مدخل لقراءة "كتاب الكليات في الطب" لابن رشد "
الدكتور سالم يفوت
مقدمة
طغت صورة ابن رشد الفيلسوف على باقي صوره الأخرى. وإذا كنا في مناسبة سابقة قد كشفنا الغطاء عن صورة العالم الفلكي لديه، المنشغل بقضايا علم الفلك في عصره، فإننا سنعمل في هذا البحث على إبراز جانب انشغاله بالطب وقضاياه النظرية الفلسفية والعلميّة.
فقد ترك الرجل عدة مؤلفات طبية هامة، أبرزها:
1 ـ كتاب الكليات في الطب([1])؛
2 ـ تلخيص كتاب الأسطقسات لجالينوس([2])؛
3 ـ شرح الأرجوزة المنسوبة إلى الشيخ الرئيس ابن سينا في الطب؛
4 ـ تلخيص كتاب القوى الطبيعية لجالينوس؛
5 ـ مقالة في المزاج.
وردت هذه العناوين ضمن لائحة طويلة ذكرها ابن أصيبعة في كتاب "عيون الأنباء في طبقات الأطباء"، وأوردها المستشرق ماكس مايرهوف(2).
ويتبين للمتمعن في اللائحة علو كعب الرجل في الطب، بالرغم من انصرافه شبه الكلي، طيلة حياته، للفلسفة بمعناها الحقيقي.
لن نهتم في هذه الدراسة بتلك المؤلفات، إذ سوف ينصرف اهتمامنا إلى واحد منها هو "كتاب الكليات" الذي يعد مصنفه الأساسيّ في الطب. فقد تناول فيه بالدرس الأصول النظرية الكلية لعلم الطب، تاركاً الدخول في الجزئيات والأمور التفصيلية لغيره من المصنفين في هذا العلم، والذين يطلق عليهم »أصحاب الكنانيش« ويعني بهم الذين يؤلفون في »الأمور الجزئية«. والمقصود بهذه الأخيرة الاهتمام بالأدوية والعلاجات الخاصة بكل مرض على حدة يصيب عضواً ما من الأعضاء([3]).
يندرج "كتاب الكليات"، إذن، ضمن التأليفات التي تتناول بالدراسة الجانب النظري من الطب قبل دراسة الجوانب العلمية العلاجية منه والاشتغال بها. وهنا تكمن أهمية هذا المؤلَّف الرشديّ؛ فقد صنِّف ودوِّن على طريقة غير مألوفة أثارت تخمينات الباحثين وتأويلاتهم. ولعل هذا ما يبرر سر اهتمامنا به، نحن أيضاً، ومحاولتنا وضع هذا المدخل لقراءته.
من "التيسير" إلى "الكليات"
في نهاية "كتاب الكليات"، ينبهنا أبو الوليد ابن رشد إلى أن مؤلَّفه هذا احتوى القول في معالجة جميع أصناف الأمراض »بأوجز ما أمكننا وأبينه«؛ وأن من المفروض أن يكون للكتاب ما بعده يحتوي القول في شفاء كل مرض من الأمراض على حدة، »وهي الطريقة التي سلكها أصحاب الكنانيش«. غير أن ابن رشد يرجئ هذا التأليف إلى وقت يكون فيه أشد فراغاً، نظراً لانشغاله بأشياء أخرى. وما يلبث أن يوصي قارئ "كتاب الكليات" الذي لديه رغبة في الاطلاع على الأمور والأقاويل الجزئية في الطب، بالرجوع إلى "كتاب التيسير" ([4]) الذي ألفه معاصره عبد الملك بن زهر (467 هـ/ 1072 م ـ 557 هـ/ 1162 م). ويبدو مما ورد على لسان ابن رشد أن الفضل يرجع إليه (أي إلى أبي الوليد) في استنساخ الكتاب أو نشره. رأيه هو: »كتاب الأقاويل الجزئية التي قيلت فيه شديدة المطابقة للأقاويل الكلية. إلا أنه شرح (مزج) هنالك مع العلاج العلامات وإعطاء الأسباب على عادة أصحاب الكنانيش«([5]).
