مفهوم "الفكر التاريخي".
بدءا، نحدد "الفكر التاريخي" بالسلب فنقول: إن "الفكر التاريخي" لا يعني الفكر في مجال التاريخ فقط، وإنما هو إدخال "البعد التاريخي" في أي دراسة كانت، وكيفما كان الموضوع، بل وحتى خارج مجال الفكر، وهو ما يبين أن "الفكر التاريخي" يقوم على نوع من النظرة إلى الأشياء والى الحياة(36)، كما أن "الفكرالتاريخي" لا يتنبأ بالمستقبل(37). هذا بالإضافة إلى أنه لا يدعي بأنه أحسن أنواع التفكير وأرقاها، لان هذا حكم فلسفي(38)، في حين أن "الفكر التاريخي" ليس من الفلسفة في شيء [ يقصد العروي الفكر النظري] ولا يدعي الحقيقة الدائمة(39)، كما أنه لا ينفي وجود حقائق مطلقة، وإنما يقول إن الحقائق لا يمكن فصلها عن ظروفها الإنسانية والبشرية(40)... إلا انه لا يتكلم نهائيا عن الحقائق المطلقة التي يتقاتل عليها الناس ويموتون(41) وإنما يطرح السؤال التالي: كيف يمكن أن نتعايش مع أحد يقول إن كلامه لا نقاش فيه، وأنه يتكلم عن المطلق وعن أشياء لا تتغير؟(42)
على أنه يمكن أن نحدد دلالة "الفكر التاريخي" فنقول: إن "الفكر التاريخي" هو ضرورة ملحة وقتية عملية(43). ويمكن أن نقول بالجملة، إن مياسم مفهوم "الفكر التاريخي" هي:
* صيرورة الحقيقة.
* إيجابية الحدث التاريخي.
* تسلسل الأحداث.
* مسؤولية الأفراد ( بمعنى أن الإنسان هو صانع التاريخ )(44).
مفهوم التاريخانية
من "الماركسية الموضوعية" إلى "الماركسية التاريخانية"
لا شك أن مفهوم "التاريخانية" من أشكل المفاهيم في كتابات عبد الله العروي، بل هو بمثابة بؤرة سؤال الحداثة، ونظرا لأهميته سَنُوْليه عناية خاصة، ونظرا لاضطراب المفهوم كذلك، ذلك ان المتتبع لتعريفات العروي له يجد أكثر من ثلاثين تحديد له، ذلك أنه يسميها أحيانا باسم "التاريخانية" وأحيانا أخرى بوسم "الماركسية التاريخانية"، بل بمسمى "التاريخانية الماركسية".... إلا أننا سنحاول أن نحدد بعض ملامح المفهوم قدر المستطاع.
بدءا، إن مفهوم "الماركسية التاريخانية" محط جدال فكري عميق، وإذا كان العروي قد دافع عن المفهوم، فإن( لوي ألثوسير ) (Althusser ) قد نقد المفهوم، بحيث أنه كتب في الجزء الأول من كتابه"Lire le capital"بحثا كاملا بعنوان "الماركسية ليست نزعة تاريخانية". إلا أن العروي يرفض ذلك ويقر بأن لمفهوم التاريخانية جذورا في فلسفة هيغل وماركس(45)، وهو ما يبين أن "التاريخانية" من إنتاجات القرن التاسع عشر(46). كما أنها نزعة في العلوم الإنسانية(47). وبالرغم من أن لمذهب "التاريخانية"جذورا في الفلسفة الألمانية، إلا أن العروي يقول إن له تصورا خاصا به، بحيث إذا كانت "الحقيقة" في نظر هيغل – مثلا - توجد في "التاريخ" ولها صفة "الإطلاق" و"الشمول"، فإن العروي لا يوافقه على ذلك، وهو ما يبين أن لمفهوم "التاريخانية" معنى خاصا عند العروي بحيث يقول:"أما في ما يخصني، فلمفهوم "التاريخانية" معنى مختلف ومغاير، لأسباب كلها تعود إلى تباين موقعي ومواضعي، وبما أن "التاريخانية" حَدَتْ بفلاسفة الغرب إلى الإنكباب على تاريخ مجتمعاتهم وحضارتهم، فإنها عندي دليل يُحيلني على مجتمعي وتاريخه، ولو اكتفيت بالتموضع في "التاريخانية" كفلسفة أو ككتلة أفكار، لكنت مجرد داعية شأن "البرجسونيين" أو "السارتريين" العرب"(48). وذلك أنه يمكن للغرب أن يكون "برغسونيا" أو "ظاهراتيا" (فينومينولوجيا)، أما الشرق العربي فهو مرغم عمليا على أن لا يرى ويستوعب إلا ما في السجل الهيغيلي"(49)؛ وبالتالي فإن "التاريخانية" ليست مذهبا فلسفيا تأمليا(50)، كما أنها لا تؤمن بوجود "الحقيقة المطلقة"، بل إنها لا تعنى بها بقدر عنايتها بالسلوك(51)، بل إن الحقيقة المطلقة"من المفاهيم التي ينبذها العروي في المجال الفكري، وتبعا لهذا ترفض "التاريخانية" ما يسمى باسم"لاهوت التاريخ" لأنه يفسر كل شيء بالمطلق، يقول العروي: "... لا نتكلم هنا عن الفكرة التي نجدها في كثير من الكتب التاريخية الإسلامية وخاصة المتأخرة منها؛ أي تفسير كل حادثة بالإرادة الربانية لأن التاريخ يصبح حينئذ قسما من علم الكلام "(52) ويضيف:"إذا كان كل حادث يقع بمشيئة الله، ما فائدة سرد الحوادث[...]؟(53) في حين إن عملية فهم التاريخ والسياسة مرتبطة بقدر من "العلمانية"(54).
