انبثقت من عبرية العهد القديم التي يرجع تاريخها إلى أكثر من ثلاثة آلاف عام. المألوف في علم اللغة هو تطور لهجة محكية في ظروف معينة إلى لغة مكتوبة، أما العكس أي "إحياء" لغة مكتوبة لتصبح محكية فنادر جدا. في هذا السياق من الممكن الإشارة إلى لغة كورنيش بانجلترا التي بعثت من جديد عام 1777 ويقدّر عدد متكلميها اليوم بحوالي ألف شخص وهي بمثابة لغة ثانية عندهم. من هذا المنطلق قد تنقرض اللغة، بمعنى أنها ستغيب عن ألسنة الناس وقد تبقى بأقلامهم أو بالأحرى بحواسيبهم كما هي الحال بالنسبة للعربية الأدبية منذ القدم، وفي الوقت ذاته يبقى الذكرُ كما حصل أيضا في إسبانيا وإيران. ثم يجب التذكير مثلا أن عبرية العهد القديم لا تضمّ أكثر من ثمانية آلاف كلمة وفي غضون المائة عام الماضية دخلت واشتقت في العبرية الحديثة زهاء الخمسة عشر ألف لفظة. وما في القرآن الكريم لا يمثّل إلا أقل من ثلث ما في لغة الضاد من جذور وتراكيب ومعان كما ذكر مؤخرا الشيخ الدكتور علي جمعة، مفتي الديار المصرية في مؤتمر بالقاهرة. يبدو أن القول الفصل في إمكانية الحفاظ أو عدمه على لغة معينة يرجع إلى أبناء هذه اللغة ودورهم الثقافي والحضاري بين الشعوب الأخرى.
وفي هذا السياق الراهن للغة العربية الأدبية الحديثة هناك عدة عوامل غير مشجعة نذكر منها ما يلي. الحبّ والتقدير للغة العرب لا يتعدى في الغالب الأهم الشفتين؛ العرب، حكومات وشعوبا، مغلوبون على أمرهم، تابعون، والمغلوب شغوف بالاقتداء بالغالب في كل شيء كما قال ابن خلدون "إن الأمّة إذا غُلبت وصارت في ملك غيرها أسرع إليها الفناء"؛ العربية لغة رسمية في البلاد العربية شكلا فقط إذ لا وجود لأنظمة أو قوانين لتنفيذ المكتوب، رغم أن أغلب الدول المتقدمة تتدخل سياسيا في مجال اللغة والتخطيط لها؛ هوة الازدواج اللغوي بين الفصحى والعاميات عميقة إذا ما قورنت بالوضع المماثل في اللغات الأخرى؛ الأمية ضاربة أطنابها في العالم العربي والقراءة سلعة نادرة فيه، قيل إن العرب تقرأ بالأذن، معدل ما يقرأه الفرد سنويا في الغرب هو خمسة وثلاثون كتابا وفي إسرائيل مثلا أربعون، أما عند العرب فهناك كتاب واحد مقروء لكل ثمانين فردا! الميل للتحدث بالإنجليزية والفرنسية على حساب العربية؛ أبناء النخبة أو الذوات يدرسون في مدارس أجنبية أو مدارس خاصة ونصيب العربية فتات في أحسن الأحوال؛ زعماء العرب لا يقدمون نموذجا لشعوبهم في هذا المجال؛ ممثلو دول العرب في منظمة الأمم المتحدة لا يستخدمون عادة العربية؛ أين المعجم التاريخي للغة العربية؟ متى يعرّب التدريس الجامعي في البلدان العربية أسوة بالجمهورية السورية؛ مناهج التدريس بحاجة ماسّة للتعديل والتطوير الدائمين تمشيا مع التطورات العلمية الحديثة في العملية التربوية التي في تطور مستديم؛ لا بد من مشروع حقيقي شامل لتبسيط تعليم العربية والتركيز على الجانب الوظيفي فيها والابتعاد عن التقعر؛ افتقار لمفردات العصر؛ ظاهرة شيوع الأخطاء اللغوية الفادحة والفاضحة في الصحافة الإلكترونية خاصة والورقية؛ شأن أستاذ اللغة العربية بحاجة ماسة للدعم معنويا وماديا والإشراف الحقيقي والمتواصل على تأهيله؛ إعلاء شأن أدب الأطفال أمانة مقدسة في أعناق وزارات التربية والتعليم.
أحيانا. قد يتساءل المرء بعد مثل هذا التأمل، أهناك أمة لا تحترم فعلا لغتها مثل العرب؟ الصين وكوريا واليابان وغيرها أمثلة يُحتذى بها بهذا الصدد. حافظت اليابان على تراثها اللغوي رغم إنجازاتها التكنولوجية المميزة ولم تهرول لإعلاء شأن اللغات الأجنبية على حساب اليابانية. العربية في وسائل الإعلام المختلفة ستسمع وتقرأ فهناك بالإضافة إلى الصحف والمجلات على أنواعها العشرات من محطات التلفزة في الدول العربية وخارجها. هناك على سبيل المثال أربع وعشرون محطة عربية فضائية ضمن الثمانين على القمر الأوروبي ومؤخرا سمعنا عن صوت روسيا. في تقديرنا السؤال الأساسي هو ماذا سيكون جوهر اللغة العربية الأدبية في الإعلام في أواخر هذا القرن؟ ماذا ستكون مكانة العربية في العالم بعد نضوب آبار الذهب الأسود في أرض العرب؟ قد يضيف المرء أيضا ما طبيعة المكانة ذاتها في حالة انحسار ما يسمى بالإرهاب الأصولي الإسلامي في العالم أو تفاقمه؟ مثقفو العرب الحقيقيون من شعراء وأدباء سيستمرون في حمل مشعل سلامة اللغة والعمل على تطويرها لا تقديسها وتحنيطها في أجواء ليست سهلة على العموم. إنهم سيستمرون في نفخهم على الجمرة كيلا تنطفىء.