لقد كانت بين صاحب "الكليات" وصاحب "التيسير" مودة تجلت في مستويات عديدة أبرزها المستوى العلمي. فبفضل أبي الوليد، انتشر "كتاب التيسير"؛ كما أن الكتابين يشكلان من الناحية العلمية كتاباً واحداً متكاملاً في صناعة الطب. ولا نتفق هنا مع ما يذهب إليه ابن أبي أصيبعة من أن أبا الوليد »لما ألف كتابه هذا ("الكليات") في الأمور الكلية قصد من ابن زهر أن يؤلف كتبااً في الأمور الجزئية لتكون جملة كتابيهما ككتاب كامل«([6]). فالقرائن التاريخية تعارض ذلك وتكذبه. ذلك أن ابن رشد يتحدث عن "كتاب التيسير" ويثني عليه في "كتاب الكليات"، أي أن الكتاب الأول سابق في الظهور. كما يبدو أن ابن رشد كتب "الكليات" بعد ظهور "التيسير" بسنتين، وإبان حياة صاحب هذا الأخير، مثلما يبدو من سياق نص ابن رشد في نهاية "الكليات". وبما أن ابن زهر توفي سنة 557 هـ/ 1162 م، فهذا يعني أن "الكليات" كتب قبل هذا التاريخ بكثير، وأن "التيسير" ألف قبل وفاة صاحبه على الأقل بثلاث أو أربع سنوات.
كما يبدو جليّاً من سياق أقوال ابن زهر في "التيسير" ([7]) بأنه كتب بأمر من الخليفة الموحدي عبد المومن بن علي.
تجدر الإشارة، من جهة أخرى، إلى أن "كتاب التيسير" لا يسلك طريقة أصحاب الكنانيش بحذافيرها، بل يتصرف فيها بعض التصرف: ولعل هذا ما عناه ابن رشد حينما استدرك في الأسطر الأخيرة من "الكليات" بأن ابن زهر مزج في كتابه »مع العلاج العلامات«. وهذا ما يؤكده ابن زهر نفسه في توطئة "التيسير" حيث الإشارة إلى أنه مزج فيه، مع ذلك، ما أمر به من اتباع »الطريق الكناشي« الذي ينسق الأمراض وسرد أدويتها معها ليسهل على من أمره بتأليف الكتاب تناولها ـ والذي هو طريق يصفه بأنه »مذموم« ـ »بسبل أخرى علمية وبأمور في الطب قياسية (...) ولم أقتصر فيه على مقتضى الأمر النافذ فيه فقط«([8]).
يتجلى واضحاً، إذن، من سياق هذا الكلام أن »الطريق الكناشي «أقل درجة من »الطريق الكلي«؛ إنه طريق لا يتعمق في البحث عن النظريات العلمية وبناء النتائج على أسبابها. ونسبة الأولى إلى الثانية كنسبة الفروع في الفقه إلى الأصول.
وهذا تقليد قديم في ميدان التصنيف الطبي. نعثر عليه لدى الأطباء اليونانيين. فجالينوس، على سبيل المثال، ينبه إلى أن غرضه في كتاب "الصناعة الصغيرة" ليس وصف »جميع الأشياء الجزئية«، بل ذكر جمل ما قد شرحه وبيَّنه في سائر كتبه. والمقصود بالأمور الجزئية ها هنا، ما يرد في كتب »الأدوية المفردة«، وهو يحيل على ما ألفه بهذا الصدد([9]).
وعلى ذكر كتاب جالينوس هذا، نشير إلى أنه دوَّن بطريقة لا تخلو من تشابه مع طريقة تدوين "كتاب الكليات"، إلى حد نستطيع معه القول إن بنية تدوينهما واحدة باعتبارهما يبحثان معاً في الأصول النظرية الكلية لعلم الطب.
