إميلي برونتي (1818-1848)
وُلدتْ إميلي برونتي في 30 تموز عام 1818 في مدينة صغيرة في مقاطعة يوركشير الغربية الإنجليزية.
كان بيتهم، الواقع عند حدود المدينة، يطلُّ على مرتفعات مستنقعية شبه جرداء تكسوها الطَّحالب، ولم يكن هناك في الشتاء منظر يدعو للكآبة واليأس أكثر من هذه المرتفعات أما في الصيف وعندما يزهر "الخلنج" بساطاً واسعاً متلألئاً بالألوان الزهر والأحمر الشاحب والأرجواني الفاقع فلم يكن هناك ما يضاهيها روعة وسحراً. كانت هذه المرتفعات المكان المحبَّب إلى قلب باتريك برونتي يمضي عليها الساعات الطوال متنزهاً مع أطفاله. باتريك برونتي الرجل الوحيد بعد أن ماتت زوجته وتركت له ثلاث بنات هنَّ شارلوت وإميلي وآنا وصبيَّاً واحداً هو باتريك برينويل.
كانت إميلي تعشق بيتهم الذي تعبث فيه الريح من كل الاتجاهات وكانت تشعر بالألم إذا ابتعدت عنه. وهي في الواقع لم تفارقه كثيراً. ويمكننا القول أن حنينها إليه كان مَرَضيَّاً. غادرتْ إميلي البيت للمرة الأولى وهي طفلة في السادسة من عمرها، إذ أرسلها والدها مع اختها الأكبر سناً شارلوت إلى مدرسة داخلية خاصة بأبناء قساوسة الريف. ولكن الأب سرعان ما سيعيد شارلوت وإميلي إلى البيت وذلك لأنهما لم تحتملا نظام المدرسة الصارم والغربة عن البيت وقرر أن يقوم بتعليم أولاده بنفسه فأشرف على مطالعاتهم وشجَّعهم على حبِّ الرسم.
ستغادر إميلي البيت للمرة الثانية بعد مرور عشرة أعوام في محاولة جديدة للحصول على تعليم منهجي. ولكن هذه الفتاة الناحلة الشاحبة الوجه بعينيها اللتين تشبهان عيني المها وشعرها الأسود الفاحم الطويل المعقود ضفيرة خلف ظهرها ستفشل من جديد ليس في الحصول على التعليم بل لأن شوقها إلى بيتها تحول ألماً حقيقياً ومرضاً فخافتْ أختها شارلوت، والتي كانت مُدرِّسة في نفس المدرسة، من العواقب فأعادتها إلى هوغورت. وستتابع آنا، التي تصغر إميلي بعامين فقط والتي تتمتع بصحة وتوازن نفسي أكبر، دراستها في نفس المكان.
هذا الحادث بالذات سيزيل كلَّ الشُّكوك التي روادت العديدين من النقاد الذين كتبوا حول إميلي برونتي والذين اعتبروا أن حياتها في هوغورت كانت قاسية مليئة بالحرمان. وفي واقع الأمر فإن مشكلة الأخوات برونتي لم تكن في أنهنَّ كنَّ مضطرات للعمل في التدريس من أجل الحصول على لقمة العيش. فمن وجهة نظرنا، نحنا أبناء هذا العصر الذي صارت فيه المرأة العاملة أمراً بديهياً لا نرى ما يدعو للشفقة والعطف في وضع إميلي برونتي, خاصة أن الشقيقات برونتي وإميلي بشكل خاص كن متقشفات حقا, وهنُّ في كتاباتهن يؤكدْن عدم أهمية الأشياء المادية، تماماً مثلما كن في حياتهن العملية. وإميلي تعرف جيداً أنها تعود إلى البيت لا لكي تعيش في سجن منعزل عن العالم بل على العكس .. فهي هنا كانت تشعر بحريتها المطلقة، وهذا ما كانت تفتقده بعيداً عن البيت. وهي إنْ حَكمتْ على نفسها بالعزلة فإن ذلك بسبب تراجيديتها الداخلية، تراجيدية الموهبة الفذَّة في: "أكثر العصور مللاً وضجراً، كما أطلق على ذلك العصر "أوسكار وايلد". ودراما إميلي برونتي ليست نادرة في عصر الرومانتيكية ذاك. وسبب تراجيدية روحها هي في ذاك الصراع الدائم مع النفس والشعور المطلق بعدم الرضى، الذي كان دائماً مصدر ألم لا ينتهي للنفوس المتميزة العميقة.
