وبتلك السخرية والقلق الديني ينتقد الشاعر السلطة الأبوية المزروعة بكل دلالاتها الدينية ورموزها الكاذبة ومخرجاتها المدمرة لعالم الإنسانية، هي سلطة في ذاكرتنا منذ بدء( البكاء الأول للأرض) حتى حاضرنا؛ فكانت السبب المباشر في غضب الله، وما نتج عنه من حروب وأمراض وفيضانات وزلازل...
أبي ، وفي الليلِ، يحضرُ بكلِّ حياتِهِ المنهارةِ
أيامَ الآحادِ
أمّي ، يومياً تُعِدُّ وَفَيَاتِ أبي
ويختم قصيدة (الحب) الذي لا يراه حبا إلا من طرف يتمثل في رغبات تلك السلطة الأبوية وتقسيماتها المتناقضة وفلسفتها الناخرة في الوجود والخلق:
مراقَبٌ مِن قِبلِ أبي في الليلِ
مِن قِبلِ أمِّي في النهارِ
وما الذي جناه العالم من وراء هذه السلطة وذلك الحب الكاذب إلا الدمار والانقسام والتناحر ونكران الذات، وماذا صنعت تلك القوى اللاهوتية المتعصبة بتجاوزاتها وانحرافاتها المعرفية لتجنب كل ذلك ؟ وأين فلسفتها ورموزها ؟ هي أسئلة كثيرة يضعها الشاعر الفيلسوف بين يدي هؤلاء، وخصص لهم قصيدة كاملة بعنوان( ؟ )، وجاءت قصيدته (العالم اليوم) لتعبر بوضوح عن رؤيته في (شبكة الصيد)، وعالم يعتمد في ظلها على بطاقات الحظ والبروج من الدجالين الجدد، ولا يستند إلى علم إلهي في تسوية أموره، ومعالجة أمراضه:
والآن تبدو مثل غابة بلا أوراق
من جداوله مَشيتُ عارياً على الشاطئِ
يداً بيد الصحراءِ و عمارتك
و الشوارعِ التي طُويتْ في الحقائب البلاستيكية
و كُلّ النِساء
بينما كانت تطير الطيور مِنْ أصابعِي
ما عدا إنفلونزا الطيور
في الدلتا
كانت السماء تُدردشُ مع الجحيمِ
قطع منقار طيرِ يَرْعى من كف قاتل
يرتدي زي الحماية
على ساحلِ المدينةِ التائهة في اليومِ الجاري
السكان كانوا مضطجعين
رأوا مستقبلهم في بطاقات التارو
قصة حب أخرى لم تر ضوء اليوم
الإنجيلُ لا يزالُ نائماً منذُ بضعِ سنين
فأي سلطة هذه التي نثق بها وقد باعت أبناءها بأبخس الأثمان ومازالت في ديدنها وطريقها الشيطاني الذي التفت إليه الشاعر ماريوس في قصيدتي (القاعدة ) و (تعاليم أجنبي لابنه الذي باعه) :
القصة المفقودة خلال أسنانِ المساء ترقد بيننا
حول طفل تم بيعه مقابل 30 كلمة
حول أجنبي أحضر من قبل صوتِ العشبِ
لا ميت ولا حيّ
أي سلطة دينية أبوية هذه التي تعتمد على الوهم والأساطير في رسم سياستها الإنسانية وموقفها من الوجود والخلق والدين، أي سلطة ساخرة منا نسير خلفها مع (أرواح العوالمِ التي تدركُ بأنها لن تتلاقى مطلقاً) كما ورد في قصيدته (حول الوهم والتناقض) أو التزمت الصمت في قصيدته (متى كان للعالم وجه زجاجي) :
النجومُ التزمت الصمت
الليلُ يلقي ظلامه على أفكارِي
أَضِعُ اثني عشر صحنا و واحدا زيادة
ثمّ أَتناولُ عشائِي