لقد نحا جالينوس، في "الصناعة الصغيرة"، منحى منهجيّاً يقوم على »تحليل الحد«، »ولك أن تسمي هذا التعليم بدل تحليل الحد، شرح الحد«([10]).
ويعني الشرح، حسب سياق الكتاب، البسط والتفسير، بسط مفهوم الطب وتفسيره.
وهو يعرف هذا الأخير بأنه معرفة الأشياء المنسوبة بالصحة والمرض، والحال التي لم يخلص للإنسان فيها صحة ولا مرض([11]).
يقصد الطبيب معرفة أسباب الصحة وأسباب المرض، وأنواع العلامات: إذ منها ما يدل على الحال الحاضر ويسمى الدالة، وما يدل على المستقبل، مما سوف يقع، وتسمى المنذرة، أو يدل على ما مضى، وتسمى المذكِّرة. وأكبر حاجة الطبيب إنما تكون للعلامات الدالة على الحالة الحاضرة أو المقبلة.
تدل العلامات على حالة الأبدان وأعضائها. وهذا ما جعل جالينوس يفرد صفحات عديدة من كتابه للكلام عن الأعضاء.
يشكل ما ذكرناه، أعلاه، الترتيب المنطقيّ الناظم لفصول كتاب جالينوس "الصناعة الصغيرة" وفقراته.
ونستطيع الوقل إن "كتاب الكليات" لأبي الوليد بن رشد يندرج، بطبيعة موضوعه، ضمن هذا الصنف من التأليف. واستقراء الترتيب المنطقيّ الناظم لفصوله وفقراته يؤكد ذلك، مع بعض التصرف المتمثل في إضافة فصول أو التوسع في أخرى...
بنية تدوين "كتاب الكليات"
يحدد أبو الوليد غرضه، في هذا الكتاب، في أن يقدم في صناعة »جملة كافية، على جهة الإيجاز والاختصار، تكون كالمدخل لمن أحب أن يتقصى أجزاء الصناعة، وكالتذكرة أيضاً لمن نظر في الصناعة«([12]).
بيِّنٌ من هذا أن مرامي ابن رشد تتحدد في الرغبة في اقتراح مدخل نظريّ للطب. لأجل ذلك، قسم الكتاب إلى سبعة أجزاء أو كتب:
1 ـ كتاب التشريح؛ ذكر فيه أعضاء الإنسان البسيطة أو المركبة، المشاهدة بالحس؛
2 ـ كتاب الصحة؛ ويقصد بالصحة هنا، ما يطلق عليه اليوم: علم وظائف الأعضاء؛
3 ـ كتاب المرض وأنواعه وأعراضه؛
4 ـ كتاب علامات الصحة والمرض؛
5 ـ كتاب الآلات، أي الأغذية والأدوية؛
6 ـ كتاب حفظ الصحة ووجوهه؛
7 ـ كتاب الحيلة في إزالة المرض. والمقصود به علم المداواة وتدبير الأمراض.
ومن بين العلوم التي تتسلم منها صناعة الطب مبادئها علم نظريّ هو العلم الطبيعي، وصناعة عملية تجريبية هي صناعة الطب التجريبي، وصناعة التشريح.
بخصوص العلم الطبيعي يستفيد منه الطب في معرفة »أسباب الصحة والمرض، ولا سيما الأسباب القصوى كالأسطقسات وغيرها«([13]).
ولعل هذا هو السبب الذي جعل أبا الوليد يهتم بـ "كتاب الأسطقسات" لجالينوس ويقوم بتلخيصه في سياق اهتماماته الطبية. وقد جاء في "تلخيص" ابن رشد أن »من حق هذه الصناعة [الطب] أن تأخذها متسلمة من العلم الطبيعي«([14]). هذا هو السبب الذي جعله يهتم كذلك بـ "كتاب المزاج" لجالينوس ويلخص مقالاته الثلاث لأهمية ذلك في صناعة الطب.
