شرعية الحكم
بقلم عزالدين مبارك*
الشرعية هي التفويض الشعبي للأفراد لتسلم مقاليد السلطة السياسية ضمن شروط وضوابط محددة وعن طريق انتخابات نزيهة وشفافة ولمدة زمنية متفق عليها مسبقا. فليست هناك شرعية تؤخذ بالقوة في العرف السياسي المعاصر وفي زمن حقوق الانسان والحريات العامة والخاصة والدساتير. وهي ليست لا نهائية الديمومة وأبدية ولا يمكن الرجوع فيها، فمن يمنح الشرعية وهو الشعب صاحب السلطات جميعا ومصدرها الأصلي يمكن له أن يسلبها عن طريق الانتخابات الدورية أو عن طريق الثورة إذا ما تبين له أن من يحكم قد زاغ عن الطريق السوي ولم ينجز ما اتفق عليه.
فالشرعية مرتبطة بأهداف وهي عقد بين الشعب والحاكم للقيام بإنجازات محددة كتحقيق الرفاهية والعدالة الاجتماعية وتقليص البطالة والفقر فإما أن ينجز ذلك وإما أن يفشل في مسعاه ويرحل فوجود الحاكم مرتهن بإجماع الناس على حسن تدبيره وخدمتهم في أحسن الظروف. فلا يمكن أن نقر بنجاح حاكم وهو يكمم الأفواه ويأتي بأصحاب الولاءات والمريدين ويعمم الخوف ويزور الانتخابات فيسكت الشعب عن الظلم والقهر إلى أن تحين ساعة الثورة التي هي لحظة فارقة في حياة الشعوب وهي أرقى تعبير عن الإرادة الجمعية التي لا يستطيع الحكام أن يقهروها مهما طغوا وتجبروا وهكذا يكتب تاريخ الشعوب الحية وبدون الثورات ينتهي التاريخ البشري إلى الركود الإنساني.
فمن طبيعة الحاكم السكون والرتابة والانغماس في رغد العيش والتمتع بالحياة ورفاهية المنصب والجاه بين مريدين أوفياء وأهل الطاعة والولاء يغدقون عليه الثناء والتبجيل فلا يسمع منهم غير ما يريد حتى لا يتعكر مزاجه وآخر اهتماماته رفاهية الشعب والبسطاء والمحرومين. والدولة تصبح في خدمة الشخص الواحد وبعض الأنفار وكل من يعارض فهو متآمر ومآله النفي والحبس والإعدام فيعم الفساد والمحسوبية وينسى الناس أنهم انتخبوا حاكما من أجل أن يخدمهم ويوفر لهم حاجياتهم لمدة معينة فإذا هم من يخدمونه طوعا أو قسرا.
فالثورة والتمرد بالنسبة للحاكم الظالم والمستبد تحديا للدولة وانقلابا على الشرعية أما تزوير الانتخابات وتطويع الدساتير والقوانين وتزييف الحقائق فهو من صميم الشرعية. فالحاكم في الأنظمة الديمقراطية ينظر إلى التمرد والإضرابات والمظاهرات تعبير شرعي عن وجود مشاكل حقيقية ينبغي معالجتها بكل تواضع وحنكة وهذا يدخل في صلب مهمته الأساسية أما في عالمنا العربي المتخلف فيرى الحاكم ذلك تجاوزات خطيرة ومن الكبائر ومهمته الأساسية أن يلجم الأفواه ويواجه أي تحرك شعبي بالعصا الغليظة والتعذيب والقهر.
فكيف لا يثور الناس على الظلم ويتمردون على القهر وهم التواقون للحرية والعدالة ثم هو حقهم الأساسي في الرجوع في تفويضهم للحاكم الذي لم يحقق رغباتهم ولم يلتزم بالشروط التي اتفقوا عليها عند البيعة الأولى وكان من الأجدى التخلي طوعا عن المنصب والنزول عند رغبة الشعب وهو الذي فشل ولم يفلح في مسعاه.
ومن مصائب عالمنا العربي أن السلطة عندنا هي مجرد تشريف وجلوس على الكرسي وإعطاء الأوامر ومجموعة إمضاءات دون تحمل المسؤولية والمحاسبة في غياب تقاليد ديمقراطية حقيقية ترفع من شأن المواطن والحاكم في نفس الوقت. فنزعة الشك والريبة بين الطرفين متأصلة في ثقافتنا بحيث يرى الحاكم المواطن انسانا متآمرا يريد الانقضاض على منصبه ويرى المواطن الحاكم المتعالي غولا سيفتك به في يوم من الأيام.
فقضية علاقة الفاعل بالمفعول به لا تؤسس لدولة المواطنة ولا تجعل من المواطن كائنا فاعلا وانسانا محترما يحب بلاده ويعمل بجد للرفع من مستواها فهو لا يرى الدولة إلا من خلال الحاكم القاهر المستبد المالك للإرادات القامع للحريات والمبذر للثروات دون رقيب وحسيب.
فالشرعية بين الشعب والحاكم هي فعل تعاقدي لإنجاز برنامج وأهداف معينة في مدة محددة بحيث ربح الانتخابات لا يعني شيئا كمثل الجلوس في المقهى والتطلع للناس القادمين والمغادرين أو الكلام عن المشاريع التي ستنجز في المستقبل والدستور الذي سينجز والبطالة التي ستنتهي والأسعار التي ستنخفض واتهام الآخرين بالتعطيل والتشويش.
فالشرعية مرتبطة بإنجاز المتفق عليه سلفا والشعب من حقه سحب هذه الشرعية إذا أخل الحاكم بتعهداته فإما أن يخرج طوعا أو يثور عليه الناس أصحاب الحق والسلطة الأصلية فذلك من بديهيات السياسة حسب العصر الذي نعيشه الآن ولا يمكن تغيير المنطق وتشويه الحقائق. فلو لم نسلم بهذا المنطق لما ثار الناس على مبارك والقذافي وبن علي وغيرهم، فمن يريد أن يحكم عليه أن يتحمل المسؤولية وعليه أن يعرف أن الزمن قد تغير وأن السلطة بالضرورة غير دائمة وهي ليست مجرد لعبة وكرسي وبهرج وان الشرعية لا تمثلها الانتخابات فقط.
*كاتب ومحلل سياسي