أما في ما يخص تعامل "التاريخانية" مع الظواهر الإنسانية، فإنها لا تفسرها بمبدأ "العلة العلمية"(55) التي تنشد "الضرورة" و"الحتمية"، في مجال "الإنسانيات"، إذ"لا يعقل أن يعتبر الأفراد مسلوبي الإرادة"(56)، ولهذا تدخل "التاريخانية" فعالية الإنسان في بناء "الواقعة التاريخانية"(57).
هذا ويمكن أن نحدد التاريخانية بالإيجاب، فنقول: من مسلمات "التاريخانية" أنها تقول: "إن الإنسان كائن تاريخي". وفي هذه الخاصية تلتقي "التاريخانية" مع "التاريخية الوجودية"(58). ليس هذا فحسب، بل أجمع "التاريخانيون" على أن "التاريخ" هو تاريخ الإنسان الحر الواعي، وأن ما عداه تاريخ بالنسبة للإنسان وليس تاريخا في ذاته(59). وفي هذه النقطة تختلف "التاريخانية" عن "المادية التاريخية" التي تعتبر أن "التاريخ" تطور"بلا وعي"(60). هذا بالنسبة إلى نظرتها لأمر "التاريخ"، أما "التاريخانية" فهي السعي إلى الإحاطة علما بوقائعنا وبالوضع الذي نعيش فيه مع حل مشكلاتنا التاريخية على أرض "التاريخ" نفسه. لذلك تكون الدعوة إلى تجاوز المراحل أو قيم الغير دعوة فارغة تماما من كل مضمون وكل فعالية، فطريقنا الحق والقويم إلى التخطي والتجاوز لا يمر إلا عبر الإستيعاب وآلام الولادة"(61). ومن تم فإن: "التاريخانية ليست شيئا سوى قبول منطق العالم الحديث، الذي هو منطق أوروبا الغربية من القرن الخامس عشر إلى القرن التاسع عشر"(62). وهو ما يبين أن "التاريخانية" هي "أدلوجة البلدان المتأخرة". وأن إدراك "التأخر" هو إمساك بمنحى "التاريخ"(63). وإذا كان "التأخر التاريخي" معناه أن البلدان العربية "مسبوقة في الميدان الفكري والإجتماعي والعلمي والثقافي"(64) فإن هذا "التأخر" ليست له صفة "الإطلاقية" و"القدرية"، بل هو قضية "نسبية" إضافية لا يمكن معاينتها وإقرارها إلا إذا قسنا [من المُقَايَسَة] مجتمعنا بمجتمع آخر(65).
وهو ما يبن أن "التاريخانية موقف أخلاقي يرى "التاريخ" بصفته مجموع الوقائع الإنسانية، مخبرا للأخلاق وبالتالي للسياسة"(66). هذا مع العلم السابق أن:"العقلانية الاجتماعية والسياسية" تقوم على "الفصل" بين "السياسة" و"الأخلاقيات"(67). ويمكن أن نقول، بالجملة، إن التاريخانية تعتمد على أربعة مبادئ هي تباعا:
1- ثبوت قوانين التطور التاريخي ( حتمية المراحل).
2- وحدة الاتجاه ( المستقبل/ الماضي ).
3- إمكانية اقتباس الثقافة ( وحدة الجنس).
4- ايجابية دور المثقف والسياسي (الطفرة واقتصاد الزمن)(68).
بعد أن تعرفنا على بعض المفاهيم التي تشكل سؤل "الحداثة" بالتفصيل يمكن أن نقول، بالجملة، إن سؤال "الحداثة" هي "استيعاب الليبرالية وتبني الماركسية التاريخانية". ولكن هل هذه "مطلقات جديدة" استبدلت بالمطلقات القديمة؟ يجيب العروي:"تعني "الحداثة فقدان الإطلاقية" حتى مع في ما يخصها هي ذاتها "(69).