أما صناعة الطب التجريبية، فإنها تفيد الطب في معرفة قوى أكثر الأدوية؛ فإن ما يعرف من ذلك بالطب أو »القياس« ـ كما يقول أبو الوليد ـ نزر يسير مقارنة بما يحتاج إليه من ذلك؛ »بل سبيل هذه الصناعة الطبية القياسية أن تعطي أسباب ما أوجدته الصناعة الطبية التجريبية«([15]).
أما صناعة التشريح، فإنها تفيد صناعة الطب والطبيب في معرفة أجزاء موضوعاته في بدن الإنسان.
وقد قسم تلك الأجزاء في الكتاب الأول، كتاب تشريح الأعضاء، إلى صنفين:
1 ـ »أحدهما الأعضاء المتشابهة الأجزاء، أعني التي حد الجزء والكل منها واحدن كاللحوم والعظم؛ فإن جزء اللحم لحم ضرورة وكذلك العظم«([16]).
2 ـ »والثاني الأعضاء المركبة، وهي التي ليس تشبه أجزاؤها بعضها بعضاً كاليد المركبة من لحم وعصب ووتر، والأعضاء البسيطة: عظام وعصاب ووتر وعروق ورباط ولحم (...)«([17]).
فصل أبو الوليد القول في العظام، ثم أردف ذلك بالقول في العروق والعصاب والرباطات والوتار والأخلاط والعضلات والرأس والعين والأذن واللسان والحلق والصدر والرئة والقلب والمعدة والمرئ والأمعاء والكبد والطحال والمرارة والكلي والمثانة والبطن والرحم والثدي والأنثيين.
سبق لنا أن أشرنا إلى أن أبا الوليد يعني بعلم الصحة ـ شأنه شأن الأطباء العرب القدامى ـ ما يعرف حالياً بعلم وظائف الأعضاء أو الفيسيولوجيا. وقد خصص لهذا المبحث الكتاب الثاني من "الكليات"، عرف فيه الصحة بأنها »حالة في العضو بها يفعل الفعل الذي له بالطبع، أو ينفعل الانفعال الذي له. وهذا الحد للصحة هو من الحدود الظاهرة بأنفسها«([18]). والسؤال الذي يطرح بهذا الخصوص هو: ما هذه الحال؟ وما أنواعها؟ وما الفعل الذي يخص كل عضو على حدة؟
تتطلب الإجابة عن هذه الأسئلة الاستنجاد بالعلم الطبيعي، وكتاب "الكون والفساد"، بالذات، لأرسطو، ففي هذا العلم أشياء »يصادر ها هنا عليها« تبينت بالبراهيم الخاصة والمناسبة([19]).
يتبين من العلم الطبيعي أن جميع الأجسام المتشابهة الأجزاء مركبة من الأسطقسات الأربعة التي هي: النار والهواء والأرض والماء. وتولد تلك الأجسام من هذه العناصر يكون بجهة الاختلاط والمزاج. وبهذا الصدد، يحيل أبو الوليد على المقالة الرابعة من كتاب "الآثار العلوية" لأرسطو حيث ورد أن الاختلاط والمزاج إنما يكون بالطبخ، وأن هذا الأخير إنما يكون بالحرارة، وأن فصول الأجسام المتشابهة الأجزاء إنما يكون بمقادير الحرارة والبرودة الموجودة فيها، وفي مقادير الرطوبة واليبوسة. ويستخلص من هذا أن صور الأجسام المتشابهة ليست شيئاً غير صور الامتزاج، وأن الأعراض الخاصة بكل صنف إنما توجد تابعة لمثل هذه الصور المزاجية([20]).
يستغل ابن رشد هذه المناسبة للتذكير بأن هذه المبادئ تتقرر في العلم الطبيعي بالبراهين الخاصة، والأطباء حينما يرومون الكلام فيها تكون أقاويلهم غير برهانية بل جدلية قد تترتب عليها أقاويل كاذبة. ويضرب المثال في هذا الصدد بالطبيب اليوناني جالينوس: فقد »عرض له هذا كثيراً في "كتاب المزاج"، فإن "كتاب المزاج" ليس يتبع التعليم فيه التعليم الواقع في "كتاب الأسطقسات" اتباعاً برهانياً«([21]).
