2- لا أعرف لماذا نقبل بتسمية هذه القطع النثرية قصصا قصيرة جدا وليست قصائد نثر، بينما ما يسمى بالقصة القصيرة جدا لم تعرف إبان حياة كافكا ولا حتى القصة القصيرة التي بحجم صفحة او صفحتين، وإن ما كان معروفا في عصره، هو القصة القصيرة بمعناها التشيخوفي الجديد آنذاك من عدة صفحات ولها: بداية ووسط ونهاية. بينما قصائد النثر التي كتبها الروائي الروسي تورغينييف عام 1878 بعد أن اطلع على قصائد بودلير النثرية، ونشرها عام 1878، تكاد تكون قصصا قصيرة جدا خصوصا في سردها وموضوعها وبعضها يقترب من قطع كافكا النثرية (انقر هنا لتقرأ قصيدة نثر لتورغينييف: "الحشرة"). لكن يجب قبولها قصائد نثر لسببين، الأول: لأنها جاءت كنتيجة اطلاع على قصائد بودلير النثرية، والثاني: لأن تورغينييف تقصدها كقصائد نثر.
3- لم يعط كافكا أية أهمية للنقاش الدائر في حقبته حول الشكل الأدبي الذي يجب أن يتخذه التعبير... فلم يكتب بأنه يفضل الرواية على القصة القصة القصيرة او القصة القصيرة على الشعر.. بل كان يكتب وكان يتوقف عندما يرى أن الأسطر التي كتبها كافية، وأن ما مكتوب أمامه أخذ استقلاليته؛ إطاره النهائي.
4- إن أقرب الأجناس الأدبية النثرية التي كانت موضوع نقاش في عصر كافكا الشاب هي: الأمثولة، قصيدة النثر البودليرية، الشذرة، الأفوريزم، فن الرسالة. لربما وجد كافكا المأخوذ بفن "الأمثولة"، قصائد بودلير النثرية لا تختلف في بنيتها السردية عن أسلوب "الأمثولة"، فلم يكترث لهذه التسمية الجديدة. ناهيك أن فكرة إحداث ثورة شكلية، كانت آخر شيء يفكر فيه... فهو، كما تذكره السيَر، كان يرفض صفة "الشاعر الطليعي" التي كان يطلقها عليه، في مطلع شبابه، أصدقاؤه، مفضلا أن يُطلق عليه صفة كاتب مثل كلايست أو غريم.
5- أن الخوض في مياه النثر شعريا عرفه الأدب الألماني عن طريق الحركة الرومانتيكية التي فتحت نوافذ التعبير على حقول النثر من أجل "شعر كوني". و"الشعر الرومانتيكي"، كما كتب منظرها شليغل، "شعرٌ تقدمي، كوني.. لأنه مزج، ويجب عليه أن، يمزج الشعر بالنثر.. على الشعر كله أن يكون نثرا، النثر كلّه شعر". ومن المعروف أن نوفاليس كان أوّل مَن، وعلى نحو تساؤلي، مزج الشعر والنثر في قصيدته الشهيرة: "ترتيلة إلى الليل" التي جاءت قطعا شعرية موزونة وقطعا نثرية على شكل كتل.
6- لعب ظهور فن "الشذرة" Fragment خصوصا الفلسفية لفريدريك شليغل (معظمها حول اشكالية النثر والشعر)، والأفوريزم كما عند نيتشه، وأدب الرسائل الذي تميّزَ بنثر مكثف وفني، دورا أساسيا في اكتفاء الكتاب الألمان بالتسمية الألمانية الشائعة Prosastucke قطع نثرية وعدم استعمال "قصيدة نثر" رغم أن بعضهم، خصوصا في القرن العشرين، كتبَ على غرارها، وعن قصدية واعية، وفي مقدمتهم فرانز كافكا.
