قراءة في واقع الوجود بين اللا جدوى الفعل و تغييب وجود فعلي الحرية والتغيير. - خالد ساحلي
وجودنا حادث في عالم حادث قبله وكل حدث له علة وسبب كما العالم الأول حادث وله سبب. إننا نبحث في تاريخ البشرية عما يدلنا على جديد نحيا به في حاضرنا.
نبحث عن الاستكشاف الجديد في استكشاف قديم تُرك في الأمكنة الظاهرة و المختفية، في الأشياء التي كانت منفذهم لحاجات تعينهم. هذه الأجسام المستخدمة وسائلهم في الحياة. تمكننا من اكتشاف بعضها و بعضها لا يزال من الأسرار غامضا ليُبقي استمرار مفهوم الوجود.
البحث عن وجودنا هو في الحقيقة وجود الآخرين قبل أن يكون وجودنا وكما فعلوا هم مع من سبقهم كذلك الحال بالنسبة إلينا. إننا نتصور بكثير من الخيال و أحيانا خيالنا يقرن بالحقائق التي جمعناها من قراءتنا للتاريخ، لحياة من سبقنا. في كتبهم و فيما تركوه من الحفريات فنرسم حياتهم كما كانت أو تشبهها؛ نقترب منها شيئا فشيئا فنظنها كانت كذلك حتى ولو لم تكن. الرجوع في الماضي لأصل وجودهم، نتصور قدر فنائهم المحتوم كيفما انتهى و انقضى. أليس ما تركوه من شواهد دليل على إثبات الوجود الذي سيفنى، لقد تركوا الإشارة الدالة على سبب علة وجودنا لا غير... ألا نتصور بكثير من الخوف والفزع وجود من سيأتي بعدنا؟
إن حياتنا الراهنة مرهونة بهم ، معلقة على من صنعوه، مهما غفلنا عن ماضيهم و أهملنا تراثهم و بقطيعة فاحشة أو بتقصير أو بإهمال نتعمده بدافع ضغينة في القلب وحقد متوارث أو مرض ورثناه تعلمانه وتلقيناه باحتكاك؛ بجهل كان أو بتقليد ، متأثرين أو معجبين ، نخبة الخاصة كنا أو من العوام الذين تستهويهم الأنانية في الاهتمام بأنفسهم و نسيان ما حولهم . هل أُرِيْدَ لنا نسيان وجود من سبقنا.؟ هل حكمنا وقتئذ على أنفسنا بالفناء حكم النسيان والعدم لغيرنا.؟
هذا الوجود الفاني الماضي الذي أوجد وجودنا بعلة وسبّب وجود علتنا الأولى، علة النسل البشري الذي خلق ليبقى و فرض عليه الخلود قبل أن يسبب علة فنائه الأولى. إنه مقرون بسبب وجود العالم الأول الذي أثبتنا وجودنا به.
وجودنا الآني زائل ونحن فيه باقون إلى أجل معدود و لا يزال زائلا بصفاتنا المتغيرة وأفكارنا و سلوكياتنا المتبدلة المبتذلة و طبائعنا المستحدثة ورغباتنا وأصل صراعنا فيما خلقنا له، صراع الخير مع الشر، صراع النقيض و إكمال الناقص بنصفه الآخر، بحاجة الآخر التي هي ملكيته؛ إلا أنها تصير مع الزمن الملك المشاع. أليست الكلمات و الكتابة ملك صاحبها بمجرد ما يكتبها للغير تصبح ملكا مشاع يقول بها من يقول و يتكلم بها من يتكلم تصير مضرب مثل أو جملة في خطبة رئيس دولة أو أغنية راعي في البراري أو توبيخا لمتعلم أو نثرا في خطبة أو حسرات على فم باغية في ماخور. قد تكون داعي اهتمام الأعداء و الأنداد المنظرون بشأنها عن طبائعنا.
