تجربة “الدنان” في إكساب الطفل الفصحى بالفطرة قد تكون الحلّ - ا. د. حسيب شحادة
صاحبُ هذه التجربة الرائدة في عدة بلدان عربية كالسعودية والكويت وسوريا والبحرين والأردن ولبنان ودبي والإمارات العربية المتحدة
و 05 ?صر هو الدكتور الفلسطيني )صفد 1931( عبد الله مصطفى الدنان، المقيم في سوريا. الدنان مُجاز في الأدب الإنجليزي من جامعة دمشق وحاصل على الماجستير في التربية! من جامعة ل06 ?دن وحائز على شهادة الدكتوراة في اللغويات التطبيقية من جامعة لندن أيضا. مارس رسالة التربية والتعليم في مختلف المؤسسات التعليمية أكثر من نصف قرن ول ?ه بحوث لغوية ونتاج روائي وشعري وقصصي، وتحمل سلسلة قصصه للأطفال الاسم “الحيوانات تفكر”. وهو المقتنع بأن الفشل في تعليم العربية الفصيحة لا ينبع من 589 ?عوبتها بل من مناهج تدريسها، واسمه مقرون بالبرنامج التلفزيوني المعروف “افتح يا سمسم”.
بدأ تطبيق نظريته هذه، نظرية إكساب الطفل العربية الأدبية بالفطرة والممارسة، على ولديه في البيت وقد ملكا ناصيتها وهما يافعان. تستند رؤية الدنان في 78 ?عليم العربية الفصحى للطفل إلى الحقيقة العلمية القائلة إن للأطفال حتى سن السادسة قدرة فطرية ضخمة لاكتساب المهارات اللغوية. كشف علماء لغة معروفون ! منذ نصف قر6 ? مثل تشومسكي وإرفن ولينبرغ عن تلك الطاقة الخلاقة في دماغ الطفل في تعلم اللغات وإماطة اللثام عن المنظومة القواعدية بشكل ذاتي داخلي ومعقد. دعا نوعم ت ?شومسكي هذه الطاقة الفطرية أو النظام في المخ باسم Language Acquisition Device , LAD، وفي مقدور الطفل إجادة لغتين أو أكثر في آن واحد إذا ما تواجد في ظروف طبيعية لاستعمال هذه اللغ� 5 ?ت. يقوم الطفل كلغوي صغير باستخدام غير متناه لوسائل متناهية كما قال ولهلم هومبولدت. ومن المعروف أن هناك خصائص عديدة مشتركة في كافة اللغات البشرية وهذا ما يدعى 1576 ?القواعد العالمية Universal Grammar. ويتمتع الطفل بقدرة خارقة في تمييز أصوات الكلام وفونيمات مختلفة في جميع اللغات. وفي المخ البشري منطقتان خاصّتان بالكلام، منŸ 1 ?قة بروكا )P. Broca, 1824-1880( المتحكمة بانتاج الكلام والاستماع والقراءة والكتابة وهي لدى قرابة 95% من الناس موجودة في الفص الأيسر من المخ. والمنطقة الثانية، فيرنيك )C. Wernike, 1848-1904( تعنى بفه ?م الكلام وتفسيره وتحليله. ومن الممكن لطفل في السادسة من عمره أن يحصل على ثروة لغوية تضم خمسة عشر ألف كلمة، بواقع تسع-عشر كلمات يوميا.
وهناك خمس مراحل أساسية في اكتساب اللغة: الهديل في عمر ستة أشهر؛ إصدار أصوات مختلفة في عمر تسعة شهور؛ تفوهات بكلمة مفردة في عمر سنة؛ كلام برقي، بضع كل! مات مفككة، بدون روابط، ابن حوالي عامين؛ كلام عادي في جيل خمس-ست سنوات. ثلاثة أرباع لغات العالم تسير وفق النظام النحوي SVO أي فاعل/مبتدأ ففعل فمفعول به و 575 ?للغات الباقية منها ما يسير وفق SOV، ومنها ما ينهج نهج VSO أو VOS، أما OSV فنادر جدا. وهناك تقسيمات أخرى للغات العالم منها التقسيم الثلاثي: لغات متصرفة؛ لغات لصقية أو وصلية u1563 ? لغات غير متصرفة. وكان جيروم برونر قد أضاف على نظرية تشومسكي المذكورة “العامل المساعد” وهو حيثيات اكتساب الطفل للغة Language Acquisition Support System, LASS، ثم بعد ذلك أشار مثلا ج 608 ?ن ماكنمارا إلى وجود قدرة فطرية لدى الطفل للتعبير عن أوضاع مجتمعية. يمكن تشبيه عملية اكتساب اللغة أي التحدث بها بعملية المشي لا بعملية القراءة.
