المسألة ليست في الشاعرية
ترجمة الشعر هي أصعب أنواع الترجمة، لكن الشعر انواع متعددة واللغات المترجم منها واليها كثيرة، هنالك قصائد سهلة ومعناها سلس وفي متناول الترجمة القاموسية، وهنالك قصائد صعبة ومعقدة ومعناها متجذر في ثقافة اللغة وتراثها الحضاري، هنالك قصائد موزونة ومقفاة باحكام شديد وموسيقاها جزء لا يتجزأ من بنية القصيدة وربما معناها، وهنالك قصائد حرة لا تضع قيودا على ترجمتها الى لغة أخرى، هنالك قصائد موضوعية تتناول وصفا لشيء او شخص او حالة من الخارج وهنالك قصائد متغلغلة في نفس الشاعر تستلهم اساطير ومعتقدات وصورا من أعماق اللاوعي يصعب التوصل الى وصفها في لغة أخرى.
المسألة اذاً ليست في شاعرية المترجم، بل في نوعية القصيدة وموضوعها وصياغتها وزمنها ايضا، والمسألة تتعلق بقدرة المترجم على نقل القصيدة على أنها قصيدة كتبها شخص غيره فلا يكون هو صاحب النص المترجم، وهذه معضلة تواجه المترجمين من الشعراء، اذ كثيرا ما تكون القصيدة مصدر الهام ونقطة انطلاق لانتاج قصيدة جديدة من وحي الاصل، والحس الشعري قوي عند الشاعر وعليه فانه يواجه تحديا أكبر للتحكم في امكاناته الشعرية ووقفها من التدخل وصياغة ماهو ليس من صلب النص الأصلي، كذلك فعلى المترجم ان يخرج نصا ينم عن الأصل بشكل أو آخر، فلا يجوز أن تلبس القصيدة الانجليزية مثلا لباس القصيدة العربية فتبدو وكأن مؤلفها عربي، والمترجم بلغة عصرية لنص قديم يجب أن يبقى على المسحة الكلاسيكية للقصيدة ويحرص على انتقاء مفردات تتماشى مع زمن كتابة القصيدة ولا يظهرها كنص معاصر.
كل تلك المتطلبات التي يجب أن يلتزم بها مترجم القصيدة لا تستدعي فقط الحس الشعري للمحافظة على جماليات القصيدة في الترجمة، بل تستدعي الحس الزمني والحس اللغوي والحس الثقافي بشكل عام، لذا فان افضل من يترجم الشعر، سواء كان شاعرا او غير ذلك، هو شخص متمكن ومطلع ومثقف، اي ان المترجم لأي عمل شعري يجب ان يعرف خلفية كتابة تلك القصيدة وأن يتقن اللغة التي كتبت بها والا يعتمد فقط على المعنى القاموسي للكلمات، خاصة وأن القواميس لا تعطي معنى واحداً للكلمة، بل مجموعة من المفردات المرادفة للكلمة في لغة أخرى، فعلى أي اساس يكون اختيار الكلمة الأنسب لوصف ما ورد في القصيدة ان لم يكن المترجم ملماً بحيثيات كتابة القصيدة؟
الدكتور طلعت شاهين الشاعر والمترجم عن اللغة الاسبانية ومدير المركز الاعلامي الدولي في دبي الذي أكد أن الشعر ليس لغة نثرية مختلفا عن المتداخلين حول مسألة الشرط الشاعري للترجمة.
ترجمة أقرب إلى الابداع الأصلي
الترجمة الابداعية تعتبر - في رأينا - ابداعا موازيا، لأنها تحاول ان تجد معادلا موضوعيا للنص المنقول منه حتى لا يشعر القارئ بالاغتراب على النص الناتج عن عملية النقل من اللغة الأجنبية التي يجهلها القارئ بالضرورة والا ما لجأ إلى قراءة النص المترجم لو أنه كان يجيد اللغة المنقول منها.
وهناك شروط عديدة يجب ان تتوفر في من يتصدى لعملية الترجمة، بعضها ضروري للقيام بأي عمل في مجال الترجمة الابداعية، بغض النظر عن نوعية العمل المراد نقله من لغته الأصلية الى لغة ثانية، ولكن ترجمة الشعر من اي لغة كانت إلى لغة أخرى تتطلب حساسية خاصة قد لا تتوفر لدى المترجم مهما كانت خبرته العملية كبيرة، فالشعر ليست لغة نثرية تحمل معانيها الواضحة بل هي لغة محملة في كثير من الأحيان مشاعر خاصة ترتكز على ثقافة الشاعر مبدع الكتابة الشعرية، اضافة الى ما يمكن ان تحمله القصيدة من ثقافة تراثية خاصة جدا تمثلها الشاعر ودخلت كتابته الشعرية خلال العملية الابداعية ومن هنا يتطلب ان يكون المترجم علاقة ما بالشعر كابداع، وان يكون المترجم نفسه شاعرا فهذا مطلوب للوصول إلى أفضل الترجمات، لأن المترجم في هذه الحالة يعايش النص بالحساسية ذاتها التي عايشها المبدع الأول اثناء الكتابة فتكون الترجمة اقرب الى الابداع الشعري الاصلي.
