السبب التقليدي لطاعة الدولة هو الخضوع الشخصي للسلطان أو الحاكم. نمت الدول الأوروبية على مخلفات النظام الإقطاعي إذ أن أراضيها كانت مقاطعات يمتلكها سادة الإقطاع. اندثر مصدر هذه الطاعة التقليدية وربما لم يبق له وجود إلا في اليابان وإلى درجة ما في روسيا.
لكن لا يزال الإحساس القبلي، أو العصبية، الذي كان دائما أساس طاعة الحاكم، قويا وهو يشكل الآن الدعامة الأولى لسلطة الدولة. يجد كل إنسان تقريبا أن من الضروري لشعوره بالسعادة أن يكون عضوا في جماعة تحركها صداقات وعداءات مشتركة وتتلاحم سوية في الدفاع وفي الهجوم. ولكن هناك نوعان من هذه الجماعات التي هي مكبرات عن العائلة، والجماعات التي تبنى على هدف مشترك مدروس. ترجع الأمم إلى الفئة الأولى والكنائس إلى الفئة الثانية. فعندما تهيج الناس عقائد دينية، فغالبا ما تتبخر الفوارق القومية، كما حصل في الحروب الدينية بعد حركة الإصلاح. في هذه الحالة تصبح العقيدة الدينية رابطا أقوى من الوطنية المشتركة. مع قدوم الاشتراكية إلى العالم المعاصر، حصل وضع كهذا، ولكن إلى درجة أقل. ففي الناس الذين لا يؤمنون بالملكية الخاصة بل يشعرون أن الرأسمالي هو عدوهم الحقيقي رابطة تعلو على الفوارق القومية. لم يظهر بعد ما إذا كانت تلك الرابطة هي من القوة بحيث تستطيع مقاومة الميول التي تغذي الحرب الحاضرة، ولكن ما ظهر منها يدل على أنها جعلت ميول الاشتراكيين إلى الحرب أقل حدة من غيرهم وبهذا أحيت الأمل بإعادة بناء مجتمع أوروبي بعد انتهاء الحرب. لكن الرفض الشامل، بوجه عام، لكل العقائد الدينية ترك الشعور القبلي منتصرا والشعور القومي أقوى مما كان في أي حقبة من التاريخ. لقد أنِس بعض المسيحيين المخلصين والاشتراكيين الصادقين قوة في معتقداتهم، قادرة على مقاومة هجمات الشعور القومي ولكنهم كانوا قلة ضئيلة لم تستطع تغيير مجرى الحوادث أو تسبيب قلق فعلي للحكومات.
يولد الشعور العصبي الوحدة في الأمة بشكل رئيسي، ولكنه لا يولد قوتها بمفرده. تتولد قوة الأمة بشكل رئيسي من تخوفين اثنين من دون أن يكون أيهما بعيدا عن العقل: أولا الخوف من تفشي الجريمة والفوضى في الداخل، وثانيا الخوف من الاعتداء الخارجي.
إن الاستقرار الداخلي في مجتمع متحضر هو إنجاز كبير والدولة هي المسؤول الأول عن إيجاده. كم هو مزعج أن يجد المواطنون الآمنون أنفسهم في حالة دائمة من الخوف والجزع على ممتلكاتهم وأرواحهم؟ إذا ما جهز هواة المغامرات جيوشا خاصة للنهب والسرقة، أصبح الأمل بحياة راقية مستحيلا. لقد ولت ظروف هذه المغامرات مع القرون الوسطى وما كان مضيها بغير مقاومة شرسة. ولا يزال الاعتقاد شائعا حتى الآن، وخاصة بين الأثرياء الذين يستفيدون أكثر ما يمكن تحت ظل النظام والقانون، ان أي انخفاض في سلطة الدولة يقود إلى فوضى عامة. فينظرون إلى الاضطرابات كأنها طلائع الفتك الاجتماعي وترتعد فرائصهم لرؤية منظمات مثل الفيدرالية العامة للعمل (Confederation Generale du Travail) والاتحاد العالمي للعمال (International Workers of the World) يتذكر أصحاب ذلك الاعتقاد الثورة الفرنسية فيرتعدون ويتلمسون رؤوسهم إذ أنها الشيء الوحيد الذي يرغبون في المحافظة عليه. يرهبون بشكل خاص كل نظرية يبدو أنها تجد عذرا للجرائم الخاصة كأعمال التخريب (sabotage) والاغتيال السياسي. لا يجدون حماية من هذه المخاطر إلا في قوة الدولة ولهذا يعتقدون أن كل مقاومة للدولة هي شر بحد ذاتها.