الموجودات في الحياة هل هي لأجل وجودنا، قبل وجود علة وجودنا وسببها؟ ألأن ما أثبت أصل وجودنا ومصدرنا وعرقنا وسلالتنا هو دليل وجود قائم لغيرنا؟ هل وجودنا مرهون بحقيقة التصديق و العجز.؟
1ــ التناقض وفكرة النهاية:
دليل وجودنا يوفر جوهرين في جوهر ذاتنا ، جوهرين متناقضين لا يعرف أحدهما إلا بالآخر، فلا يُعْرَفُ الكره إلا بالحب و لا يعرف الفراغ إلا بالامتلاء، و لا يحصّل النجاح إلا بالتعب و الكد . لا تنجح الرواية إلا باستجماع المتناقضات لتعيش الشخصيات. يتوجب على الكاتب أن يؤمن بفكرة الوجود و الفناء ليمنح التناقض فيما يحبه ليبقي شخصياته خلف الجدران أو في الأقبية أو في السجون أو في فضاء لا يتسع مجاله تحت بهو الشمس.. وجودنا الفاني هو رغبتنا في إنهاء ما نبدأه دون الرجوع إليه فيما بعد إلا لوقت الحاجة و الضرورة. قد نهمله أو نحرقه أو ندفنه فيندثر. أترانا نندم بعدها على فعل لم نقدّر جهدنا فيه أو جهد الآخرين؟ أيكون نقيضه معاودة الفعل.؟ إن الخوف من الفشل هو جزء من خوف النجاح أن يضيع. هو وجود بوجود .
إن إنهاء ما ينتهي دليل وجودنا فكل ما نبحث عنه أو نسعى في الوصول إليه لنضع حدا له بإنهائه بالتعرف على صحته و التأكد من عجزنا على بلوغه و تحقيقه وكشف حجبه، إدراكه و فك طلاسمه. قد يمنعنا عائقا نصادفه في طريق إنجازنا وعملنا؛ أو تثبيطا و أذية نظام أو رعية.
فكرة النهاية دليل وجود يؤكد حقيقة الزوال و الفناء. ما العمل الذي ننجزه فيبقى؟ ما العمل الذي ننجزه و لا نهتم ببقائه؟ فكرة النهاية تمنحنا الوجود وقيمته حين نأخذ الحكمة المطلقة من صانع العالم الثابت في القدم على أمل في القلب أن يتحقق بقاء ما نعمله في وجود الآخرين.
دليل وجودنا التناقض المتغلغل في داخلنا، التحيّز والانجذاب لجهة دون أخرى و لطرف على طرف آخر، جوهرنا المتناقض بين عدة جهات. للوجود جوهران عند الإنسان ، وجود يديم البقاء بعد الزوال لأنه من أصل البقاء وجنس المطلق ، ووجود عبثي يتناهى و ينقضي لأنه في مواجهة الخير و النجاح و الفضيلة وجحد لفكرة المطلق. وجود ظاهر لينافس بغير شرف في حرب شرسة دنيئة. أليس في شاهد الوجود دعوة بأهمية وجود المنفذ لسر السببية؟
02ــ العرض و الغصن مانح الثمرة:
العرض وسيلة جلب الآخر معرفة الآخر، تمكين القدرات الداخلية الكامنة للظهور ، الطاقات المختزنة في الأعماق، إشراك الأفكار و التصورات، هي الأفكار الحبيسة ورهانات العقل. العرض نوع من الانكشاف للآخرين لاكتشافهم، حاجتنا للآخرين لطلب الحاجة منا، الاستعانة بمصابيح التاريخ بما سبق وبما هو كائن. العرض لمن ولما نملك، لما ننتج لما نتصور لما نبدع من قيم و نجاحات؛ تتجّلى حقيقة وجودنا.العرض دليل ايجابي عند كبار النفوس، منبع فخر الباحث عن قدر نفسه وسره المختفي داخله . العرض صفة نقص للبشر تؤكد عظمة الله. هو العرض المتجلي في موجودات الله، في مخلوقاته، إننا طرف في هذه المعادلة ؛ نحن جزء من العرض ولأننا لسنا كباقي المخلوقات و لأننا نفكر و نبدع ونسعى لنغيـّر ونتطور نقدم عرضنا في الوجود المطلق، عرضنا فاني فيما بثه الله فينا ، بذرة العقل و الروح والطبيعة. مبثوثة فينا هذه الحياة، ومبثوثة فينا حياة الحيوان التي نشابه فيها مخلوقات كثيرة على وجه الأرض وربما في عالم فضائي آخر.
العرض يُحسب التجربة و التعدد في الغايات و المنافع، وجودنا مرهون بما نعرضه من نشاط و خدمات على النقيضين. العََرضْ بنسبه ومستوياته المختلفة في كثرة الأشياء و مع الأجسام، يتخذ له وجهته الواحدة، الوجهة القريبة من الغرض، القريبة من الفهم، من التحصيل و الأخذ ومن التميز.
