تاسعا، ومن الحقوق الملازمة للسيادة الحق في صنع السلام أو الحرب مع الأمم والمجتمعات الأخرى. هذا يعني، الحكم متى يكون الأمر في مصلحة الجمهور، وما هو حجم القوة اللازم تجميعها وتسليحها ودفع أجرها من أجل ذاك الهدف، وفرض الضرائب على الرعايا لتغطية النفقات التي يتطلبها ذلك...
عاشرا، ومن الصلاحيات الملازمة للسيادة اختيار المستشارين، الوزراء، القضاة والضباط، في زمن الحرب كما في زمن السلم. فبما أن من مهمة العاهل الحرص على الهدف، وهو السلام والأمن العامين، فمن الواضح أن له صلاحية استخدام تلك الوسائل التي يعتقد أنها مناسبة للقيام بواجبه.
...وقد يقول قائل هنا بإن حالة الناس بائسة جدا لأنها عرضة للشهوات والانفعالات الاعتباطية لذلك الشخص أو أولئك الأشخاص الذين بأيديهم سلطة غير محدودة بهذا الشكل. وعلى العموم، فمن يعيش تحت حكم ملكي يظن أن هذا من نقائض الملكية (أو حكم الفرد)، ومن يخضع لنظام حكم ديمقراطي، أو لمجلس نواب سيادي، ينسب جميع المتاعب إلى هذا الشكل من المجتمع. ولكن الحكم، على جميع أشكاله، إذا كانت بدرجة من الكمال تكفي لحماية الناس، هو نفس الشيء. ويجب ألا ننسى أن حالة الناس لا يمكنها أن تكون بدون إزعاج من هذا النوع أو ذاك، وان أكبر المضايقات التي تحدث للناس عموما تحت أي من أشكال الحكم تكاد تكون غير محسوسة بالمقارنة مع الآلام والكوارث الهائلة التي ترافق الحرب الأهلية، أو حتى بالمقارنة مع الوضع الفاجر بدون حاكم، بدون الخضوع للقوانين وبدون سلطة الإرغام التي تقيد الناس وتمنعهم من السلب والانتقام. وكذلك يجب ألا ننسى أن معظم الضغط الذي يمارس على الناس من قبل حكامهم السياديين لا ينبع عن لذة أو منفعة يتوقعها الحكام من إلحاق الضرر بالرعايا أو إضعافهم (فقوة الناس هي أساس قوة ومجد الحكام)، وإنما من تهاون الناس في الإسهام في الدفاع عن أنفسهم، مما يضطر الحكام أن يأخذوا منهم ما أمكن في أيام السلم لتوفير الوسائل لمقاومة الأعداء وإخضاعهم في الحالات الاستثنائية ووقت الحاجة الطارئة.
(من الفصل 18)
المجتمع بالاكتساب (Common-Wealth by Aquisition) هو ذلك المجتمع الذي يتم فيه الحصول على السلطة في حالة بالعنف. ويتم الحصول عليها بالعنف حين يصادق الناس، فرادى أو جماعات، بأغلبية الأصوات، وبسبب الخوف من الموت أو الأغلال، على جميع أفعال ذلك الشخص أو المجلس الذي بين يديه حياتهم وحرياتهم.
السيطرة أو السيادة من هذا النوع تختلف عن السيادة بالتأسيس (Sovereignty by institution) في شيء واحد فقط: الناس الذين يختارون عاهلهم، يفعلون ذلك لأنهم يخافون من بعضهم البعض، وليس لأنهم يخافون من ذلك الشخص الذي ينصبونه عاهلا. ولكن في هذه الحالة فانهم يخضعون أنفسهم لذلك الشخص الذي يخافونه. وفي كلتا الحالتين، يفعل الناس ذلك بسبب الخوف، ولهذا الأمر يجب أن ينتبه أولئك الذين يعتقدون أن عقدا مصدره الخوف من الموت أو العنف يعتبر باطلا، فلو كان هذا صحيحا، لما أمكن إلزام أي شخص، في أي نوع من المجتمعات، بالطاعة...