ونجد بالفعل أن أبا الوليد، في تلخيصه لـ "كتاب المزاج" لجالينوس، ما يفتأ يقوم باستدراكات وملاحظات تصب جميعها في التأكيد بأن جالينوس كان يحيد أحياناً عن جادة الحق. يتعلق الأمر بالأقاويل ذات الصلة بالعلم الطبيعي([22])، خصوصاً في مسألة صورة الامتزاج وطبيعة الاعتدال في المزاج. ويؤكد هنا أن الاختلاط ضربان: ضرب تكون الأشياء المختلطة فيه متساوية المقادير، وهذا الاختلاط يسمى معتدلاً؛ وضرب ثان تكون مختلفة المقادير. »وهذا الاختلاف ضروب، وبضروب هذا الاختلاف اختلفت أمزجة الأنواع، فصار مزاج الفرس، مثلاً، إنما يخالف مزاج الإنسان، لأن مقادير الأسطقسات امتزجت فيه على نسبة مخالفة لنسبة امتزاج مقاديرها في الإنسان«([23]).
توجد اختلافات داخل النوع الواحد، وهي اختلافات في الدرجة؛ إلا أن لها حدوداً تمنع من تحول نوع إلى نوع، »إلا إذا فسدت صحة النوع«.
بعد ذلك، فصل أبو الوليد القول في منافع الأعضاء البسيطة وأعضاء الغذاء والتناسل وآلات القوى الحاسة كالسمع والشم، ومنافع أعضاء الحركة الإرادية وجهاز التنفس.
بعد تعريف الصحة، انتقل أبو الوليد في "كتاب المرض" إلى حد هذا الأخير معتبراً أن خده مفهوم من حد الصحة نظراً لتقابلهما: »ولما كانت الصحة هي حال في العضو بها يفعل الفعل الذي له بالطبع أو ينفعل الانفعال الذي له، لزم ضرورة أن يكون المرض حالة في العضو بها يفعل على غير المجرى الطبيعي أو ينفعل«([24]).
ويعني هذا، في سياق "كتاب الكليات"، أن أنواع المرض مفهومة من أنواع الصحة، فالأشياء لا تعرف إلا بأضدادها. ولما كانت الحال الصحية صنفين ـ إما مزاج، كما هو في الأعضاء المتشابهة الأجزاء؛ وإما تركيب، كما هو في الأعضاء الآلية ـ، كانت الأمراض صنفين: أمراض الأعضاء المتشابهة الأجزاء، وأمراض الأعضاء الآلية.
يكون العضو المتشابه سائراً على مجراه الطبيعي متى كانت مقادير الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة فيه مقادير معتدلة؛ ويكون مريضاً إذا خرج عن تلك المقادير. وتكون أصناف أراض الأعضاء المتشابهة الأجزاء ثمانية: إما حارة، وإما باردة رطبة، وإما باردة يابسة.
يؤكد ابن رشد أن هذه الأصناف من الأمراض لا توجد في الأعضاء المتشابهة الأجزاء فحسب، بل حتى في الأعضاء المركبة. ويدخل بعد ذلك في تفصيل كل صنف من أصناف الأمراض الثمانية.
ينتقل بعد ذلك إلى "كتاب العلامات"، ويقسمه إلى قسمين: قسم يقوم بتعداد العلامات الدالة على الصحة الموجودة بالفعل في البدن بأجمعه، وفي كل عضو على حدة؛ وقسم ثان يعرف فيه العلامات الدالة على الأمراض وأسبابها. وينقسم هذا القسم بدوره إلى أقسام: فالعلامات منها ما يدل على الأمراض الحاضرة، وهو الأكثر في صناعة الطب؛ ومنها ما يدل على ما سيحدث، وهي العلامات المنذرة؛ ومنها ما يدل على أمراض قد حدثت، وهذا النوع قليل النفع ـ في نظر ابن رشد ـ في هذه الصناعة([25]).