يزيد الخوف من الاعتداء الخارجي الخوف من خطر داخلي. كل دولة هي معرضة في كل وقت لخطر الغزو من الخارج. لم تبتدع حتى الآن أي وسيلة لتخفيف ذلك الخطر سوى وسيلة التسابق في التسلح. ولكن السلاح الذي يراد به دفع الغزو الخارجي هو نفس السلاح الذي يمكن أن يستخدم للغزو. هكذا نجد الوسيلة التي يمكن أن تزيل الخوف من الغزو الخارجي هي ذات الوسيلة التي يمكنها أن تزكيه وبالتالي تجعل الحرب إذا ما وقعت بالفعل ذات مفعول هدام. وبهذا تنزل بالناس حالة من الرعب وتأخذ الدولة في كل مكان صفة المجالس الثورية (Comité du Salvt Public).
إن الشعور الذي تنمو منه الدولة هو شعور طبيعي، ولهذا نجد الخوف على الدولة معقولا في الظروف الحاضرة. بالإضافة إلى هذين المصدرين لقوة الدولة، هناك مصدر آخر ألا وهو الوطنية المتطرفة والمشابهة للغيرة الدينية.
الوطنية هي شعور مركب مبني على غرائز أولية ومعتقدات سامية. يدخل في تركيب الشعور الوطني حب المنزل والعائلة والأصحاب الذي يجعلنا حريصين جدا على المحافظة على وطننا من الغزاة، ومحبة غريزية نضفيها على المواطنين ونمنعها عن الأجانب، وافتخار بنجاح مجتمعنا الذي نشكل جزءا منه. يعتقد كل إنسان اعتقادا يزكيه حب الافتخار ويثبته التاريخ بأن وطنه يمثل تقليدا عظيما ويقف بجانب المثل التي تهم الجنس البشري كله. ولكن هناك بالإضافة إلى كل هذا، عنصر هو في الوقت نفسه أكثر نبلا وأكثر تعرضا للمهاجمة، هو عنصر العبادة، عنصر الإرادة المضحية، عنصر الفرح بذوبان حياة الفرد في حياة الأمة. يشكل هذا العنصر الناحية الدينية في الوطنية التي هي أساسية لقوة الدولة ويضع أفضل شيء في حياة الناس تحت لواء التضحية في سبيل الأمة.
يزكي التعليم العنصر الديني في الوطنية وخاصة دراسة تاريخ وأدب الأمة التي ننتمي إليها، لا سيما حينما تكون غير مرفقة بدراسة لتاريخ الأمم الأخرى وآدابها. يشدد في تعليم النشىء، في كل الأمم المتحضرة، على حسنات أمتهم وسيئات الأمم الأخرى. فيؤمن الفرد بأن أمته تستحق الدعم في أي نزاع، مهما كان سبب نشوئه، لأنها أمة متفوقة. يصبح هذا الإيمان طبيعيا جدا لدرجة أنه يجعل الناس تحتمل كل الخسائر. هذا الإيمان، الذي يشابه الإيمان في الديانات المقبولة بكل صدق وطواعية، هو نظرة شاملة للحياة مبنية على غريزة متعالية (sublimated) تدفع إلى التعلق بغاية تعلو كل غاية شخصية، غاية تحتوي على غايات شخصية متعددة كما لو كانت في حالة انصهار.