نأمل أن يولي الإنسان العربي عامّة والمغترب خاصة، مثل المقيم هنا في بلاد الشمال النائية موضوعَ اللغة أهمية قصوى، لا سيما كلغة محكية وأن يورثها لفلذات أكباده رغم الصعوبات الجمّة التي تعترضه، خاصة عندما تكون الزوجة أجنبية ولا تعرف العربية بصورة مُرضية. اللغة المحكية هي اللغة الحية، عُنوان الهوية ومرآة الثقافة وعليه فإنها تستحقّ منّا كل جهد ووقت للحفاظ عليها بل والعمل من أجل تطويرها فالوسائل التقنية في عصر العولمة هذه متوفرة وينبغي استغلالها خير استغلال. اللغة، أية لغة ليست أداة للتواصل فحسب، لها دور أساسي في تكوين نظرة الإنسان وفلسفته للكون، إنها وعاء الفكر والوجدان، مخزن تجارب الأمة بأسرها. كل لغة عبارة عن وسيلة فريدة في تحليل العالم وتركيبه، طريقة في بناء الواقع.
معرفة اللغة، أية لغة بشرية حيّة معناها الحديث بها في المقام الأول كابن اللغة تقريبا.
مراجع مختارة
ابن رشد، رسائل ابن رشد الفلسفية. رسالة ما بعد الطبيعة. تقديم وضبط وتعليق د. رفيق العجم، د. جيرار جهامي. بيروت ط. ١، 1994.
Abley, Mark, Spoken here: Travels among Threatened languages. London 2003.
Brenzinger, M. (ed.), Language Death: Factual and Theoretical Explorations with Special Reference to East Africa. Berlin: Mouton de Gruyter 1992.
Census, Bureau, The Indian population of the United States and Alaska. Washington, DC: 1937.
———, 1989 Census of Population: Characteristics of American Indians by Tribes and Selected Areas. Washington DC: 1989.
———, 1990 Census of population: Social and Economic Characteristics for American Indian and Alaska Native Areas. Washington DC: 1994.
Campbell, Lyle & Mithun Marianne (eds.), The Languages of Native America: Historical and Comparative Assessment. Austin 1979.
Crawford, J. (ed.), Language Loyalties: A Source Book on the official English Controversy. Chicago 1992.
———, Hold Your Tongue: Bilingualism and the Politics of "English only". Addison-Wesley 1992.
———, Bilingual Education: History, Politics, Theory and Practice. 3rd ed. Los Angeles 1995.
Crystal, David, Language Death. Cambridge 2000.
Denison, N, Language Death or language Suicide? in: International Journal of the Sociology of language 12 (1977) pp. 13-22.
Edwards, J., language, Society and Identity. Oxford 1985.
Evans, Nicholas, "The Last Speaker is Dead-Long Live the last Speaker". In: Paul Newman & Martha Ratliff (eds.), Linguistic Field Work. Cambridge 2001, pp. 250-281.
Fishman, J. A., Reversing Language Shift: Theoretical and Empirical Foundations of Assistance to Threatened Languages. Clevedon 1991.
Hakuta, K. & D’Andrea, D., Some Properties of Bilingual Maintenance and Loss in Mexican Background High-School Students. Applied Linguistics 13 (1992) pp. 72-99.
Hale, Kenneth et alia, "Endangered Languages". Language 68/1 (1992), pp. 1-42.
Harrison, K. David, When languages Die: The Extinction of the World’s Languages and the Erosion of Human Knowledge. New York & London 2007.
Kaaro, Jani, "kun kieli katoa". Tiede 2 (2005) pp. 34-36.
Kraus, M., "The World’s Languages in Crisis". Language 68 (1992) pp. 6-10.
———, Endangered Languages: Current Issues and Future Prospects. Hanover 1995.
Ladefoged, P., "Another View of Endangered Languages". Language 68 (1992) pp. 809-811.
MaConvell, Patrick & Nicholas Thieberger, Keeping Track of Language Endangerment in Australia. In: Denis Cunningham et alia (eds.), Language Diversity in the Pacific: Endangerment and Survival. Clevedon 2006, pp. 54-84.
———, State of Indigenous Languages in Australia. Canberra 2001.
Mithun, Marianne, The Languages of Native North America. Cambridge 1999.
Pinker, S., The Language Instinct: How the Mind Creates Language. New York 1994.
Renfrew, C., Archaeology and Language: The Puzzle of indo-European Origins. Chicago 1987.
Robins, R. H., & Uhlenbeck, E. (eds.), Endangered Languages. Oxford 1991.
Sapir, E., Conceptual Categories in Primitive Languages. Science 74 (1931).
Sasse, H.-J., Theory of Language Death In: Brenzinger, M. (ed.), Language Death: Factual and Theoretical Explorations with Special Reference to East africa. Berlin 1992, pp. 7-30.
Schmidt, A., The Loss of Australia’s Aboriginal Language Heritage. Canberra 1990.
Schwartz, J., Speaking out and Saving Sounds to Keep Native Tongues Alive. Washington Post March 14th, 1994, p. A3.
Sebeok, Thomas (ed.), Linguistics in North America. Mouton 1976.
Skutnabb-Kangas, Tove, Linguistic Genocide in Education or Worldwide Diversity and Human Rights?. Mahwah, New Jersey 2000.
Wurm, S. A., Language Death and disappearance: Causes and Circumstances. In: Robins, R. H., & Uhlenbeck (eds.), Endangered Languages. oxford 1991, pp. 1-18.