فكافكا بمحاولته تهديم ما تريده الأمثولة من برهنة حقائق، يبتدع كتلا تتميز بقدرة على اختصار المسار السردي الذي تقتضيه الحكاية التي يخبئ لها خاتمة فجائية يقلبها رأسا على عقب. إن هذه الاستقلالية بالذات التي تتمتع بها قطع كافكا النثرية حد أنها تصمد أمام كل من يريد أن يجعلها ذات مغزى معين (فهي كتبت كضد أمثولة؛ كتشكيك بالحقيقة التي تتستر وراءها الأمثولة)، يمنحها قدرة على انزياحات من المغزى إلى المجانية؛ من التأويل المعتمد في الأمثولة على سياق تاريخي مسبق، إلى التأويل المفتوح في سياق مستقبلي، من الشذرة بمفهوم شليغل، كصيرورة لاتكتمل، إلى القطعة النثرية المستقلة بذاتها... وها هو عدد من نصوصه القصيرة الواقفة كهمزة وصل بين القصة القصيرة والرواية، قصائد نثر بامتياز.
هنا عشرة نماذج: تسعة منها ترجمها عن الألمانية صالح كاظم، والعاشرة "بروميثيوس" قمت أنا بترجمتها عن الانجليزية، ونشرت في العدد الثامن من "فراديس" (باريس 1994).
الحوريات
ها هي أصوات الليل المغرية، مثلها كانت تغني الحوريات، ومن الإجحاف أن نتهمهن بالإغواء، فهن يعرفن أن لديهن مخالب وينقصهن الرحم، لذا فأن أصواتهن هي شكوى بصوت مرتفع على هذا الإجحاف. يا تُرى، أذنبهن أن تأتي هذه الشكوى بصوت جميل؟
روبنسون كروسو
لو لم يغادر روبنسون موقعه في الجزيرة من أقرب منفذ أو من المكان الأكثر بروزا فيها، بسبب العزاء أو التواضع أو الخوف أو إنعدام الحنين، لجاءت نهايته عاجلة، إلا أنه عوضا عن ذلك تجاهل السفن وناظوراتها الضعيفة، وأنصرف الى إكتشاف جزيرته بكل ما فيها وبدأ يتعود عليها، وهكذا بقي على قيد الحياة حتى تم العثور عليه أخيرا توافقا مع ما يتطلبه المنطق جذريا.
في الليل
منغمر في الليل، كما يحني المرء رأسه منغمرا في التفكير، تنغمر في الليل، الناس حولك نيام، كما لو كانوا جزءا من مسرحية صغيرة، موهمين أنفسهم بأنهم يرقدون في بيوت وأسرة مريحة، تحت سقوف ثابتة، متمددين أو جاثمين على جنبهم فوق مراقد مغطاة بالشراشف، يتلفعون بأغطية دافئة، وفي الواقع فأنهم كما حصل سابقا وسيحصل لاحقا يقيمون في منطقة صحراوية، في معسكر يقع في العراء: مجموعة كبيرة من البشر رُمي بها الى مكان كانت قد أستقرت فيه سابقا، جيشٌ كبير، شعبٌ يسكن تحت سماء باردة فوق أرض باردة، يسند كل واحد منهم رأسه على ذراعه، ووجهه متجه نحو التراب، يتنفس بهدوء. أما أنت فتبقى يقظا، مهمتك الحراسة، ترى الآخر بعد أن تحرك المشعل في أتجاهه. لماذا الحراسة؟ يقال أن من الضروري أن يكون هناك حارس. يجب أن يكون هناك من يؤدي هذه المهمة.
رسل وملوك
وُضعوا أمام خيارين، أما أن يكونوا ملوكا أو رُسُلا للملوك. مثل الأطفال أرادوا جميعا وظيفة الرسول. لهذا تكاثر الرسل الذين يدورون بسرعة في أنحاء العالم، وحيث لم يعد هناك ملوك، تراهم يتناقلون الأخبار التي فقدت مدلولها بينهم. أحيانا تراودهم الرغبة في إنهاء حياتهم البائسة، غير أنهم لا يجرأون على ذلك بسبب قـَسَم الولاء.
فهود في المعبد
غالبا ما تنتهك الفهود حرمة المعابد وتشرب ما تحتويه أجاجين القربان، حين يتكرر هذا الحدث مرات عديدة، بحيث يصبح متوقعا، يتحول جزءا من الطقوس.
