الفساد الإداري
العائق الأكبر أمام تحقيق أهداف الثورة
بقلم عزالدين مبارك
لا يمكن لبلد ما أن يتطور ويتقدم بدون وجود إدارة عصرية ذات كفاءة عالية ومصداقية ونظيفة من شوائب الفساد والمحسوبية بحيث يطمئن إليها المواطن والحريف والمستثمر ولا تكون وبالا عليه ونقمة.
ففي دولة الاستبداد والفساد يقع استعمال الإدارة للمصالح الخاصة وتبديد الثروات وتمتيع المتنفذين وأصحاب الجاه والسلطة بشتى أنواع الامتيازات والمناصب بدون وجه حق في غياب رقابة فاعلة ومحاسبة نزيهة.
فالولاء هو العنصر الأساسي للوصول إلى القمة والتمكن من الترقيات والخطط الوظيفية مقابل غض الطرف وتحبير القرارات الجاهزة وتحويل المنافع والحقوق إلى غير أصحابها وقد اكتشفنا بعد الثورة المباركة هول ما أصاب الإدارة من فساد ومحسوبية بحيث يعجز اللسان على وصفه وتقديره وفك طلاسمه وكأن دولة بحالها أصبحت إقطاعية مباحة يفعل المفسدون بها كما شاؤوا وأحبوا.
وبما أن أغلب الموظفين الكبار قد تم اختيارهم لهذه المهمات القذرة بعد أن أغدقوا عليهم الخير العميم والامتيازات الكثيرة فقد سكتوا عن الظلم وباركوا الفساد وزوروا القرارات وأبدعوا في الولاء والتصفيق والمباركة والمناشدة فأصبح من غير الممكن أن يتنصلوا من الجريمة الموصوفة حتى وقعت الواقعة وجاءت الثورة.
وكما كانوا موالين طائعين حامدين وشاكرين لولي نعمتهم الهارب فهاهم يتسابقون في تقديم خدماتهم لمن جاء إلى المنصة في غياب المحاسبة والمكاشفة.
والكل يبحث عن عذرية جديدة وشرعية مفقودة ولم تأته حتى في المنام صحوة ضمير أو توبيخ قيم وليس بمستغرب على من تعود على هذا الصنيع.
ولأن تطهير الإدارة لم يتم بعد ولم تقع محاسبة المفسدين فيها والذين مازالوا قابعين في أماكنهم يحيكون الدسائس متشبثين بكراسيهم الصدئة ولم يشبعوا بما نالهم من العهد الماضي فإن أهداف الثورة لن تتحقق مطلقا.
فالعود الفاسد من الشجر لا يمكن أن يورق في يوم من الأيام ويثمر ثمرا صالحا.
وأصبحت الإدارة سلطة قاهرة تخدم لصالح فئات متنفذة بعينها وتفتك بالمواطنين وتفتك حقوقهم وتمنحها لهؤلاء غصبا ونصبا واحتيالا.
كما أصبحت مرتعا لعديمي الكفاءة والمصفقين والمزغردين والمتسلقين على أكتاف الآخرين والمبدعين والأحرار.
فكل من يعارض الفساد والمفسدين تصيبه لعنة القرارات الجائرة فتتوقف حياته المهنية ويدخل عنوة وقسرا في ثلاجة التجميد والتحنيط والنسيان أو يبعد عن عائلته وينكل به تنكيلا أو تلفق له التهم ويؤتى بشهود الزور ويطوى ملفه إلى الأبد.
وقد عاش أغلب الموظفين في نكد وفجيعة فمنهم من كابد المحن وتمسك بمبادئه وعاف الفساد فما نال غير التهميش والإقصاء وبقي نظيفا وملفه خاليا من الترقيات والمناصب الهامة ومليئا بالاستجوابات والعقوبات وغيرها ومنهم من دخل في حزب الولاء والمحسوبية وعب من الفساد عبا فأنعمت عليه الإدارة الوظائف والامتيازات بأنواعها المتعددة.