ومن هنا ينتقد الشاعر بوضوح في قصائده التالية الأسطورة الدينية واهتمام الناس بها وتقديسها: (أغنية شعبية يومية) و(صورة الليل) و (النص المعرفي القديم) ، وهو يرفض ذلك الاتجاه الوثني في التعامل مع الأمور، ويبدو ذلك جليا في استحضاره للأسطورة الرومانية (يانوس) التي تزعم أن هناك إلها بوجهين متقابلين ينظر أحدهما إلى الماضي بينما ينظر الآخر إلى المستقبل:
يانوس بوجهِه صَنعَ من البِدايات فقط
بين ذكريات غير مشتركةِ
أترك نفسي أترنح بخطواتِ كُلّ أولئك الذين تم سجنهم
في رسالة / سجناء في كلمة
لا أحدِ يَعْرفُ متى ماتَت
بأن يكون لديك حجر
يطأه كل المتسلقين
واستعانته بطقس وثني آخر يتمثل بـ (الطوطم ) وهو رمز وثني على صورة حيوان أو جزء من إنسان تستعين به بعض القبائل لحمايتها ومتابعة حياتها بسلام:
يَعْبرُ الفجرُ حدودَ الابتسامةِ
الشهودُ يَقُولونَ
ضَفرتَ شَعرَكَ بالأصواتِ
مغطساً إياهُ بالضوءِ
تَحْملُ طوطماً في جوفِ كفِّكَ
مرسوماً بالحبرِ الأسودِ المستلِّ من صدرِ الظلامِ
ليسيِّجَ الخوفَ
وفي نفس القصيدة يعترف الشاعر بأخطائه وأنه سار يوما على درب الأسطورة ولهذا قال:
لَستُ راضيا عن نفسي
لهذا
أَغْفرُ لهم جميعاً .. بَدْءًا بنفسي
لأنَّني لم أفهمْ كيفَ تَنقضي الحياةُ
وأنتَ كيفَ تَتعوّدُ على الموتِ
كُلَّ يومٍ ..!
هذا هو عالمنا الذي قدمه لنا الشاعر الفيلسوف و رجل الدين و الناقد الأريب ماريوس كيلارو كما يبدو له في تفاحة لوركا الحمراء بظاهرها الجميل البراق وباطنها المليء بالدود والعفن، وهو يؤكد وجود هذه التفاحة ويتعامل معها من بدء الخليقة حتى وجوده ومعاصرته لها وأثرها في عالمه خلال ديوانه :
(1)
شطرتيني
وكأنَّني:
تفاحةٌ
في الحبِّ
والكراهيةِ
(2)
أقدِّمُها للأطفالِ
كما لو أنَّهم كَانوا فطائرَ تفاحٍ
مخبوزةً في صلصةِ الحكاياتِ اليتيمةِ
(3)
فالتفاحةُ كغيمةِ مطرٍ
تذرفُ دموعاً في الكفِّ
حيثُ يكُونُ السيفُ قريباً
(4)
الأيام التي من المفترض أن أنتظرها
تشبه تفاحة على حافةِ العدمِ
(5)
في الجنة القديسون يأكلون التفاح
من شجرةِ التفاح
التي لم يكترث لها أحد
ولا حتى آدم يكترث بـ حواء
والشاعر كما خرجت من فلسفته يرى الحل بالعودة إلى الله، ونبذ تلك الطقوس الدينية المبتدعة، وذلك الجدل العقيم حول لا شيء، ويبدو أنه جرب تلك الطقوس وغار في أعماقه وحاول تخطي حاسته السادسة كما فعل غيره، وراجع ذكرياته وأعاد دراستها، ولكنه لم يصل إلى ما توصلوا إليه من نكران لله، بل زاده هذا التبحر إيمانا وتصديقا، وهو بعون الله سيجد الطريق الذي نتمناه لكل إنسان، وقد عبر الشاعر عن هذه التجربة في أكثر من موقع من ديوانه كقصيدته (سجين النسيان) التي يقول فيها:
عدتُ بذاتي إلى الطفولة بأبعد ما يكون
لحد الوهم
عندما لم يمت أحد في داخلي...