مما لا شك فيه أن إميلي لم تكن تتميز بطبع اجتماعي ولم تكن سهلة المعاشرة وربما لهذا لم تكن لديها صديقات أبداً، على عكس أختيها، أما عن الحب والرجل فهذا عالم آخر لا تعرفه أو هو ينتمي إلى ألم الحرمان الداخلي؟ كان طبعها شديد التناقض فهي أحياناً حادة, عنيدة، متشبِّثة ومتعصِّبة لآرائها، وفي نفس الوقت كانت شديدة التحمُّل مع أولئك الذين تحبهم ومتفانية في العطاء والإثرة. كانت تضع الواجب فوق كل شيء. فها هي بعد موت خالتها التي قامت بالإشراف على تربية أبناء أختها تغادر بروكسل غير أسفة وتعود إلى بيت أهلها للإشراف على والدها الذي بدأ يفقد بصره بالتدريج، وتشرف على رعاية أخيها الرجل الفاشل الذي أدمن الكحول وبدأ يتعلق بالأفيون، بالإضافة إلى إصابته بداء السِّل .. تقوم بكل هذا بإخلاص وتفان، وهي ستقف بجانب أخيها في لحظاته الأخيرة وتساعده على النهوض من الفراش لأنه أراد أن يلقى موته واقفا على قدميه.
كانت إميلي مصابة بداء السِّل ولكن هذا لم يمنعها يوماً من أن تنهض كلَّ صباح قبل الجميع، تشعل النار في الموقد .. تعجن العجين وتخبزه وتهيء طعام الفطور قبل أن تستيقظ الخادمة العجوز توبي وتدخل إلى المطبخ. كانت تصيبها الحمَّى بشكل مستمر، وسعالها لم يعد ينقطع إلا نادراً ولكنها لم تكن تسمح لأحد بأن يشفق عليها. وها هي شارلوتا تكتب عن قلقها الشديد لصديقتها: "إنها تبدو شديدة الشحوب وقد نحلتْ كثيراً، ولكن من العبث سؤالها عن صحتها فهي لن تجيب بشيء، ومن العبث أكثر نصحها بتعاطي الأدوية، فهي ترفض ذلك بشكل قاطع".
في صباح 18 كانون الثاني (ديسمبر) من عام 1848 استيقظت إميلي صباحاً دخلت المطبخ كعادتها وقامت بإعداد الفطور وبعد تناول الطعام جلست تُحيْك شيئاً ما، تماماً مثلما كانت تفعل كل يوم, ولكن ربما كانتْ أنفاسُها أكثرَ تسارعاً هذا الصباح، وشحوبُها أكثرَ وضوحاً للعيان، وذلك البريق الغريب في عينيها أشدَّ لمعاناً. هذا يعني فقط أنها اليوم تبذل جهداً أكبر في مقاومة المرض. وعند الظهر، وللمرة الأولى في حياتها طلبتْ أن يُرسلوا لإحضار الطبيب وصعدتْ إلى فراشها لتفارق الحياة بعد ساعتين فقط.