وقد أشار لينبرغ إلى أن هذه القدرة اللغوية الفطرية تأخذ بالضمور والانحسار بعد السن السادسة وتتلاشى قريبا من سنّ البلوغ، حيث تأتي مرحلة منصبّة بمعŸ 2 ?مها على اكتساب المعرفة. بعبارة أخرى، بعد عمر الست سنين يحتاج الطفل لبذل جهد ملحوظ في عملية تعلم اللغة وغالبا ما تكون عبر برامج دراسية منتظمة وطويلة ?. ويطلق عاد
u1577 ? على اللغة التي اكتسبها الطفل في السنوات الست الأولى بـ”لغة الأم” ويتم هذا التحصيل العفوي دون لأي أو تعب بعكس ما يحصل بعد هذه السن. وللغة الأولى تأ 579 ?ير سلبي في مرحلة تعلم اللغات الأخرى نحوا وصرفا. صفوة القول، لغة الأم لدى كل عربي هي لهجة معينة وما أكثر هذه اللهجات في عالمنا العربي، أما الفصحى فلي 1587 ?ت لغة أم أ¡ ? عربي بالمعنى المتعارف عليه لهذا المصطلح.
واقع التلميذ العربي على ضوء هذا الأساس العلمي النظري لافت حقا للانتباه والتفكير. يلتحق هذا التلميذ بالصف الأول بعد إتقانه للهجته الخاصة بأهله وب 5 ?كان سكناه إلا أن هذه اللهجة ليست وسيلة لاكتساب العلم والمعرفة وفق المناهج التعليمية الرسمية وينبغي عليه تعلم لغة تختلف كثيرا عن لهجته تلك، العرب u1610 ?ة الفصيحة?. وضعُ هذا التلميد صعب، إنه معاكس لطبيعة الخلق، قدرته الدماغية لتعلم اللغات آخذة بالتناقص زد إلى ذلك الحاجة الملحة لاكتساب أصناف مختلفة من المعرف 1577 ? في مواضيع كثيرة كالحساب والطبيعة والدين والموسيقى والرسم. بعبارة موجزة على ابن العرب أن يتعلم المعرفة ووسيلتها، اللغة، في آن واحد في حين أن أطفا 04 ? الشعوب الآخرى يكرّسون اهتمامهم الرئيس في تحصيل العلم والمعرفة. وقد قيل “إن التلميذ العربي يشبه الصياد الذي ذهب إلى البحر ونسي شبكة الصيد”. وهذا الازدواج ا 4 ?لغوي العميق، اللغة المكتوبة واللغة المنطوقة يرافق الانسان العربي وينغّص حياته التعليمية فترة طويلة من عمره وقلما تغدو الفصحى لغة أم، بعد هياض و 1605 ?ياض. اللهج?ة تستخدم لغة تواصل وشرح للمادة التدريسية ويُلجأ للفصحى عند القراءة والكتابة. يشرح المعلم المواد التدريسية بالعامية لأنه أولا وفي الغالب الأعمّ 04 ?ا يتقن اللغة الفصيحة وثانيا بغية إيصال المعرفة للتلميذ الذي لا يعرف الفصحى أيضا، ويتخبط التلميذ بين محاولة فهم المادة من جهة والقدرة على التعبير! عن ذلك بال01 ?صحى، كما يطلب منه من جهة أخرى، وكثيرا ما ينتج عن مثل هذه الظروف الضاغطة والمحبطة حفظ المادة عن ظهر قلب )بصم( دون فهم قسم كبير منها. يعاني الطفل العربي م ?ن صعوبة في فهم المادة بسبب اللغة ومن صعوبة في التعبير عن هذا الفهم الجزئي وغالبا ما يولي طريقة التعبير أهمية كبرى على حساب المضمون ومن الأقوال الشا! ئعة أنه عل9 ? العربي الفهم أولا ليقرأ بشكل سليم ثانيا بعكس معظم شعوب العالم. وهذه العلاقة غير الودية ما بين التلميذ منذ نعومة أظفاره والكتاب أي اللغة المكتوبة، ? تنمو وتتفاقم لتصل إلى ما نلمسه بأم أعيننا في يومنا هذا، أمة إقرأ لا تقرأ وإن قرأت فبالأذنين. ومن البدهي أن حفظ المادة غير المقرون بالفهم والتفكيك وا ?لتحليل لا 610 ?تمخّض عنه نمو منطقي ومعرفي واسع وعميق ومستديم، لا تذويت معرفي. وهناك بعض البحوث التي تربط ما بين الضعف العام في الرياضيات وضعف الطلبة في اللغة الع 85 ?بية الفصحى. بعبارة قصيرة، فهم المقروء معضلة تربوية جوهرية يعاني منها الطالب العربي حتى بعد المرحلة الثانوية ولا بد من بحث هذه النقطة بشكل شامل ودو ?ري والعمل 593 ?لى إيجاد الحلول الناجعة للقضاء على هذه الظاهرة المؤرقة.