ثم انتقل من ذلك إلى حصر العلامات الدالة على مزاج كل عضو على حدة، وهو ما استغرق كل "كتاب العلامات".
في "كتاب الأدوية والأغذية"، أو "كتاب الآلات" كما يسميه أحياناً، يسعى أبو الوليد إلى أن يرسم أمرين:
ـ أولاً: الـدواء والغذاء، وذكر أفعـالـهما من حيث الكم والكيف، ومستويات تلك الأفعال وخواصها وطبائعها؛
ـ ثانياً: أفعال الأدوية وهل يمكن أن تدرك بالقول أو أن سبيل إدراكها إنما هي التجربة؟
وبعد الفراغ من ذلك، اهتم بذكر أهم الأدوية والأغذية وبقوانين تركيبها([26]).
عرف الدواء بأنه »هو الذي من شأنه أن تصيره الطباع جزءاً من المغتذة ليس هو بالنوع الجزء المتحلل، بل ذو حالة فعل وانفعال مغاير. ولذلك متى كان ورود هذه الحالة على حالة مرضية مضادة لها، سمي ذلك الفعل تداوياً ومداواة«([27]).
لأفعال الأدوية في البدن مستويات: هناك »أفعال أول«؛ هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، و »أفعال ثوان« هي مثل الإنضاج والتليين والتفتيح...؛ و»أفعال ثوالث« وهي التي تختص بأعضاء بعينها.
أما كيف تفعل الأدوية في الأبدان، فالجواب عنه يتطلب العودة إلى العلم الطبيعي حيث تبين أن الاغتذاء إنما يكون للأعضاء المتشابهة الأجزاء أولاً، »وذلك بأن يستحيل أولاً الغذاء على مراتبه، في الجسم المغتذي، إلى رطوبة شبيهة بالرطوبة المبثوثة في الأعضاء المتشابهة فتختلط بها على جهة ما تختلط الأشياء الرطبة بعضها ببعض«([28]).
وقد فصل القول في الأدوية الملينة والمصلبة والمغرية والمسددة والفتاحة والجلاءة والمخلخلة والمكثفة والموسعة للعروق والمنبتة للحم...
في "كتاب حفظ الصحة"، نبه أبو الوليد بن رشد إلى أن حفظ الصحة »هو أشرف الغايتين المطلوبتين بهذه الصناعة، وهو بالجملة ينقسم أولاً إلى قسمين: أحدهما يقال فيه: كيف تحفظ الصحة؟ والآخر: كيف تبطل الاستعدادات للأمراض المتكونة في الأبدان الصحيحة؟«([29]).
بَيِّنٌ أن هذا المبحث يوافق ما يدعى في الطب الحديث والمعاصر الطب الوقائي. يتأكد هذا من تشديد أبي الوليد على أن هذا الجزء كأنه وسط بين حفظ الصحة وإزالة الأمراض، »وهذه الصناعة إنما في قدرتها أن تحفظ أبداننا من الفساد الداخل عليها بالعرض«([30]).
وقد قام بحصر وتعداد الأسباب المدخلة للفساد بالعرض كتغير الأهوية، والرياضة غير الملائمة، والعوارض النفسانية كالغضب والفزع، »وبالجملة جميع الأشياء التي تكسب سوء المزاج المادي والغير المادي«([31]).
ما وجه الحيلة في إزالة الأمراض؟
هذا سؤال يجيب عليه أبو الوليد في الكتاب الأخير من "الكليات"، أي "كتاب شفاء الأمراض". »وهو يعتبر الأمراض حالات ليس طبيعية، تكون هي والأعراض صنفين تنقسم إليهما تلك الحالات، بالرغم من تبعية الأعراض للأمراض. وقد عرف وجوه الحيلة في إزالة الأمراض بحسب التصنيف الذي كان قد قدمه والذي تنقسم بحسبه الأمراض إلى صنفين: إما أمراض منسوبة أولاً إلى الأعضاء المتشابهة الأجزاء، وثانياً إلى المركبة، وتقابلها أصناف سوء المزاج الثمانية الآنفة الذكر؛ وإما أمراض منسوبة إلى الأعضاء الآلية«([32]).