ولكن الحقوق ونتائج السيادة هي ذاتها في الحالتين: بدون موافقة العاهل، لا يجوز نقل سلطته إلى غيره، ولا يمكنه فقدانها. ولا يستطيع أي من رعاياه أن يتهمه بإلحاق الضرر. ولا تجوز معاقبته من قبل الناس. وهو الحاكم بشأن ما هو ضروري من أجل السلام. وهو الذي يحكم بشأن العقائد والنظريات. وهو المشرع الوحيد، وهو القضاة، المستشارون، القادة العسكريون، الوزراء، وبقية الضباط والموظفون، وله الحق في تحديد العقاب والثواب وكل المراتب ودرجات الشرف. الأسباب لهذا هي نفسها المذكورة في الفصل السابق بشأن حقوق ونتائج السيادة بالتأسيس.
يبدو واضحا إذن، بموجب العقل أو الكتاب المقدس، ان السلطة السيادية، سواء كانت في يد شخص واحد كما في الملكية، أو في يد مجلس واحد كما في المجتمع الشعبي أو الأرستقراطي، هي من العظمة بقدر ما يستطيع المرء ان يتصور. وإذا كان يتهيأ للناس أن سلطة غير محدودة بهذا الشكل تؤدي إلى نتائج شريرة، الا ان نتائج غياب سلطة كهذه، والذي يعني حربا دائمة بين الإنسان وجاره، أسوأ من ذلك بكثير. ان حالة الناس في هذه الدنيا لن تكون بدون متاعب، ولكن أكبر المتاعب في أي مجتمع تنشأ عن عصيان الرعايا وخرقهم لتلك العقود التي تكمن في صميم المجتمع. وكل من يظن أن السلطة السيادية أوسع مما يجب، ويسعى إلى الحد منها، يكون عليه الخضوع لسلطة تستطيع تقييدها، أي لسلطة أوسع منها.
(من: الفصل 20)
القوانين المدنية (Civil Laws) هي تلك القوانين التي يتوجب على الناس مراعاتها لأنهم أعضاء، ليس بهذا المجتمع أو ذاك، وإنما في أي مجتمع كان. وذلك لأن معرفة القوانين الخاصة هي من اختصاص أولئك المنهمكين في دراسة قوانين بلادهم المختلفة. ولكن معرفة القانون المدني بشكل عام هي من شأن كل إنسان. القانون الروماني القديم يسمى "القانون المدني" (Lex Civilis)، مشتق من كلمة (Civilas) والتي تعني المجتمع. وتلك البلدان التي كانت خاضعة للإمبراطورية الرومانية والتي كانت تحكم حسب ذلك القانون، ما زالت تحتفظ بذلك الجزء منه الذي تعتبره مناسبا. تلك البلدان تسمي ذلك الجزء "القانون المدني" للتمييز بينه وبين بقية القوانين المدنية الأخرى...
ومن الواضح أولا ان القانون عموما ليس مشورة وإنما أمر، ليس أمرا يصدره أي شخص لأي شخص آخر، وإنما أمر يصدر عن الشخص الذي يوجهه إلى شخص آخر سبق والتزم بإطاعته اما حسب القانون المدني فيضاف اسم الآمر فقط والذي هو (persona civitatis) شخصية المجتمع.
وبناء على ما قيل أعلاه، فإنني أعرّف القانون المدني على النحو التالي: بالنسبة للرعية هو تلك القواعد والأحكام (Rules) التي يأمره المجتمع، شفاهة أو كتابة أو بأية علامة أخرى تدل على الإدارة، باستعمالها للتمييز بين ما هو مناف وغير مناف للقاعدة أو الحكم.
لا شيء في هذا التعريف يشوبه أي غموض. فكل شخص يعرف أن بعض القوانين موجهة إلى جميع الرعايا بعامة، بعضها الآخر إلى أقاليم معينة، بعضها إلى مهن معينة، وبعضها إلى جماعات معينة من الناس. ولذا فهي قوانين لمن هي موجهة إليهم، وليس لأي شخص آخر. وأيضا: القوانين هي الأحكام التي تحدد العادل والظالم. فلا شيء يعتبر ظالما إذا لم يكن منافيا لقانون معين.
