متى ما اختلف مظهر المرء عن جوهره، وقولُه عن فِعْله، وسِرُّه عن علانيته، دخل في دائرة النِّفاق، سواء كان نفاقه هذا نفاقًا شرعيًّا أو اجتماعيًّا، قال ابن مسعود - رضي الله عنه - : "إن الناس قد أحسنوا القول؛ فمَن وافق قوله فِعْله فذاك الذي أصاب حَظَّه، ومن خالف قوله فعله فذلك الذي يُوبِّخ نفسه"، وقيل لابن عمر: "إنا ندخل على أمرائنا فنقول القول، فإذا خرجنا قُلنا غيره"، قال: "كنا نَعُدُّ ذلك على عهد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من النِّفاق".
المنافق إنسان مُبهرَج من خارجه، ملوَّث من داخله، يخدع النـــــــاس بِحُلو الكلام، والتَّلاعب بالألوان وارتداء الأقنعة، وقد قــــــــــــــال عنهم ربُّ العــــــــــزة والجلال: ﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [التوبة: 67]، وقال أيضًا: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾[المنافقون: 4]، وصدق النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حين قال: ((مثَلُ المنافق كمثل الشَّاة العائِرَة بين الغنَمَين، تَعِير إلى هذه مرَّة، وإلى هذه مرة))؛ رواه مسلم.
المنافقون هم شِرار الخَلْق على الإطلاق كما وصَفَهم الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم – بذلك؛ فعَنْ أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((تَجِدون الناس معادن، خيارُهم في الجاهليَّة خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وتجدون خير الناس في هذا الشأن أشَدَّهم له كراهية، وتجدون شرَّ الناس ذا الوَجْهَين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، ويأتي هؤلاء بوجه))؛ متَّفَق عليه.
وقال الغزالي: "ذو اللسانين مَن يتردَّد بين متعادِيَيْن، ويكلِّم كُلاًّ بما يوافقه، وقلَّ من يتردَّد بين متعاديين إلا وهو بهذه الصِّفة، وهذا عين النِّفاق".
ولأنَّ أكثر الناس يحكمون على الناس من مظاهرهم، وهَيْهات أن يكون الحاكمون على المظاهر عُدولاً؛ فإنَّه من السهل الوقوعُ في مصايد هؤلاء المنافقين، إلاَّ مَن رحم الله ممن متَّعه الله بفراسة قويَّة وحدْسٍ عالٍ، وأسأل الله أن تكوني كذلك، فالمؤمن كَيِّس فَطِن، ليس بالخبِّ - المخادع - ولكن الخبَّ لا يخدعه.
التعامل مع المنافقين اجتماعيًّا:
أوَّلاً: عند التعامل مع المنافق اجتماعيًّا لا بُدَّ من وضع بعض الأمور في الحسبان، مثل سُلْطته الإدارية والعائلية، ومُيوله العدوانية، ومَدى الشعور الذي نحمله تُجاهَهم؛ حُبًّا أو كراهية؛ لأنَّه من الصَّعب أن نُعامِل مُنافِقًا اجتماعيًّا في منصب مدير بالطَّريقة نفسها كما لو كان زميلاً في العمل، كما أنَّ المنافق الذي يُظْهِر ميولاً عدوانية لا يُعامَل بنفس الطريقة التي يعامل بها منافقٌ يتحلَّى بالهدوء... وهكذا؛ لأنَّنا في آخِر الأمر لا نريد أن نتضرَّر نفسيًّا، وفوق ذلك نخسر وظائفنا أو حقوقنا أو مناصبنا، أو نتضرَّر بدَنِيًّا جَرَّاء التعامل مع أمثال هؤلاء الأشرار!
ثانيًا: استخدام أسلوب الانتباه الصَّامت والابتسامة الرَّصينة عند الإِصْغاء لأحاديثهم، دون إبداء أيِّ تفاعل حقيقي بالضَّحك والانبساط مع ما يقولونه من حكايات مُلَفَّقة ومدائح كاذبة.
ثالثًا: يجب أن تُشعري المنافِقَ الذي يُحدِّثك بأنكِ تعرفين أنه شخص منافق يَسُلُّ السَّيف من الخلف، بإظهار مدى استهجانكِ واستيائك من تصرُّفاته التي يقدِّمها من خلال تعابير وجهكِ ونَبْرة صوتك ونظرات عينيكِ، وإيَّاكِ أن تُقابلي النِّفاق بالمجاملة والمحاباة والتَّودُّد!
رابعًا: إذا تمَكَّنْتِ من كشف قناع المنافق عن وجهه، واستطعتِ تصيُّد تناقضاته، وكان شخصًا لا ضرر من مواجهته بنفاقه - فعليكِ مواجهتَه ومطالبته بتفسير تصرُّفاته وأكاذيبه، وحتى لو أنكر يكفي أن يعرف أنكِ لستِ صيدًا سهلاً لنِفاقه!
خامسًا: إن كان هناك مجال لتفادي الجلوس مع هؤلاء المنافقين، فمن الخير لكِ مغادرة هذا المكان الذي يجمعكِ بهم، فقد قال عطاءٌ عند تفسير قوله تعالى: ﴿ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ﴾ [التوبة: 73]: "نسَخَتْ هذه الآيةُ كلَّ شيء من العفو والصَّفح".
سادسًا: لقد فضح الله المنافقين في القرآن في أكثرَ مِن موضع، وأنزل فيهم سورة كاملةً باسْمِهم؛ ولذلك فإنَّ فضح أمثال هؤلاء - بغْيَة رَدْعهم والتحذير منهم - هو أمر غير مخالِف للشَّرع، وحتى لو كذَّبكِ الناس لقلَّة خبرتهم في التعامل مع الناس، فليس هذا بالأمر المهمِّ، بل المهمُّ التحذير والتبليغ وأداء الرِّسالة، كفانا الله شرَّهم.
سابعًا: الاستعانة بالله والتحصين، والاستعاذة بالله من شرورهم؛ ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ﴾ [الزمر: 36]؟! بلى، ونِعْم الحافظ الله.