دمى الأخوات القطنية, وجنود باتريك الخشبية
تحولت في مخيلتهم إلى أبطال من التاريخ, يطلقون عليها أسماء العظماء. تتحرك بوحي أقلامهم إلى فصول قصصية تسترعي الدهشة. وإن برعوا جميعا , لكن الأب كان يبالغ في الإطراء على مواهب باتريك, وتزيل الخالة تقطيبة الشقيقات بقولها "تذكرن أنه الصبي الوحيد.. وقد يكون.. وتتدارك زلة لسانها, ليفهمن ما كادت تنطق به, يقابلن الموقف بالدعاء.. رحمتك أيتها السماء.. رباه ليتبارك اسمك.. انتشل لنا باتريك من براثن المرض!".
الحيرة ستراود القارىء, وتطرح الأسئلة نفسها بإلحاح. أتحلق الطيور تحت سقف منخفض?
وتلك العائلة التي حاصرتها الظروف تحجب عنها رحابة الأفق, أليست بيئة محدودة أضيق من أن تنجب عمالقة الأقلام?
لا بد من حدث جذري بدل الأوضاع, ومن وقف وراءه شارلوت مبدعة "جين إير", عندما أطلق لها والدها الجناح للالتحاق بمعهد "راو - هيت" في القسم الداخلي. فيتوارى المنزل خلف غبار الرحيل, بينما عربة الجياد تنهب بها الأرض إلى العاصمة لندن.
وتكتشف الفتاة ما لم يكن في الحسبان بين صفوف طالبات أرستقراطيات, قابلنها بالسخرية, يهزأن من لكنتها الريفية, وملابسها الفضفاضة, ينصحنها بكي شعرها المسترسل, ليميزنها عن عجوز فاتها قطار الموضة..حصدت شارلوت أعلى الدرجات, يتصدر اسمها لائحة الشرف. لتعود بعد نهاية الشوط تحمل في جعبتها ما حمله كريستوفر كولمبوس من مجاهل الأرض.
إلى شاعر البلاط البريطاني أرسلت نماذج من قصائدها فلنقرأ ما بادرها من رد: "أجدى للمرأة أن تقود ثورة, من أن تخوض معترك الشعر النابض في قريحتنا وحدنا نحن الرجال.. حبذا لو تنكب ي يا عزيزتي على حياكة ثوب حريري.. وما أدق أناملك في إبرة التطريز!".
تهالكت شارلوت على أقرب كرسي تناجي نفسها: "لن أهجرك أيها القلم قبل أن تفارقني الروح.. ولتكن أسماء الذكور قناعا نموه به قرطاسنا"... جمعت الأخوات برونتي باكورة إبداعهن في ديوان ثلاثي صدر مذيلا تحت أسماء "بيل - جون - كوير" في غفلة عن والدهن, أما الشقيق باتريك فلم يخف تهكمه: "يا لذاك الشعر المخنث الذي وصمتن به الرجال" وإذ عاجله الموت متأثرا بداء السل, عصف حزن وعم حداد!.
الضائقة المادية شدت الفتيات ليعملن مربيات أطفال بكنف أسر ثرية, وما صادفنه في قصور الأسياد من نظرات الازدرهاء, وسوء المعاملة أجج أقلامهن. فهاجت الأفكار وماجت الذكريات ينقلن معاناة واقعية في ثالوث روائي خالد.
بزغت عبقرية إميلي في "مرتفعات ويذرنغ", ونبوغ شارلوت في "جين إير", ,أبدت "آن" موهبة لا تقل عن شقيقيتها في رواية "أغنيس غراي".
بصمات الأخوات برونتي كانت تراثا أدبيا قفز إلى لائحة العالمية منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر, ومرتبته لم تهبط حتى يومنا هذا..
الوباء الفتاك لم يستمهل "إميلي وآن" ريثما تحصدان بركة مواسم روايتهما, فأسلمتا الروح, لا يفصل بين منيتهما سوى أشهر معدودة. ويشاء للأب أن يشهد موت أبنائه جميعا , بعد أن وقعت شارلوت تصارع مصيرها المحتوم.
فوق فراش الألم تناهى إلى سمعها قرع على الباب. وعلى عبارة ساعي البريد استعادت صحوتها وهو يخاطب السيد برونتي: "عم صباحا يا سيدي.. بحوزتي رسالة تخص أولادك الذكور "توم - بيل - وكير", بشأن جائزة مالية تقديرا لديوان صدر بأسمائهم قبل سنوات" وينهره الأب بفظاظة لخطأ في العنوان. وتلتقط شارلوت ما تبقى لها من أنفاس - "استمهله يا أبت .. دعني أكلمه لأقول له أن يهرع إلى شاعر البلاط, محملا بوسام الأخوات برونتي.. وتستحضر شارلوت ذكرى شقيقها باتريك, مرددة عبارته "يا لذاك الشعر المخنث حين وصمتن به الرجال!"... وترتعش الكلمات على شفتي السيد برونتي الذي يجهل ما أقدمت عليه بناته ذات يوم.. "رباه.. لتكن مشيئتك.. مبدعة "جين إير" تهذي بعبارات لا مبرر لها.. ترى هل فاضت ملكة العقل قبل تسليم الروح"!