على ضوء هذا يرى الدكتور الدنان ضرورة استغلال القدرة الفطرية الطفلية في اكتساب العربية الفصحى قبل سن السادسة )ينظر في كتابه: برنامج تعليم المحادثة 576 ?اللغة العربية الفصحى. القاهرة 2006(. وكان الدنان قد قام بهذه التجربة الرائدة على ابنه البكر “باسل” عندما كان ابن أربعة أشهر في بدايات العام 1978، أي مخاطب 78 ?ه بالعربي
u1577 ? الفصيحة المشكولة أواخرها أيضا في حين تحدثت الوالدة إليه بالعامية الدمشقية، لكل شخص مقال. ولوحظ أن الابن بدأ بالاستجابة للكلام الفصيح فهما عندما ? بلغ عمره عشرة أشهر. ولدى الوالد اثنا عشر شريطا مسجلا. في سن الثالثة كان باسل قادرا على التواصل بالفصحى دون أخطاء وهناك شريط فيديو يؤرخ لهذه الفئة ال 93 ?مرية وفي مرحلة الصف الثاني كان باسل قد قرأ ثلاثمائة وخمسين كتابا طفليا. واستمر الدكتور الدنان بتجربته اللغوية الجريئة هذه مع ابنته “لونه” التي تصغر أخاها ب ?أربعة أعوام وتكللت التجربة هذه بالنجاح أيضا. هؤلاء الثلاثة يتحادثون مع بعضهم بالفصحى أما مع الآخرين فيستعملون العامية. تجربة الدنان هذه تذكّرني 1576 ?ما قام به � ?لمحيي الرئيس للغة العبرية الحديثة إليعزر بن يهودا )1858-1922( في أواخر القرن التاسع عشر في فلسطين مع ابنه “إيتمار” )كان اسمه أولا بن صهيون، 1882-1943( المعروف باللق 76 ? “الولد العبري الأول”، تكلم بالعبرية الحديثة بعد أن كانت لغة مكتوبة )ميتة( مدة سبعة عشر قرنا من الزمان. وإيتمار المقدسي المولد كان نشيطا في الحركة � 5 ?لصهيونية 608 ?زاول مهنة الصحافة وكان له الفضل في صياغة كلمات عبرية جديدة مثل ما معناه بالعربية: استقلال، سيارة، صحفي، لاسلكي، سياسي، مظلة/شمسية، سابقة.
يتكون برنامج الدنان لتدريب المعلمين والمعلمات للتحدث بالفصحى من عشرة محاور تشمل مختلف الأنشطة والمواقف الحيوية داخل الصف وخارجه وتستغرق مدة ال! تدريب ثلاثين ساعة فقط موزعة على خمسة عشر يوما. يبدو لي أن إعداد جيّد لمدرسي الفصحى يحتاج إلى وقت أطول أولاً وإلى لقاءات دورية منتظمة للتقييم والتطو u1610 ?ر والاستف?ادة من التغذية الراجعة ثانيا.
