شللي: دفاعاً عن الشعر
محمد يوسف نجم
شللي (1792-1822) دفاعاً عن الشعر
ترجمة محمد يوسف نجم: ... يمكن أن يقال في تعريف الشعر بمعناه العام أنّه "التعبير عن الخيال" والشعر مرتبط بأصل الإنسان. ففي شباب العالم كان الناس يرقصون ويغنّون ويحاكون مظاهر الطبيعة، محافظين في هذه الأفعال، كما في غيرها، على نوع من الإيقاع أو النظام. ومع أنّ هذا النظام كان متشابهاً إلاّ أنّه لم يكن واحداً عند الجميع، في حركات الرقص وفي ألحان الأغاني وفي تراكيب اللغة وفي محاكاتهم لمظاهر الطبيعة. إذ لكل نوع من أنواع المحاكاة هذه نظامٌ أو إيقاع خاص، يولّد في نفس السامع أو المشاهد نوعاً من اللذة أقوى وأصفى مما يؤديه غيره. أنّ حسّ الاقتراب من النظام هو ما يسمّيه الكتّاب المحدثون "الذوق". لقد كان كلّ امرئ في طفولة الفن يلاحظ نوعاً من النظام، يقترب به اقتراباً كثيراً أو قليلاً، إلى ما يبعث في نفسه ذلك السرور العظيم. على أن الاختلاف لم يكن واضحاً تمام الوضوح، إذ أنّ تدرجه ينبغي أن يكون محسوساً، إلا في تلك الحالات التي يكون فيها سيطرة ملكة الاقتراب من الجميل (وهذا هو الاسم الذي يباح لنا أن نطلقه على تلك الصلة بين هذه اللذة القصوى وسببها) طاغية. هؤلاء الذين توجد فيهم هذه الملكة بدرجة عظيمة هم الشعراء بالمعنى الأعمّ لهذه الكلمة. واللذة التي تنتج عن الطريقة التي يعبرون بها عن أثر المجتمع أو الطبيعة في عقولهم، تصيب الآخرين، وتعود بنوع من الصدى المضاعف من تلك الجماعة. ولغتهم مجازيّة حيويّة. أيّ أنّها تجلو تلك العلاقات بين الأشياء التي لم تكن مفهومة من قبل، وتتابع جلاءها حتّى تغدو الكلمات التي تمثّلها مع الزمن لقطاعات أو طبقات من الأفكار بدلاً من أن تكون صوراً لأفكار متكاملة. وإذا لم يظهر بعد ذلك شعراء جدد يبثّون الحياة في تلك العلاقات التي كانت مختلة، فإنّ اللغة ستصبح أداة عاجزة عن التعبير عن الأغراض الإنسانية النبيلة. هذه المشابهات أو الروابط، هي التي قال لورد بيكون بأنّها في النهاية "آثار أقدام الطبيعة نفسها التي انطبعت على مظاهر العالم المختلفة" وهو يعتبر الملكة التي تحتفظ بها، مستودعاً لأوليّات المعرفة بأنواعها. لقد كان كل مؤلف في طفولة المجتمع شاعراً بالضرورة. لأنّ اللغة نفسها هي شعر، ولكي تكون شاعراً ينبغي أن تدرك ما هو حقيقي وجميل، أيّ الخير الذي يوجد في العلاقة القائمة أولاً بين الوجود والملاحظة، وثانياً بين الملاحظة والتعبير. وكلُّ لغة أصيلة قريبة من منابعها هي في ذاتها مضطرب من القصائد البطوليّة. أمّا تكاثر المفردات والفروق النحويّة فإنّها من صنع أجيال لاحقة، وليست سوى الدليل أو الشكل لما خلقه الشعر.
ولكن الشعراء، أو من يتخيلون هذا النظام الذي لا يفنى ويعبرون عنه، ليسوا مؤلّفي الكتابة والموسيقى والرقص والعمارة والنحت والرسم وحسب، بل هم أيضاً مشرّعو القوانين ومؤسسو المجتمعات المدنيّة، ومخترعو فنون الحياة، والمعلمون الذين يستطيعون الاقتراب من الجميل والحقيقي، ذلك الفهم الجزئي لحقائق العالم غير المرئي الذي يدعي بالدين. ومن هنا كانت الأديان الأساسيّة رمزية أو توحي بالرمز، وكان لها، مثل يانوش، وجهان أحدهما كاذب والآخر صحيح. وقد كان الشعراء في فجر العالم، وفقاً لظروف العصر والأمّة التي ظهروا فيها، يُدعون مشرعين أو أنبياء. والشاعر في حقيقة أمره يضم هاتين الخاصيتين ويجمع بينهما، إذ أنّه لا يشاهد فحسب الحاضر كما يتراءى، بعمق، ويكتشف تلك القوانين التي ينبغي أن تنتظم الأشياء المائلة وفقاً لها، بل يرى المستقبل في الحاضر. وأفكاره هي بذور أزهار الزمان الراهن وثماره اللاحقة في وقت معاً.