حين أَستيقظُ
مقلوبا رأسا على عقب بالذكريات الباليةِ
وفي الليلِ أصبح كبدلة بهلوان مهملة
الذكريات تَهْربُ منّي أبعد من محرقة الأفكار
حيث قصص حبِّ مخبرِي السابقةِ تَحترقُ
لأجلي
أَبْقى
سجين النسيانِ
والذي جرني أو دفعني إلى القول: (سيجد الطريق الذي نتمناه) تلك القصائد التي بحث خلالها عن كوكب آخر نظيف من هؤلاء الذين انتقدهم في ديوانه ففي (عقد مع معبد الجسم) يقول:
مرابو الأيام- مسؤولو أزهار التوابيت –
يَجْلسونَ في طيّاتِ الوقتِ
مع صدر بطه
ينتظرون
نسيجا حريريا مشرقيا صغيرا مفقودا بين الآفاقِ اللانهائيةِ
حيث يباع المسيح بكُلّ صليب يَتنفّسُ
كُلّ شيء أُريدُه الآن لم يعد مختبأ وراء جسدي
بكُلّ فكره للبيع التي تبحثُ عنّي
الآن
بما أنني لون لانهائي في هذه اللحظة من الزمن
حيث لم يعد أي شيء يولد
أنطلق
وقال في قصيدة سابقة: لست راضيا عن نفسي، ويقول في قصيدة (المدينة) :
نِصْفُ اللحمِ نِصْفُ الأفكارِ
نَشْربُ دمَ الإله طوالَ الليلِ
كتفاً بكتفٍ وبعيونِ أولئكَ الذين ماتوا
نسافرُ في مركبِ تشارون
ولعل قصيدة الديوان الأخيرة (بغداد) التي جعلها الأستاذ المترجم الفذ منير مزيد خاتمة للديوان تلخص فلسفة الشاعر في الحياة ، وتؤكد رفضه لكل أشكال الهيمنة والعنف والكراهية الممزوجة بانحرافها المعرفي ومعتقداتها الخاطئة، وأهداها: (لذكرى هؤلاء الذين ماتوا ويموتمون فى كل لحظة فى بغداد, فى مدريد, فى لندن, فى ترانسنيستريا, فى الشيشان وفى كل مكان فى العالم .. يُقتلون بسبب الكره, بسبب البغض,بسبب التعصب, بسبب الإرهاب ،و بسبب سياسات الحروب والمصالح التى ليس لها علاقة بحياتنا).
ويبدو هنا ذكاء المترجم منير مزيد الفني وفهمه الخالص لطبيعة الشاعر النفسية وأعماقه الدينية وفلسفته في الحياة من خلال تثبيت هذه القصيدة؛ لتكون خاتمة لهذا الديوان، ولتكون آخر كلمات هذا العمل الرائع (غبار التاريخ) .
ومنير مزيد لا يتوقف أداؤه على هذا الاختيار فقط ، بل على اختياره تلك القصائد التي ألفت معا فكرة واحدة وفلسفة خاصة بالشاعر، هي قصائد لا يمكن فصل واحدة منها أو اثنتين كما طلبت من المترجم عند بداية قراءتي لهذا العمل، نعم هو منير مزيد الذي أتحفنا بأعماله المختارة بعناية ، تلك الأعمال التي تسير جنبا إلى جنب مع مشروعه الإنساني والحضاري، هو ذلك الإنسان الذي قدم وما زال ، ونرجو الله دوام عطائه وتتابع خيره، ولا أظن أن كلماتي ستجزي متذوقا أدبيا فحلا قبل أن يكون مترجما متمكنا من أدواته الفنية، فهل يكفي أن أقول: طاب كل حرف منك يا منير مزيد جنيا وسعدا، وبورك عملك..
وأخيرا نقول هنيئا لنا كعرب بهذه الانجازات التي يقدمها شاعرنا ومترجمنا الكبير مأمون هذا العصر " منير مزيد " وهنيئا لرومانيا وطن الشعر والشعراء التي احتضنت شاعرنا الكبير بعدما ضاقت به أوطننا بسبب حقد وأنانية سماسرة الثقافة...
و ألف مبروك لشاعرنا العربي الكبير " منير مزيد " على هذا المنجز لشاعر كبير بحجم ماريوس كيلارو..