تحصين المؤسسات من الفساد
بقلم عزالدين مبارك*
تعتبر المؤسسة البنية الأساسية في بناء الدولة الحديثة كالخلية بالنسبة للجسد البشري وهي تتنوع حسب أهدافها ومشروعها فتنتج الخيرات و تسدي الخدمات للمواطن وتخلق الثروة الإضافية التي من خلالها تتطور المجتمعات نحو الرفاهية والعيش الكريم. وتجتمع في المؤسسة الموارد البشرية والمادية ضمن ضوابط فنية وعلائقية تحكمها القوانين والإجراءات والتدابير.
كما تتأثر المؤسسة بجميع أصنافها بالبيئة التي تنتمي إليها والنظام السياسي المتبع ومستوى التعليم والتقدم التكنولوجي والأوضاع الأمنية السائدة ووجود منظومة من الحوكمة والشفافية المقاومة للفساد. وهي كذلك لا تعيش بمعزل عن التأثيرات الخارجية في ظل العولمة.
وبما أن المؤسسة هي المكون الأساسي للتنمية المستدامة من النواحي الاقتصادية والاجتماعية فلا يمكن بناء دولة مزدهرة ومجتمع متقدم دون وجود مؤسسات فاعلة ومتطورة تعيش في محيط سليم وشفاف وخال من الفساد.
فالفساد كمنظومة قيمية تخرب البنى الفكرية والعلاقات الاجتماعية داخل المؤسسة وتهدر الطاقات المتاحة وتحطم الكفاءات فتتقلص المردودية وتنعدم الجودة فيقل الطلب على السلع المنتجة والخدمات مما يؤدي إلى الارتفاع في التكلفة ونقص في المداخيل فينجر عن ذلك الإفلاس في نهاية المطاف.
وقد اكتشفنا بعد الثورة أن جل مؤسساتنا الاقتصادية والاجتماعية والإدارية قد نخرها سوس الفساد والمحسوبية وسوء التصرف في الموارد المتاحة فلم تعد قادرة على الإيفاء بالتزاماتها وأصبحت عبئا ثقيلا على المجموعة الوطنية فتقدم خدمات ذات جودة منخفضة بتكلفة مرتفعة. فقد هاجرتها الكفاءات أو تم تجميدها بفعل فاعل وعوضت بأصحاب النفوذ والتوصيات والولاءات وعديمي المعرفة وغدا الفساد أخطبوطا بل قانونا عرفيا ينحني أمام جبروته الجميع وهكذا تأسست دولة الفساد.
وقد اعتقد المواطن البسيط الذي حرمه غول الفساد من التمتع بخيرات بلاده من شغل ورفاهية أن الثورة جاءت لاقتلاع هذا السوس من جذوره فكانت خيبته جد كبيرة فقد اهتم الساسة الجدد والقدامى بتحصين مواقعهم وغنائمهم الشخصية بسن القوانين وبعث الأحزاب والجمعيات عوض تحصين المؤسسات المنتجة للخيرات والتي من خلالها نستطيع مقاومة الفقر والبطالة.
وهكذا زاد الفساد تسيدا في البلاد بما أن المحاسبة قد غابت ولم تعد سيفا مسلطا على الفاسدين وقد تمكنوا في الأثناء من تكوين لوبيات وتحالفات جديدة جعلت كل من يتكلم عن الفساد الموصوف والموثق عرضة للتتبعات العدلية والقضائية. وأغلب الظن أن حليمة ستعود إلى عاداتها القديمة وأن منظومة الفساد وقع تغير فقط في شكلها وأن دولة الفساد باقية ما بقي الفاسدون السابقون في مواقعهم وقد أتى اللاحقون ليدعموهم ويشدون من أزرهم.
وفي ظل الغياب المريب للعدالة الانتقالية ومحاربة الفساد المستشري في المؤسسات وسن القوانين التي تحمي المبلغين بالفساد لدى الدوائر العدلية والقضائية فإننا بالفعل نقوم بتحصين منظومة الفساد من التتبعات والملاحقة بل نشجعهم على التمادي في فعل ذلك ونتساءل بعد ذلك لماذا مازالت دار لقمان على حالها ولم تتحسن الأوضاع في البلاد.
وتحصين المؤسسات من الفساد هو أهم عنصر من عناصر تحصين الثورة المتفق عليه من الجميع بحيث لا يمكن نجاح الثورة دون تحصين ثروتها المتمثلة في حسن التدبير ومقاومة هدر المال العام وسوء التصرف في الموارد. أما التحصين السياسي للثورة فهو محل اختلاف بين الفرقاء السياسيين ومصدر فتنة بالإضافة إلى التأثير السلبي على الحياة الاجتماعية والاقتصادية كما يمكن تحقيق الهدف نفسه بإجراء انتخابات نزيهة دون اللجوء إلى سن قانون في الغرض.
*كاتب ومحلل سياسي