ولا أحد يستطيع سَن القوانين غير المجتمع، وذلك لأننا خاضعون كرعايا للمجتمع فقط. كما أنه يجب الإعلان عن الأوامر بعلامات كافية والا فلا يعرف المرء كيف يطيعها. وتبعا لذلك، فان كل ما يمكن استنتاجه بالضرورة من هذا التعريف يجب الإقرار على أنه حقيقة. والآن استنتج منه ما يلي:
أ) ان المشرع في أي مجتمع هو العاهل فقط، سواء كان شخصا واحدا كما في الملكية أو مجلسا كما في الديمقراطية والأرستقراطية. المشرع هو الذي يسن القانون، والمجتمع هو الذي يأمر بمراعاة تلك الأحكام التي نسميها قانونا. ومن هنا فإن المجتمع هو المشرع. ولكن المجتمع ليس شخصا وليس في وسعه عمل أي شيء الا من خلال ممثله (أي العاهل). ولذلك فالعاهل هو المشرع الوحيد. وللسبب ذاته، فلا يستطيع أحد إلغاء قانون سوى العاهل. فلا يلغي القانون الا قانون آخر يحرم تنفيذه.
ب) العاهل في المجتمع، شخصا واحدا كان أم مجلسا، غير خاضع للقوانين المدنية، فبما أن لديه صلاحية سن القوانين وإلغائها، فانه يستطيع إذا أراد التحرر من الخضوع بواسطة إلغاء تلك القوانين التي تزعجه وسن قوانين جديدة. ولذلك، فهو متحرر من قبل. والحر هو من يستطيع أن يكون حرا متى شاء. كما أنه من المحال أن يكون الشخص ملزما تجاه نفسه، لأن ذلك الذي يلزم يمكنه أن يحرر من الالتزام. ولذا فان الملتزم تجاه نفسه فقط، لا يعتبر ملزما على الإطلاق.
ج) القانون الطبيعي والقانون المدني يشمل أحدهما على الآخر، ولهما نطاق متساو. فقوانين الطبيعة، والتي هي في أساسها الإنصاف والعدل والعرفان بالجميل وبقـــية الفضائل الأخلاقية التي تعتمد عـــليها في الحالة الطبيعية (كما قـــــلت في نهاية الفصل 15) ليست قوانين بالمعنى الدقيق، وإنما صفات تهيئ الناس للسلام والطاعة. حين يتأسس المجتمع فقط، وليس قبل ذلك، تصبح قوانين فعلية، حيث تصبح عندها أوامر المجتمع، وتبعا لذلك قوانين مدنية أيضا. وذلك لأن السلطة السيادية هي التي تلزم الناس بإطاعتها... القانون المدني والقانون الطبيعي ليسا نوعين مختلفين وإنما جزءان مختلفان للقانون: جزء مكتوب يسمى "مدني" وجزء غير مكتوب يسمى "طبيعي". ولكن الحق الطبيعي، أي الحرية الطبيعية للإنسان، قد تكون مقيدة ومختصرة من قبل القانون المدني. ان الهدف من سن القوانين ليس سوى تلك القيود التي بدونها لا يمكن للسلام أن يسود. ولم يجلب القانون إلى العالم الا لتقييد الحرية الطبيعية للأفراد، وبالشكل الذي يضمن عدم إيذاء بعضهم البعض، والمساعدة المتبادلة والاتحاد ضد عدو مشترك.
(من الفصل 26)
رأي رابع مناقض لطبيعة المجتمع يقول: "صاحب السلطة السيادية خاضع للقوانين المدنية". صحيح أن كل عاهل خاضع لقوانين الطبيعة لكون تلك القوانين مقدسة (إلهية) ولا يجوز إلغاؤها من قبل أي شخص أو أي مجتمع. ولكن القوانين التي يسنها العاهل نفسه، أي تلك التي يسنها المجتمع، فهو غير خاضع لها. فالخضوع للقوانين معناه الخضوع للمجتمع، أي لممثله السيادي، أي لذاته. وهذا ليس خضوعا وإنما حرية من القوانين. ان هذا الخطأ، ولأنه يصنع القوانين فوق العاهل، يصنع قاضيا فوقه أيضا، وسلطة لمعاقبته، وهذا يعني عاهلا جديدا، ولنفس السبب، عاهلا ثالثا لمعاقبة الثاني، وهكذا إلى ما لا نهاية، الأمر الذي يؤدي إلى الفوضى والى انحلال المجتمع.
ترجمة د. سعيد زيداني
جميع الحقوق محفوظة، 1424-2004
، موقع فلسفة.