المحامي الجديد
التحق بنا محام جديد أسمه بيوسفالوس، لا يختلف شكله عما كان عليه، حين أختاره الإسكندر المقدوني فرسا يمتطيه أثناء القتال. لو تفرست فيه لوجدت لديه الكثير مما يثير الإنتباه. قبل زمن رأيت أثناء هبوط السلالم حاجب محكمة يتفحص المحامي الجديد بعيني مدمن على سباقات الخيل، مندهشا ، ذلك أثناء ما كان هذا يقفز بخفة فوق درجات السلالم، واحدة بعد الأخرى رافعا عجزه، ولوقع أقدامه على المرمر ضجيج كبير. جاءت موافقة المكتب على إلتحاق بيوسفالوس به، إنطلاقا من إجماع مدهش بأنه سيعاني في ظل النظام الإجتماعي الراهن صعوبات كثيرة، لهذا وبسبب أهميته التاريخية وجدناه يستحق الإنضمام الى فريقنا. اليوم، وهذا أمر لا ينكره أحد، لم يعد الإسكندر المقدوني حاضرا، غيرأن هناك بيننا من يجيد القتل ويمتلك مهارة كبيرة في طعن الصديق بالرمح عبر مائدة الطعام. ربما ضاق أحدنا ذرعا بمقدونيا فيلعن فيليب، والد الإسكندر، متناسيا أننا لا يمكن أن نصل الهند بدونه. حتى في ذلك الوقت كانت بوابات الهند بعيدة عن المنال، إلا أن الطريق إليها كان مخطوطا على سيف الملك. الآن تغير موقع هذه البوابات وأزداد إرتفاعها، ولم يعد هناك من يدلنا على الطريق، رغم كثرة رافعي السيوف، ومنهم من يلوح بها، تلاحقه نظراتنا الزائغة. ربما، ولهذا السبب بالذات، فأن افضل ما يمكن القيام به هو السير على خطى بيوسفالوس الذي أنصرف لدراسة كتب القانون، تحت ضوء المصباح الهاديء، حرا، لا يشعر بضغط سيقان الفارس على جانبيه ، بعيدا عن ضجيج معارك الإسكندر، يقرأ و يقلب صفحات كتبنا القديمة.
بروميثيوس
ثمّة أساطير أربع تدور حول بروميثيوس: وفق الأولى، أنه شُدّ إلى صخرة في القفقاس، لخيانته الآلهة عند البشر. فأرسلت الآلهة نسوراً تتغذى من كبده المتجددة على الدوام.
الثانية، إن بروميثيوس، والمناقير الممزِقة تنخسُه ألماً، راح يلجُّ في الصخرة عميقاً، بحيث صار جزءاً منها.
أما الثالثة فتقول: إن خيانتَهُ كانت قد نسيت بمرور آلاف السنين، نسيتها الآلهة والنسور، نسيها هو نفسه.
والرابعة، حسبها أن الجميعَ قد تعب من هذه القضية التي ليس لها مغزى، الآلهة، النسور، الجرح نفسه التأم من الإنهاك.
عندئذ بقي معظم الصخرة المبهم. فالأسطورة حاولت توضيح ما لا يمكن توضيحه. ولأنها آتية من أساس الحقيقة، فأنها ستنتهي في المجهول.
الرغبة في أن تكون هنديا
لو كان المرء هنديا، دائم الأستعداد، ممتطيا حصانه السريع، منحنيا في الريح، يرتجف قليلا كلما أهتزت الأرض تحته، حتى يشد على المهماز، حيث لا مهماز هناك، ويرخي العنان، حيث لا عنان هناك، وما يكاد أن يرى الأرض أمامه مثل حقل محروث، حتى يضيع عنق الحصان ورأسه.
رسالة الامبراطور
الامبراطور، هذا ما يروى، بعث لك، أيها العبد البائس، أيها الظل الدنيء الهارب من شمس الامبراطور الساطعة الى أقاصي الأرض، لك لا لغيرك بعث الامبراطور رسالة من سرير الموت. طلب من الرسول أن ينحني عند السرير وهمس في أذنه بالرسالة التي كانت تهمه كثيرا، بحيث طلب من الرسول أن يكررها في أذنه.