خاتمة
تقدمت منا الإشارة آنفاً إلى نوعية »الطريق الكلي« الذي انتهجه ابن رشد في "كتاب الكليات"، وذكرنا أن نسبته إلى »الطريق الكناشي« كنسبة علم الأصول إلى علم الفروع. كما بينا أن »الطريق الكلي« يندرج ضمن تقليد قديم في مجال التأليف الطبي نصادفه لدى الأطباء اليونانيين القدامى، وعلى الخصوص منهم جالينوس في كتابه "الصناعة الصغيرة".
لكن ما نريد تأكيده، ها هنا، هو أن المقارنة بين "الكليات" و"الصناعة الصغيرة"، لا تكون صحيحة ووجيهة إلا في مستوى السطح والمظهر. صحيح أن اسم جالينوس ورد في "الكليات" اثنتين وثلاثين مرة، لكن هذا لا يبيح اعتبار جالينوس مرجع ابن رشد الطبيب. فهذا الأخير لا يقبل به إلا في حدود عدم مخالفته لما قال به المعلم الأول، ولما تؤيده التجربة. وهذا أمر لا يعمد إليه أبو الوليد في "الكليات" فحسب، بل حتى في تلخيصاته على جالينوس كـ "الأسطقسات" و"المزاج". فهذا الأخير وكذا "الكليات" مليئان بالاستدراكات والملاحظات التي غالباً ما يكون مرجعها ومنطلقها أرسطو أو تعاليم التجربة.
فقد سبق أن أشرنا بخصوص تسلم صناعة الطب مبادئها من العلم الطبيعي إلى أن أبا الوليد يحيل على كتابين لأرسطو هما: "الكون والفساد" و"الأثار العلوية"، مبرراً ذلك بأن تلك المبادئ تبينت في هذين الكتابين وغيرهما »بالأقاويل البرهانية« المناسبة، خلافاً لما يفعله الأطباء الذين لا يتكلمون في هذا الموضوع إلا بأقاويل غير مناسبة، أي »جدلية«. ولذلك كثيراً ما ترتب على أقاويلهم تلك »أقاويل كاذبة« مثلما عرض لجالينوس في "كتاب المزاج" غير ما مرة، حسب ابن رشد الذي يصل به الحد أحياناً إلى رمي جالينوس بالوهم([33]).
فبخصوص زعم جالينوس أن لمنيّ المرأة دوراً في تكوين الجنين والولادة، يدحضه أبو الوليد احتكاماً إلى رأي أرسطو أولاً الذي أكد أن المرأة قد تحمل دون أن يحدث منها إنزال، ثم إلى التجربة ثانياً والتي قامت على أساس توجيه ابن رشد السؤال إلى عدة نساء فأكدن أن إنزال المرأة أو عدم إنزالها لا دخل له في الحمل ([34]).
رغبتان، إذن، حكمتا الموقف الطبي الرشديّ في هذا الكتاب وغيره من مؤلفاته الطبية: الرغبة في التمسك بالبرهان ممثلاً في أرسطو ـ الأصل الخالي من الشوائب، وبالمنظومة العلمية الأرسطية؛ والرغبة في الوفاء لجوهر الصناعة الطبية والذي يظل بالرغم من كل شيء، ممثلاً في التجربة والاختبار. وإلى هذا العنصر يعود سر أعجاب أبي الوليد بكتاب "التيسير" لأبي مروان بن زهر، لأن صاحبه دخل ميدان الطب من باب الطب وليس من الفلسفة، لذا كان كتابه كتاباً يستحق أن يوصي به في الأمور الجزئية.