فارقتْ إميلي الحياة وهي لم تتجاوز الثلاثين من العمر لتترك رواية واحدة هي (مرتفعات وذيرينغ) أو (المرتفعات التي تعصف فيها الريح) وحوالي مائتي قصيدة شعر. نُشرتْ رواية (المرتفعات التي تعصف فيها الريح) قبل أن تموت الكاتبة بعام واحد ولكنها لم تلق أي اهتمام. بالإضافة إلى أنها نُشرتْ تحت اسم أختها شارلوتا التي كانت قد نَشرت من قبل روياتِها "جين إير" وقد حصلت على بعض الشهرة. ولا أحد يعرف حتى الآن سبب هذا الخطأ هل هو خطأ عفوي أم أن الناشر أراد أن يستفيد من اسم شارلوت التي حصلت على بعض الشهرة؟
وسيتغير الوضع بعد موت إميلي تغيراً جذرياً وستُحدِث الرواية تأثيراً لا يوصف على جماعة البريرافائيليين، هؤلاء الثوار ضد الأكاديمية في الفن. وسيكتب الناقد روسيتي عن هذه الرواية: "أحداث هذه الرواية تجري في جهنم بالرغم من أن الأماكن والأشخاص تحمل أسماء إنجليزية"
رواية (مرتفعات ويذيرينغ) وَضعَت النقاد في موقف صعب للغاية وذلك في محاولاتهم تحديد هوية الاتجاه الفني (هل هي تنتمي إلى الاتجاه الرومانتيكي أم الواقعي؟) فهذه الرواية لا تنسجم تماماً مع أي منهما, وقد يكون الأقرب للواقع أن نسميها توليفة للاتجاهين. فهذه الرواية الواقعية في أساسها تزخر بالتقاليد الرومانتيكية. ومن هذا المزيج وُلدتْ واقعية سحرية نادرة تثير الحيرة في نفوس المعاصرين.
وما يميز هذه الرواية ويسبب تفرُّدَها هو الفكرة الواقعية المحضة، التي عبَّرتْ عنها عبْر الرَّمزية الرومانتيكية (حتى اسم البطل الرئيسي هيثكليف يعني: القمة التي ينمو عليها الخلنج) وجعلت الكاتبة من الصراعات الواقعية الحياتية ميثيولوجيا، مما جعلها تتضاعف في حجومها، وترتفع بالخاص إلى شمولية فضائية، وتحول الزمن في سيره السريع إلى مقياس أبديّ. وقد قال الناقد ف. وولف: "أبطال إميلي برونتي لا يقولون ببساطة: "أنا أحب" أو "أنا أكره"، بل هم ينادون: "نحن أبناء البشر"، و "أنت أيتها القوى الأبدية".
بطلة إميلي برونتي تكتشف وهي على فراش الموت أنها عندما خانت هيثكليف بتركها المرتفعات الجبلية ونزولها إلى السهل فهي إنما خانتْ نفسَها وحقيقتها وحكمتْ على نفسها بالموت. إن جوهر التراجيديا لدى برونتي مثله لدى شكسبير، وهو أنَّ أبطاله يموتون ليس موتاً جسدياً، بل أَّنَّ ما هو إنساني ومثالي في داخلهم يتزعزع. وها هو هيثكليف يعانق كاترين وهي تلفظ أنفساها وبدل أن يخفِّف من ألمها ويواسيها فإنه يصرخ في وجهها بالحقيقة المرة: "لماذا خُنْتِ قلبكِ يا كاترين؟ ليس لدي كلمات أواسيك بها. أنت تستحقين ما يحدث لك. أنت أحببتِني فبأيِّ حق تركتِني؟ أجيبي بأي حق! لست أنا من حطَّم قلبكِ أنتِ فعلتِ ذلك بنفسكِ، وإذ حطَّمتِه فقد حطمتِ قلبي أيضا. وأسوأ ما في الأمر إني متين البنية. كيف سأتحمَّل الحياة؟ وأي حياة هذه عندما لا تكونين موجودة .. يا إلهي! هل كنتِ سترغبين في الحياة إذا كانت روحك تسكن القبر؟".
إميلي برونتي هذه الفتاة المحيرة وروايتها اللغز وأشعارها الغامضة! ويطرح سؤالٌ نفسَه: أين تكمن ينابيع العبقرية؟؟؟، وهل يمكن الوصول إلى جواب على هذا السؤال؟ وهل هناك جواب!!؟ غموضُ هذه الرواية العذبُ أليس هو الذي يشدُّنا اليوم، في عصرنا العقلاني المُغْرق في عقلانيته إلى هذه الكاتبة التي كانت إدانة وتحدياً للمجتمع الفيكتوري. ولكل المجتمعات التي عرفتها البشرية منذ ظهورها وحتى يومنا هذا. هذه المجتمعات التي يخوِّن فيها المرء نفسه كل يوم، منذ لادته وحتى موته.