إذا فُهم بيانه واتضح صار الأخذ به وتداركه حتمية، الحلم إذا صار واقعا كفّت الروح عن مخالطة الإرادة وذابت حلاوة الصبر والتحصيل والجمال فيه وفكرة الوجود الحقيقي لا تتحقق إلا بشاهد .
وجودنا ينتهي حين نضيّع الذي كان علة وجودنا. لقد قال ابن رشد: " يجب أن نستعين على ما نحن بسبيله بما قاله من تقدمنا في ذلك، سواء كان ذلك مشاركا لنا في الملة أو غير مشارك".
هل يجب أن يكون ضعفنا جزء من عرضنا أمام عرض قوة الآخر.؟ هل انتقادنا لما هو حاصل من ضعفنا بضرورة الفعل الإرادي للمتحكمين في قدرنا و المحتم من مقدر الله خطوة في طريق تأكيد ذواتنا؟ هل يجب على ضعفنا أن يكون أول جزء من عرضنا؟ هل هو اللا وجود في عرض قوة الآخر؟ أم هو تابع يحيا عليه وجود الآخرين.
إن الوجود القوي للآخرين ( الدول المتقدمة العالم المتمدن، العالم الذي يحمي نفسه ويعرض قوته و علمه كعلامة ظاهرة لوجوده، تغييره، فعله في الحرية ، تطوره وإدراكه بالزمن المترتب عنه) كان فيما سلف عرضا ضعيفا أقدموا به على اقتحام الحضارات و أخذوا عروض الحضارات بما نقلوا و دوّنوا. الحضارة هي ثمرة شجرتها في الوجود المطلق، أغصانها المبدعون ، أوراقها المتساقطة وجود فاني، تسقط الأوراق و تبقى الأغصان، تنزع الثمرة من الغصن للانتفاع ، قد يكسر الغصن لكنه يلّقم مع الزمن، الغصن وحده من يعرض الثمرة لتتباهي بالجمال و تثير الرغبة .
03ــ عرض الخفاء الوجود الزائف:
وجودنا معروض ينبغي له أن يكون معروضا حتى يكون وجودا فلا يمكن لغيرنا معرفته إلا بشاهد ، الشاهد الذي يؤكد حقيقته و يخرجه من الخفاء. من يعرف عمر بن الخطاب وفيكتور هيجو و بارت و وليام جيمس ومحمد إقبال أنهم وُجدوا في هذا العالم ؟ نعلم أنهم كلهم أتوا إلى هذه الحياة ومارسوا مراحل كثيرة من عمرهم في التفكير لأجل غاية بعينها من إقامة العدل إلى محاربة الاستبداد إلى محاربة الأمية و الجهل إلى تهذيب النفوس وتنوير العقول إلى الدعوة إلى الحرية . من يعلم عن الغزالي أن كتبه سرقت وأحرقت فصار حفّاظا ؟ من يعلم بتغامز الأمراء و السلاطين على ابن المقفع و قتل هشام له؟ من يعرف عبد الحميد الكاتب، فداء ابن المقفع، إخفائه عام كامل في بيته وهو يترد على الخليفة ، قمة الإيثار. فداء النفس لولا إلحاح الصديق الصدوق. يكذب الصديق لأجل إبقاء وجود صاحبه فيؤخذ بالقتل وهو المتأثر بصنيع صاحبه في زمن كثر فيه طلاب الملك وكثر فيه القتل لأجل السلطة. ما كان لأحد أن يعرف بذلك لولا حياتهم التي عُرضت بما خطّوه من أثر. هذا وجودهم قد عرف، عرضوا حياتهم وفكرهم للعامة كما للخاصة لم يخفوا ما حذروا ولو حذروا مخافة الموت والاصطدام ما ظهروا. الداعي للخلود يعرض عقله وقدراته و نبوغه وأدبه وإبداعه وأخلاقه.
قيل لعبد الملك ابن مروان شبت يا أمير المؤمنين فقال: " شيبني صعود المنابر وتوقع اللحن فإذا لم يكن لدى المرء علم يعرضه أو أدب ينطقه فلما يصعد المنابر."
لقد تمتم غاليله مكتشف الأرض وهو يدخل الزنزانة حانقا في نفس من العذاب مع كره الهزيمة في مساجلة مخنوقة لا فضاء فيها للفكر و لا للحرية ، كظم علمه و صوابه الذي اعتقدوه خطئا يتوجب السجن لقد تمتم: "ومع هذا فهي تدور" لقد نقلها السجّان بأمانة وصدق . لقد قالها جلال الدين عن رجل يبحث عنه كاملا ونقلها إلينا تابعوه مكررين: "وأمنيتي ذاك المحال" البحث عن المحال محال وإخفاء الوجود عرض للفناء.