أسّس الدنان “دار الحضانة العربية” بالكويت في أواخر الثمانينيات من القرن العشرين ثم “روضة الأزهار العربية” بدمشق عام 1992 ولغة التواصل ما بين المعل ?مات والأطفال هي الفصحى. وتشير التقارير التي أعدها باحثون ومربّون من أقطار عربية كمصر والمغرب والأردن وأخرى أجنبية كالولايات المتحدة وإنجلترا إ 04 ?ى نجاح هذه التجربة نجاحا باهرا وتنادي بتشجيع تعميم الفكرة. ثمرة هذا الجهد الدؤوب تظهر في أشرطة فيديو وقد حصل الدنان على ثلاث جوائز ذهبية في أواخر التسعينيات 1605 ?ن القرن الماضي من اللجنة العلمية السورية لتقويم المبدعين وقامت روضات أخرى في دمشق باتباع نفس النهج.
لا ريب أن اتقان العربية الفصيحة في المرحلة الابتدائية يحمل في طياته جوانب إيجابية عديدة مثل تقليص عدد حصص العربية وتخصيص هذا الوقت واستغلاله لتع 4 ?يم مواد أخرى كالرياضيات والحاسوب واللغة الأجنبية والعلوم، خلق علاقة محبة وطيدة بين الجيل الناشىء ولغته، عنوان هويته وثقافته، تعلم ذاتي متقدم و 581 ?ب المطالعة وتكوين الذوق الأدبي ورعايته وتسريع عملية اكتساب العلم والمعرفة وتذويتهما.
للمرحلة الابتدائية أهمية قوى في إكساب فلذات أكبادنا ناصية اللغة العربية، العروة الوثقى بين العرب، فهي موحِّدة واللهجات القطرية مفرِّقة. واللغة! أهم مشكل فلسفي فهي صورة من الوعي التفكيري وتحقق إنسانية الإنسان.ومن المعروف أن الأسلوب التواصلي الوظيفي هو الأنسب والأحدث في تعلم اللغات ويدعى ه 584 ?ا النمط من التعليم بما يمكن تعريبه بـ”الاستغراق” أو “التالتغغطيس” اللغوي، استخدام لغة الهدف على الدوام ومع الجميع وفي كل الظروف والحيثيات داخل الصف وخا 1585 ?جه طيلة الدوام المدرسي الرسمي. بعبارة واحدة ربط اللغة بالواقع المعاش بكل تجلياته. “السماع أبو الملكات اللسانية” كما قال عالم الاجتماع الفذّ عبد! الرحمن اب6 ? خلدون قبل زهاء ستة قرون من الزمان.
يولد الطفل ولديه، كما أسلفنا، القدرة العقلية الهائلة لبرمجة داخلية لقواعد اللغة أو اللغات التي يسمعها مرارا وتكرارا، وهذا يذكّرنى كيف أن ابني ال ?بكر وهو في سنيه الأولى صاغ الفعل “أوكُل” كفعل أمر من الفعل “أكل” غير العادي في تصريفه ومن يبحث في “الكتاب” لسيبويه يجد هذه الصيغة في ذلك الزمن ال 94 ?ابر، القر
u1606 ? الثامن للميلاد. عبر ما يمكن تسميته عملية التقليد والخطأ والتصحيح والغربلة الداخلية لدى الطفل تُكتسب اللغة دون التفكير بالفاعل والمفعول والجار! والمجرور والناصب والمنصوب والعلة والعامل الخ. هذا يشبه ما رواه الأصمعي عن جارية سمعها تقول وهي تحمل قربة ماء ثقيلة: “يا أبتِ أدرك فاها قد غلبني فوه 75 ? لا طاقة لي بفيها”. إذا صدقت هذه الرواية )فيها تصنع( فإنها تشير بجلاء إلى ما يعرف بالسليقة اللغوية وما أحوجنا إليها في هذا العصر المعلوماتي المعولم والكاسح. وه 06 ?اك عامل ديني تشجيعي لتعلم العربية وتعليمها كما قال الخليفة عمر بن الخطاب “تعلموا العربية فإنها من الدين”. من لا يسيطر على هذه العربية يكون بمثابة! فرع مقطوع 05 ?ن شجرة وارفة وجذورها ضاربة في عمق التاريخ، إنه محروم من التواصل المباشر بالتراث العربي منذ عصر الجاهلية ولغاية هذا اليوم. وقد يذكر البعض ما قاله ط 07 ? حسين في هذا الصدد “إن المثقفين العرب الذين لم يتقنوا معرفة لغتهم، ليسوا ناقصي الثقافة فحسب، بل في رجولتهم نقص كبير ومهين أيضا”.