إن الوطنية كديانة هي غير مُرْضيَة إذ ينقصها الشمول الكلي. الخير الذي ترمي إليه الوطنية هو خير أمة الفرد منا وليس خير العالم أجمع. والرغائب التي توحيها الوطنية في الرجل الإنكليزي هي غير الرغائب التي تكشفها للألماني. ولذلك يصبح العالم الممتلئ بالوطنيين عالم نزاع وصراع. وكلما اشتد إيمان الأمة بوطنيتها اشتدت لا مبالاتها بنكبات الأمم الأخرى. عندما يتعلم الناس إخضاع خيرهم لخير مجموعة أكبر، لا يبقى أي سبب شرعي يمنعهم من معانقة الجنس البشري بأسره. ما يجعل ميول الناس إلى التضحية تتوقف عند حدود وطنهم هو في الواقع (admixture) دفعة من التكبر القومي. وهذه الدفعة تسمم القومية وتجعلها فيما إذا قيست بالمعتقدات التي تهدف إلى خلاص البشرية جمعا، ديانة دنيا. نحن لا نستطيع أن نهرب من الحقيقة، كلنا يحب وطنه أكثر من بقية الأوطان الأخرى، وليس من مبرر لهذا التهرب كما ليس من مبرر لافتراض أن من الضروري أن تحب كل النساء والرجال في العالم بشكل متساو. ولكن واجب كل ديانة على أقل تعديل، الديانة التي تحترم ذاتها، أن تقودنا إلى أن نعرف كيف نوفق بين محبتنا للأفراد غير المتساوية وبين شعورنا بإنصافهم، وأن نعرف كيف نجعل أهدافنا عالمية لنحقق مطالب يشترك فيها كل إنسان. لقد أدخلت المسيحية هذا التغيير على اليهودية، ومن الضروري أن يدخل هذا التغيير على أي وطنية دينية قبل ما تنفى من شرورها الأخرى.
يتصدى للوطنية، في الواقع أعداء كثيرون. فنمو الكوسموبوليتية[9][9] شيء محتم بسبب التعرف على البلدان الأجنبية من خلال التعليم والتجول. وبالإضافة إلى ذلك هناك نوع من الفردية التي تنتشر باستمرار، فردية مبنية على الاعتقاد بأن كل إنسان يجب أن يملك أكبر قدْر من الحرية لاختيار غايات هو المسؤول الأول عن تحديدها وليس غايات يفرضها عليه وجوده العرضي في بيئة معينة. تقف الاشتراكية والسنديكالية وكل حركات مقاومة الرأسمالية بشكل عام ضد الوطنية، وتذكر هذه الحركات الناس بأن الدولة تدافع حاليا أول ما تدافع عن امتيازات الأغنياء ولهذا يرجع كثير من الاختلاف بين الدول إلى المصالح المالية لحفنة قليلة من الحكام الأثرياء. قد تكون مقاومة تلك الحركات للوطنية مقاومة وقتية، أو قد تكون إحدى نقاط الصراع العمالي من أجل الاستيلاء على السلطة ليس الا. إننا نرى أستراليا حيث أحرز العمال انتصارا لا خوف عليه من الاندحار، مملوءة بالتعصب الوطني والعسكري، ويرجع هذا التعصب إلى إصرار العمال على منع العمل الأجنبي مشاركتهم أرباحهم الناتجة عن وضعهم المتميز. وإذا أصبحت إنكلترا دولة اشتراكية، فلا يبعد عن التصور أبدا أن تملأها موجة مماثلة من التعصب القومي مع فارق وحيد إذ من المحتمل أن تكون قومية دفاعية فقط. قلما ترسم خطط الغزو الخارجي، التي تؤدي إلى خسارة فادحة في حياة الأمة المهاجمة، إلا أيدي أولئك الذين تغذت غرائز حب السيطرة فيهم على السلطة المتولدة من الملكية الخاصة ومن مؤسسات الدولة الرأسمالية.
إن الشر الذي أصاب العالم المعاصر بسبب طفحان كيل سلطان الدولة هو كبير جدا، والغريب في الأمر أن لا يدري به غير القليلون.