بالطبع هذا الحكم ليس مطلقا، بمعنى أنه قد يكون هناك مترجم يتصدى لعملية ترجمة الشعر ويقدم للقارئ نصا مترجما قريبا من النص الأصلي المترجم عنه، حيث يمكن - في رأيي - لمتذوق الشعر الجيد ان يترجم نصا شعريا بشكل جيد لأن بعض المترجمين وان لم تتوفر لهم ملكة الابداع في الشعر فهم يمتلكون الحساسية في التذوق وهذا يضعهم على حدود النص ويجعلهم اقرب من غيرهم في الوصول الى ما يخبئه النص من معان كامنة.
الدكتورة زهرة أحمد حسين استاذة اللغة الانجليزية في جامعة الكويت اشترطت تجاوز المحمول الحرفي والتعدد المهاري والتعامل مع الاشكالات البلاغية..
عشوائية فك التشفير
وجهة نظرنا ان فعل الترجمة الأدبية تستدعي أن يكون المترجم متمرسا بجماليات الأدب والاستراتيجيات النصية، لكن ليس من الضروري أن يكون شاعرا أو روائيا أو مسرحيا، ونبني وجهة نظرنا هذه على طبيعة فعل الترجمة، فالترجمة خطاب ثان متكافئ مع خطاب يسبقه، لذا فمن الضروري أن يعرف المترجم النقاط التي تنظم عملية الارساء الدلالي في النص، اي معرفة العناصر التي من شأنها ان تفيد وتضبط وتلجم ما يطلق عليه النقاد "فك التشفير على نحو عشوائي"، وان يعرف المترجم كذلك المجال السيميائي أو الدلالي (ما يطلق عليه النقاد بالفضاء السيميائي) للنص.
المترجم الكفؤ للأدب عملة نادرة، لأنه ينبغي أولا أن يمارس اسكات الذات، فيكون جل ما يمارسه هو فن الانصات إلى اعتمالات النص الأصلي، ومراقبة اشاراته ومعانيه وان يحسن كذلك هندسة الترجمة بحيث تعكس وجهة النص الأصلي وتضاريسه الدلالية وغنائية وايقاعاته.
ما يهم في الترجمة أولا ليس شاعرية المترجم بل ممارسة المترجم الفهم العميق للنص أولا، اي استشراف الاستبطان الذي يحتويه النص، فالترجمة الادبية، بعكس ترجمة العلوم البحتة والعلوم الانسانية، وكذلك التقارير المختلفة، مكابدة، لأن النص الشعري اشكالي في جوهره، وترجمته ترجمة موفقة يتطلب اولا الكشف عن اسلوبياته وجمالياته الشعرية. وهو امر يتطلب صبرا، ويتطلب الاطلاع على مادة بحثية تعين المترجم على سبر أغوار النص المتوارية.
الترجمة الأدبية تستوجب تجاوز المحمول الحرفي الأولي والشائع في النص المصدر، ولنأخذ على سبيل المثال كلمة الكركدن وهي كلمة مفتاحية في احدى قصائد الشاعر الفلسطيني توفيق صايغ، فيورد قاموس المورد التعريف التالي: خرتيت، وحيد القرن، كركدن البحر حيوان اسمه بالانجليزية Narwharl اما المعجم الوسيط فيذكر: حيوان ثديي، من ذوات الحافر، عاشب، عظيم الجثة، كبير البطن، قصير القوائم، غليظ الجلد، له قرن واحد قائم فوق انفه، ولذلك يقال له (وحيد القرن) وهو هندي افريقي، بينما ما تقصده قصيدة توفيق صايغ هو اليونيكورن Unicorn وهو حيوان خرافي يشبه المهرة البيضاء الجميلة الرشيقة، والفرق بين غلاظة الخرتيت وجمال ال Unicorn هو فرق الثرى من الثريا.
برأي أن المترجم الكفؤ هو أولا وأخيرا باحث متعدد المهارات، فيكون لديه معرفة وطيدة باللسانيات والصوتيات، وان يعرف جيدا النسق الاصلاحي في اللغة والهدف، وان يكون عنده المقدرة أن يجس نبض النص الأصلي، فالنص الأول المصدر لا يشرع ابوابه للمترجم الا اذا قرأه المترجم من الداخل، ان يكون لديه "طول البال" فيتعامل مع اشكالات الصور البلاغية، لأن كل صورة بلاغية أو استعارة تنأى عن نمط الكليشيهات، تتضمن تشفيرا ثقافيا، عالي الخصوصية، احيانا يتطلب فك التشفير تقصي الاحالات المتوارية والتي قد تكون اسطورة، أمر حكاية، او أهزوجة فكلورية، او سيرة بطل تاريخي واحيانا أغنية شعبية.
خلاصة، بات من الضروري دعم الترجمة الادبية بشتى الطرق لأن فضاء الأدب رحاب مندلق للمفارقات التي تعصف بالحياة والأدب العربي جدير بان ينعكس في مرآة المشهد العالمي، وان الترجمة معبر فسيح للتلاقح الثقافي والتواصل الانساني).
نقلا عن "الرياض" السعودية