بعد ذاك هز رأسه مؤكدا على صحة ما قيل أمام الحشد الذي جاء لمشاهدة موته، مخترقا كافة الجدران التي قد تمنعه عن متابعة المشهد. على درجات السلم الواسع المرتفع شكل كبار المملكة دائرة، أمام هذا الحشد أدلى الامبراطور بتوصياته للرسول الذي سرعان ما أنطلق يشق لنفسه بهذه الذراع أو تلك طريقا وسط الجمهور، معتمدا على قوة بنيانه وإصراره على تنفيذ وصية الامبراطور. وكلما أعترضه شخص أشار بيده الى صدره الذي يحمل شعار الشمس. ورغم انه كان ماهرا في شق طريقه، غير ان الحشد أستمر هائلا يتوزع في أحياء لا نهاية لها. ولو وجد أمامه مساحة مفتوحة لحلق طائرا، وكنت ستستمع دقات يده الرقيقة على باب بيتك. لكن، بدلا من ذلك، تراه يبذل عبثا جهدا كبيرا محاولا التحرر من قاعات القصر الداخلية التي لن يتجاوزها أبدا، وحتى لو تم له هذا، لن يكون قد كسب شيئا، حيث يجب عليه الآن أن يناضل لتسلق السلالم، وحتى لو تحقق له ذلك فأنه لن يربح شيئا، إذ ينبغي عليه الآن أن يقطع الساحات الداخلية للقصر، وبعد ذلك ساحات القصر الثاني المحيط بالبلاط، سلالم وأحواش، ومن ثم قصر آخر، وهلم جرى خلال الاف السنين، ولو أفترضنا أنه تمكن أخيرا من مغادرة البوابة الخارجية، وهذا ما لن يحصل مطلقا، سيجد نفسه أمام العاصمة الغارقة في رواسبها، في قلب العالم. لا أحد يمكن أن يخترق هذه المدينة، خاصة إذا كان يحمل رسالة من ميت. أما أنت فأنك تتطلع من النافذة وتحلم بالرسالة حين يحل المساء.
القنطرة
كنت متخشبة وباردة، قنطرةً تمتد عبر الهاوية. على جانب منها ثبتت قدماي في الصخر، وفي الجانب الآخر يدي، غرزت أسناني في الطين، بينما راحت الريح تحرك أطراف ثوبي يمينا ويسارا. في الأعماق ضجيج الجدول الجامد، حيث تعوم الأسماك. لا سائح يمر بهذه المنطقة المرتفعة، ولم يكن موقع القنطرة موجودا حينها على الخرائط. لذا تمددتُ عبر الهاوية وأنتظرتُ: كان يجب أن أنتظر. القنطرة تبقى قنطرةً إن لم تتهدم.
ذات مساء، لا أدري أكان اول الأماسي ام آخرها، كانت أفكاري مضطربة ومكررة. مساءً في الصيف، كان خرير الجدول بعيدا، سمعت خطوات رجل تقترب. إقترب! إقترب! تمددي أيتها القنطرة، تحولي شرفة بلا سور، أمسكي بمن يجب عليك حمايته. وازني قلق خطواته دون أن يشعر بذلك، وحين يفقد توازنه فدعيه يراك كما لوكنت إلها جبليا، يبعده عن المخاطر.
جاء ودق بعصاه على جسدي، ثم رفع ثوبي والقاه على جسدي. مرر العصا على شعري الكث وتركها فترة طويلة هناك، وربما راح يتطلع حوله بعصبية. فجأة – شاركته الحلم عبر الوادي والجبل- قفز بقدميه الى وسط جسدي. أرتجفت بسبب الألم دون أن أعرف السبب. من هذا؟ أهو طفل أم حلم؟ أهو لص أم راغب في الإنتحار؟ هل هو غاو، أم قاتل؟ أستدرت لأراه. ألقنطرة تستدير. وقبل أن أستدير سقطت، سقطت وتمزق جسدي متناثرا على الأحجار التي كانت في وقت ما تنظر نحوي بسلام من خلال التيار السريع.