يقول غاستون باشلار:" أتأخذون الآن حكما إيجابيا يترجم لكم معرفة قديمة؟ من الثابت أن هذا الحكم لا يكون فعلا نفسانيا إلا إذا كان صريحا: فلا يجوز مغمغته ولوكه بين الشفتين أو اجتلابه من طاحونة الكلام ولا تنسوا أننا نتناول أدلة الوجود و بكلام أفضل براهين الارتباط الفعلي بين الوجود وذاته؛ إنه الوجود الموضوعي و الوجود الذاتي على حد سواء، إنه وجودكم، عقلكم بكلّيته هو الذي تدخلونه في المساجلة لأن ثمة سجالا بسبب كلامكم الفعّال، ونظرا لبذلكم قوىً عصبية، قليلا من نفسكم ومن وقتكم الحيينّ، فإن هناك شيئا ما أو شخصا يعترضكم: إنهم يكذّبونكم و أنتم تؤكدون قولكم" ــ ص 25 جدلية الزمن ــ
وجودنا يتضح فيما نعرضه من أفكار و تغيير وتأثير من الشعور و من العقل؟ هل نحن موجودون؟ السؤال الروتيني الضارب في العادة؟ نحن موجودون ليس لأننا نفكر فقط لكن لأننا نعرض ما نفكر فيه طمعا في التغيير و التأثير و موافقة لأفكارنا وتصوراتنا و بما نعتقد؛ طمعا في معرفة جديدة من خلال ما نسعى إليه. البحث عما يناقض ما اكتشفناه." بندول في أعماقي" كما عبّر عنه نتشه؟ الوجود يحتاج الحركة و يذم السكون؟ هل وجب السؤال في هذا الموقف؟ إننا نخفي الجبن داخلنا، نخفي الطمع والجشع وحب الاستبداد، نخفي الرغبة الراكضة في مضمار المتعة. نخفي بعض وجودنا إننا سيئون غالبا وسلبيون لذلك يشاركنا الفناء، يحصد وجودنا. وقت نتغلب على هذا كله ونخفيه يمكننا القول بالانتصار على وجود زائف. حين نظهر عكسه لأجل وجود حقيقي. وجودنا معروض ليس مخفي، دلالة اتصالنا بمن لا نعرف من خلال ما نعرض ولو كنا راية على عَلَمْ لمن لا نعرفه. انفصالنا عما نخفيه انتصار لوجودنا.
ألسنا نرى ترتكب الجريمة الفظيعة و الشنيعة على الحقيقة وعلى الدين، على العقل، على الفلسفة، على الأدب، على العلم و الأخلاق و الفضيلة، على الحرية على الإنسان . الجريمة المخفية في زوايا الكتمان لغاية الوجود الزائف و تنحية الوجود الأصيل. أليس البحث عن العدالة لإظهار الحق والقصاص دليل وجود؟ أليس طلب المغفرة و الصفح و الندم والإقرار بالذنب إظهار للمخفي داخلنا؟ أليس الاعتراف بالذنب والهزيمة والفشل دليل وجود أصيل حقيقي داخلنا؟ أليس تعرية دواخلنا ونثرها فضيحة بشجاعة أمام الجميع تصفية من شائبة النقص ولو تبعه بلاء؟
إن الوجود الزائغ الزائف هو الانتماء إلى الجهة، التابع أو الفارض للتبعية بقهر و إكراه، بالحيلة والمكيدة، بالاستبداد والهراوة في وجه وجود أصيل حلّته المعقول الذي يُهينونه، يحبسونه في نطاق الجنون والسخرية من صاحبه، يحصرونه في الغياب في حيّز السراب الشبيه بالتلاشي، يحاصرونه بقلب واحد بلا وعي. أمة أفرادها يعيشون لأنفسهم لذاك الوجود الزائف.
لقد كان برغسون عظيما حين قال: " خير الناس و أكثرهم حظا من الحياة من كانت حياته وهي في نفسها فتية وقوية مبعثا للقوة والنشاط في فعل غيره من الناس ومن كانت حياته وهي نفسها نبيلة كريمة تضيء بأشعة نبلها وكرمها نفوس الآخرين". هو وجودهم وجود منتج ووجودنا مستهلك.