إن أهم الأضرار التي تجلبها الدولة هي جعل الحرب شديدة الفعالية. فإذا زادت كل دولة قوتها العسكرية، لا يتغير ميزان القوى ولا تحصل لأي منها مناسبة للانتصار أكبر مما كانت قبل. عندما توجد وسائل الهجوم، تصبح الرغبة في الهجوم عاجلا أم آجلا مغرية جدا حتى ولو كان الهدف الأولي من إيجادها دفاعيا فقط. هكذا تؤدي الوسيلة التي تجلب الأمن في الداخل إلى عدم الأمن في الخارج. إن منع استخدام العنف في الداخل وتحريضه في الخارج هما من جوهر الدولة. تضع الدولة فاصلا اصطناعيا بين الناس وبين واجباتنا نحوهم. فنحو مجموعة ما نحن مقيدون بالقانون ونحو مجموعات أخرى لا تقيدنا إلا دراية قطاع الطرق. إن ما يجعل الدولة شرا هو تفضيلها مجموعة ما على مجموعات أخرى، أضف إلى ذلك أنه عندما تأخذ الدولة شن حرب عدوانية على عاتقها، يصبح رجالها مزيجا من القتلة واللصوص. إن جهاز الدولة الحاضرة لا تتحكم به أي ظاهرة من ظواهر العقل والمنطق لان الفوضى (Chaos) الداخلية والفوضى الخارجية يجب أن يكون كلاهما صوابا معا أو خطأ معا. لكن هذا الجهاز يجد دعما من الجميع لأنهم يعتقدون بأنه الطريق الوحيدة إلى الأمان ولأنه يولد لذة الانتصار والسيادة التي لا يمكن أن يتم الحصول عليها في مجتمع حسن. فلو تخلى الناس عن طلب تلك الملذات، أو لو استحال الحصول عليها، لسهل إيجاد حل لمشكلة الخوف من الغزو الخارجي.
إن الدولة المعاصرة، بصرف النظر عن الحرب، ضارة وذلك بسبب كبرها الذي يرهب الفرد ويذهله. لا يقدر المواطن، الذي لا ترضيه أهداف دولته، أن يتأمل في إقناعها بتبني غايات تظهر له أفضل من غاياتها، إلا إذا تمتع بمواهب نادرة. يحل، في البلدان الديمقراطية، عدد قليل من المواطنين البارزين كل المشاكل ما عدا جزء بسيط منها. ويترك تقرير ما تبقى من مشاكل إلى نتائج الاقتراع العام الذي تسوده فوضى الجماهير المتحمِّسة، لا الانطلاقة الفردية. تظهر هذه الحقيقة في دولة مثل الولايات المتحدة حيث يشعر أكثر الناس، على الرغم من أنهم يعيشون في بلد ديموقراطي، بعجز شبه تام إزاء كل المسائل الكبيرة. في دولة بمثل هذا الحجم، تعتبر الإرادة الشعبية كإحدى القوى الطبيعية وتصبح كتلك القوى خارجة عن نطاق سيطرة الإنسان. تقود هذه الحالة، ليس في أميركا وحدها بل في كل الدول الكبيرة، إلى الكلل وضيعان الشجاعة التي نقرنها بأواخر عهد الإمبراطورية الرومانية. تترك الدول الحديثة مجالا صغيرا للانطلاق الفردي إذا ما قيست مع الدول الصغيرة في اليونان القديمة وفي إيطاليا القرون الوسطى، ولهذا فهي تعجز عن تنمية شعور الناس بقدرتهم على توجيه مصيرهم السياسي. من يحصل على السلطة في الدول الحديثة هم رجال ذوو طموح يفوق العادة، رجال متعطشون إلى تلك السيطرة الممتزجة بصناعة الحنكة في السياسة واصطناع الغموض في المفاوضات. وما تبقى من الناس يقصف طموحهم شعور بالعجز (وعدم المقدرة) وثبوط العزيمة.