وهذا لا يعني أنّني أوكّد أن الشعراء أنبياء بالمعنى الكامل للكلمة، وأنّهم يستطيعون التنبؤ بأشكال الأحداث بثقة كما يعرفون روح الأحداث: إنّ هذا لهو دعوى الأساطير التي قد تجعل الشعر صفة من صفات النبوّة بدلاً من أن تعتبر النبوّة صفة من صفات الشعر. إن الشاعر يشارك في الخالد والمطلق والواحدد، وليس للزمان والمكان والعدد صلة بمفهوماته وتصوراته. فالأشكال اللغويّة التي تعبّر عن حالة الزمن، واختلاف الأشخاص، وتباين الأمكنة كلّها قابلة للتحوّل في نطاق أسمى ضروب الشعر دون أن تمسّه باعتباره شعراً. وجوقات أسخيلوس، وسفر أيوب، وفردوس دانتي قد تزودنا أكثر من غيرها بأمثلة على هذه الحقيقة... كما أن مبدعات النحت والرسم والموسيقى هي شواهد أقوى دلالة.
(...)
إنّ جميع الاعتراضات التي تثار... حول خلود الشعر، تستند إلى فكرة خاطئة حول الطريقة التي يعمل بها الشعر ليؤدي إلى ترقية الإنسان من الناحية الأخلاقيّة. إنّ علم الأخلاق ينسّق العناصر التي خلقها الشعر، ويرسم الطريق ويقدّم الأمثلة على الحياة المدنيّة والبيتيّة: وليس الافتقار إلى المبادئ القويمة هو الذي يدفع الإنسان إلى أن يبغض بطريقة أخرى أكثر سموّاً. إنّه يوقظ العقل ويوسّع نطاقه إذ يجعله قادراً على تلقّي ألوف من مركّبات الأفكار غير المدركة. إنّه يكشف القناع عن الجمال الخفي في الدنيا ويجعل الأشياء المألوفة تبدو وكأنّها غير مألوفة. إنّه يعيد خلق الأشياء التي يعرضها. وتلك المجسّمات التي تتدثّر بنوره البهيج، تمثّل في عقول أولاء الذين سبق لهم أن تأمّلوها تذكاراً لذلك المعنى الرفيع المجيد، الذي يفيض من ذاته على جميع الأفكار والأفعال التي يعيش معها. إنّ جوهر الأخلاق هو الحب، وهو تنازل منّا عن طبيعتنا وإدماج لذواتنا في الجميل الذي يقوم في فكر غير فكرنا أو فعلنا أو شخص سوانا. وإذا أراد الإنسان أن يكون عظيم الخير وجب عليه أن يكون عظيم الخيال واسعه. وعليه أن يضع نفسه في مكان الآخرين، أو، تصبح آلام جنسه ومسرّاته ملكاً له. وأعظم وسيلة لتحقيق الخير الأخلاقي هو الخيال. والشعر يقود إلى النتيجة بالتأثير في السبب. إنّه يوسّع دائرة الخيال إذ يفعمه بأفكار ذات متعة لا تخلق جدّتها. وهذه الأفكار قادرة على أن تجتذب إليها الأفكار الأخرى تتمثلها في طبيعتها. وهي تخلق فترات وفجوات يتوق خواؤها دوماً إلى طعام جديد. إنّ الشعر يقوّي الملكة التي هي أداة الطبيعة الأخلاقية في الإنسان كما تقوّي الرياضة العضو. فالشاعر إذن يسيء صنعاً حين يجسّد أفكاره عن الخير والشر، وهي ترتبط عادة بمكانه وزمانه، في مخلوقاته الشعريّة التي ليس لها علاقة بذلك الزمان والمكان. ذلك أنّه حين يفترض خسة الدور الذي عليه أن يؤديه في تفسير النتيجة – وهي نتيجة قد نتحلل منها في النهاية تحللاً جزئياً – فإنّه قد يفلت المجد المتاح من مشاركته في السبب. لم يكن ثمّة كبير خطر في أن يسيء هوميروس، أو أيّ شاعر آخر من الشعراء الخالدين، فَهْمَ نفسه إلى حدد أن يتخلّى عن عرش سلطانه الواسع هذا. أمّا الشعراء الذين كانت موهبتهم أقلّ عمقاً، على عظمها، أمثال يوربيس ولوكان وتاسو وسبنسر، فإنّهم كانوا دوماً ينتحلون غايات أخلاقيّة. وكان أثر شعرهم يتناقص تناقصاً مطرداً مع الدرجة التي يحملوننا فيها على أن نلتفت إلى هذه الغاية.