السلطة في العالم العربي لها مفهوم خاص لدى النخب الحاكمة يمكن أن نصفه بالفريد من نوعه في العالم بحيث هي سلطة متعالية وقاهرة ولا تحترم القوانين ويغيب عنها الحس الشعبي والوطني لأنها لم تأت عن طريق انتخابات نزيهة وشفافة والاختيار الشعبي الحر بل عن طريق الانقلابات والدسائس أو بالوراثة.
فالجمهوريات هي ملكية في مضمونها وشكلية بالاسم والعنوان ولا تتغير السلطة فيها إلا بالموت أو بالإزاحة القهرية رغم ما بدساتيرها من آليات
انتقال للحكم.
فالمكتوب على الورق المصقول عندما تقرأه تجد نصا متقدما ومتجاوزا في بعض الأحيان لما هو موجود بالدول الغربية لكن عند التنفيذ الفعلي على أرض الواقع لا نجد مما كتب شيئا يذكر.
فالمسؤول عندما يتسلم الكرسي ويتبوأ المنصب الرفيع لا يفكر حسب الذهنية المتخلفة إلا في من سيخدمه ويطيعه ويرمي الورود بين يديه أينما ذهب وحل وهو الكاره للنقد والمحاججة لأنه يظن نفسه معصوما من الخطأ ولا يعمل إلا بما يفرح ويسعد رؤسائه لينال الترقيات وهو مع المواطن جافا غليظ القلب متعاليا.
فمفهوم المواطنة مستعصي على الذهنية السلطانية والباشوية وقد ورثنا كل هذا عن حقب الانحطاط التي مرت على الدول العربية وهي كثيرة وطويلة غلى مدى التاريخ ونذكر منها الحقبة الاستعمارية والخلافة العثمانية والصراع بين العباسيين والأمويين كما أن الديمقراطية مفهوم غربي بالأساس ولم يكن متجذرا في ذوات حكامنا رغم تراثنا الديني الداعي للشورى الذي لم يمش على هداه الأمراء والسلاطين بعد الخلافة الراشدة.
فالنخب الحاكمة لها مفهوم سلطاني للحكم بحيث تأتي غصبا بالتزوير تارة أو بالقوة الغاشمة تارة أخرى متكئة على البعد القبلي العشائري ومستندة على القوى الخارجية للبقاء في السلطة أطول فترة ممكنة.
وهكذا يصبح الحاكم رهين هذه المحددات فيعمل جاهدا لإرضاء الخارج وخدمة مصالحه أكثر مما يعمل لمصلحة مواطنيه وبلده ويعزل نفسه شيئا فشيئا عن عامة الشعب لتلتف حوله قلة من النخب الطامعة في النفوذ والاستحواذ على أكبر قدر من الثروة.
فالسلطة حسب المنطق العربي هي أن تكون الدولة وقدراتها وثروتها ملك مشاع ومزرعة خاصة يفعل فيها الحاكم ما يشاء والمواطنون مجرد خدم وحشم بدون حقوق رغم ما توجد في الرفوف من قوانين.
ومن أسباب هذا الوضع غياب المواطن الواعي والمستقل ماديا والأرضية الثقافية المجتمعية في ظل أمية مستفحلة خاصة في الأرياف وأحزمة الصفيح المحيطة بالمدن الكبيرة وانتشار الفقر والخصاصة وتحول الكثير من النخب المتعلمة إلى مداحين في خدمة السلطان لمساعدته على التمكن ونهب الثروة وتسويق خطاباته ومشاريعه عوض إفادة المجتمع الذي صرف عليهم من قوت يومه مقابل مناصب ورفاهة زائفة.
فالسلطة في عالمنا العربي هي وليدة بيئة مازالت مع الأسف الشديد متخلفة والنخبة فيها غير فاعلة اجتماعيا وواعية بالكامل بدورها الوطني وهي تبحث عن مصلحة شخصية في ظل الحاكم الذي يدجنها لصالحه
مقابل مناصب وهمية.كما أن السلطة ليست نابعة عن إرادة شعبية واعية ومستقلة لأن الانتخابات في معظمها مزيفة بالفساد المالي أو بالخوف القهري والتعتيم الإعلامي وتشويش الوعي المجتمعي.
كما أن التداول الممنوع على الحكم والبقاء على سدة السلطة لمدة طويلة يحول الحاكم بفعل العادة إلى شبه إله وسلطان بيده كل السلطات والمصائر وتكبر من حوله رعية الذل والمنفعة التي شيئا فشيئا تتضخم فتصبح طبقة حاكمة تستمد نفوذها من سيدها فينتشر الطغيان والفساد لنصل في نهاية المطاف إلى دولة الظلم والفساد.
والتحول الحقيقي لمفهوم الحكم يأتي حتما من تغير عقلية النخب بحيث يكون لها دور فاعل في تطوير الوعي المجتمعي بعيدا عن الطمع في المناصب والتمتع بالريع السلطاني المدفوع من جيب الفقراء والمهمشين وهذا يتطلب أرضية من حرية التعبير للتمكن من التفاعل الايجابي مع أهل القاع ليغيروا ما بأنفسهم.
فالدولة حسب مفهوم السلطة العربية مجرد غنيمة وهبة من السماء وإرادة ربانية ليس عليها قدح واعتراض والثروة فيها متاع خاص وعبادها عبء ثقيل وحساد نعمة ومواطنون درجة ثانية وبلا قيمة والجميع في خدمة السلطة والتقرب منها والدوران في فلكها.
أما منطق الأشياء هو أن تكون السلطة والقائمون عليها في خدمة المواطن وتوزيع الثروة بالعدل على الجميع بعيدا عن المحاباة والمحسوبية وحسب القدرة الفردية والحاجة وهذا مطلب بعيد المنال في عالمنا العربي المبعثر بين ماضيه الموغل في الحيل والدسائس تحت ركام من الكبت الاجتماعي والعنف المادي وحاضره الملبد بالغيوم وغبار التحولات الجيوسياسية العالمية.