وبما أن المحاسبة بعد الثورة لم تتم ولم يقع التحقيق في التجاوزات وسوء التصرف الإداري والمالي وتجاوز السلطة والقرارات المغلوطة والتي يستشف منها التنكيل بالغير وتزوير الشهادات وتلفيق التهم ومنح المناصب والمال العام لمن لا يستحق، فإن دار لقمان بقيت على حالها.
فالجهاز الإداري برمته موبوء ومتعفن حد الركب ولا مجال للثورة أن تنجح وتحقق أهدافها السامية والنبيلة بدون تغييره تغييرا جذريا وعلى أسس من الشفافية والمراقبة الفعلية والمحاسبة وإرجاع الحقوق إلى أصحابها.
فلا بد إذا من تطهير الجهاز الإداري تطهيرا شاملا وتحديد مبدأ الكفاءة كعنصر أساسي لتحمل المسؤوليات وليس القرابة والمحسوبية والولاء الأعمى والتطبيل والتزمير.
فتحديد المهام الموكولة لكل عون وتمكينه من الأدوات اللازمة لتنفيذها ومنحه حرية المناقشة وإبداء الرأي المعلل وتحفيزه حسب ما يملكه من قدرات وشهائد للتطور الوظيفي وحمايته من الضغوط الإدارية ومعاقبة من يقوم بها وتفعيل مبدأ الكفاءة إلى أقصى حد ممكن ونبذ المحسوبية والولاء والشللية تعتبر من الأسس الضرورية للرفع من مردودية الإدارة حتى تقوم بدورها الفاعل.
وبدون ذلك سوف لن تستقيم الأمور لأن من تربى على شيء شاب عليه ولا يمكن تغيير من تعود على الانبطاح وتسلق السلالم بطرق ملتوية ومشبوهة أن يقوم بثورة على نفسه ويصنع بقدرة قادر كفاءة مفقودة وفاقد الشيء لا يعطيه كما يقولون.
ومن هذا المنطلق فلا بد من تفعيل مقاربة جديدة بعد الشروع في المحاسبة والتطهير والتنظيف الإداري من الفساد والمفسدين بمعانقة تمشي التصرف حسب الكفاءة أو بمعنى آخر التصرف في الكفاءات وذلك للقضاء على التمشي حسب المحسوبية والأقربون أولى بالمعروف المستشري بالإدارة التونسية والذي أفقدها المردودية والفاعلية والجدوى كما خسرنا العديد من الكفاءات المجمدة والتي لم تتأقلم مع منظومة الفساد والتي هاجرت لينتفع من عملها الغير بعد أن كونتها المجموعة الوطنية.
والثورة جاءت لتخلق ديناميكية جديدة في كل المجالات وتحرك السواكن والجمود وتبعث الروح والأمل وتقضي على الفساد الذي نخر عظام الدولة وبدد ثرواتها ورهن مستقبلها وحطم أجيالها وفقر شبابها.
وبما أن الإدارة هي المحرك الأساسي للحياة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية فإن صلحت صلح المجتمع وإن فسدت فسد.
وإذا بقيت حليمة على عاداتها القديمة فيا خيبة المسعى لأن الإدارة هي المحرك الأساسي للتطور لقربها من المواطن وملامسة حقوقه المتأكدة ولا يمكن أن تكون حجرة عثرة أمام تطلعات أبناء الثورة كما لا يمكن الاعتماد على هيكل مريض وقد شاخ وهرم وتعفنت مفاصله وفسدت لبناء غد أفضل ونقي من الشوائب.
فالمشاكل التي تعترضنا الآن والتي تكبل الإرادة السياسية وتحد من نجاعة الإصلاحات مردها الكلكل الإداري والذي يجذب إلى الوراء وموروث الفساد ومنظومة المحاباة والمحسوبية والمحافظة على المصالح الضيقة والتشبث بالكراسي والحنين إلى الماضي التعيس.