([1]) حقق هذا الكتاب ثلاث مرات، فيما أعلم:
ـ حققه أول الأمر الأستاذ أحمد فؤاد الأهواني ونشر بالقاهرة سنة 1947؛
ـ ثم حققه العالمان المستشرقان الإسبانيان: فورنياس والبازيت دي موراليس وأصدراه عن مدرسة الدراسات العربية في غرناطة والمجلس الأعلى للبحوث العلمية بمدريد، 1987؛
ـ كما حققه الأستاذان سعيد شيبان وعمار الطالبي، ونشره المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة، 1989.
وتعتمد دراستنا على هاتين الطبعتين الأخيرتين.
([2]) ابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ج 3، صص. 125 ـ 126، بيروت، 1957؛ ماكس مايرهوف، العلم والطب، ضمن تراث الإسلام، ترجمة ج. فتح الله، بيروت، 1972، ص. 286. والأصح أن ابن رشد لخص ثلاث مقالات من "كتاب المزاج" لجالينوس.
([3]) عيون الأنباء، مصدر مذكور، ج 3، ص. 123؛ ابن رشد، كتاب الكليات، القاهرة، 1989، ص. 422؛ مدريد، صص. 517 ـ 518.
([4]) أبو مروان عبد الملك بن زهر، التيسير في المداواة والتدبير، تحقيق محمد بن عبد الله الروداني، الرباط، 1991.
([5]) ابن رشد، كتاب الكليات في الطب، مصدر مذكور، الصفحة نفسها.
([6]) عيون الأنباء، ج 3، القسم الثاني، ص. 122؛ وL. Leclerc, Histoire de la médecine arabe, Paris, 1876, Vol. 1. p. 104.
([7]) ابن زهر، التيسير، مصدر مذكور، ص. 37.
([8]) المصدر نفسه، ص. 35.
([9]) جالينوس، الصناعة الصغيرة، ترجمة حنين بن إسحق، تحقيق محمد سليم سالم، القاهرة، 1988، صص. 181 ـ 182.
([10]) المصدر نفسه، صص. 2 ـ 3.
([11]) المصدر نفسه، ص. 7.
([12]) ابن رشد، الكليات، القاهرة، ص. 19؛ مدريد، ص. 1.
([13]) الكليات، القاهرة، ص. 20؛ مدريد، ص. 3.
([14]) ابن رشد، تلخيص أسطقسات جالينوس، تحقيق ك. ب. دبينتو، مدريد، 1984، ص. 9.
([15]) الكليات، القاهرة، ص. 21؛ مدريد، ص. 3.
([16]) الكليات، القاهرة، ص. 23؛ مدريد، ص. 6.
([17]) المصدر نفسه.
([18]) الكليات، القاهرة، ص. 43؛ مدريد، ص. 37.
([19]) الكليات، القاهرة، ص. 43؛ مدريد، ص. 38.
([20]) الكليات، القاهرة، ص. 42؛ مدريد، ص. 38.
([21]) الكليات، القاهرة، ص. 44؛ مدريد، ص. 39. لم يرد فيها هذا النص.
([22]) الكليات، القاهرة، ص 42؛ مدريد، ص. 104.
([23]) الكليات، القاهرة، ص. 44؛ مدريد، ص. 39.
([24]) الكليات، القاهرة، ص. 93؛ مدريد، ص. 104.
([25]) الكليات، القاهرة، ص. 151؛ مدريد، ص. 190.
([26]) الكليات، القاهرة، ص. 215؛ مدريد، ص. 278.
([27]) المصدر نفسه.
([28]) الكليات، القاهرة، ص. 216؛ مدريد، ص. 279.
([29]) الكليات، القاهرة، ص. 315؛ مدريد، ص. 394.
([30]) المصدر نفسه.
([31]) الكليات، القاهرة، ص. 316؛ مدريد، ص. 395.
([32]) الكليات، القاهرة، ص. 341؛ مدريد، ص. 422.
([33])
([34])