تحليل تقنية التشذير في الشعر قراءة في قصيدة ( غريب المرافيء) لـ خالد عبد الرضا السعدي - محمد ونان جاسم
يؤسس الشاعر خالد عبد الرضا السعدي خطابا ً شعريا ً واحدا ً في عموم منجزه الشعري وظيفته الأساس جعل الشاعر لسانا ً للمركبين الاجتماعي
والسياسي اللذين يحياهما الشاعر ويخضع علي وفق ذاك الخطاب استتراتجيات إبداعية منها ظاهرة التشذير ونعني بالتشذير بث الرؤية الشعرية الواحدة في أكثر من قصيدة أو في مبني القصيدة الواحدة من دون تكرار لفظي بل في أسانيد لغوية مختلفة , ونختلف في تفسيرنا للتشذير مع الدكتور يوسف شكير الذي عرف ظاهرة التشذير بمحاربة القوالب الجاهزة ( ينظر عالم الفكر العدد الثاني عام 2002) .
قصيدة غريب المرافيء هي إحدي قصائد الشاعر التي تضمنتها مجموعته الشعرية الجديدة ( يقتفيني قمر ) الصادرة عن دار الناقد الثقافي وهي القصيدة نفسها التي نالت استحسانا في مسابقة أمير الشعراء المعروفة وعدت مثالاً للوهج الشعري الذي سيبينه الإجراء التحليلي . معمارية النص بنيت بناء ً إيقاعيا ً انسجم مع البناء الدلالي المتسم بالنكوص وأدّي الاستعلاء النصّي وظيفة إيحائية (بحسب تصنيف جينيت ) وسؤلا ً إشكاليا ً ( بحسب تصنيف أغلب السيمائين ) إذ أتكأت وظيفة الإيحاء علي ثيمة الحذف , فدالة غريب خبر لمبتدأ محذوف تقديره ( أنا ) عائد علي ما بعده نلاحظ ذلك في هيمنة الأنوية في المستهل
كم انتظرت لهاث الضوء مرتجفا وكان لحني قديما شاحبا أسفا
ويقول في بيت القصيدة السادس :
أنا غريب المرافيء من يعللني شواطيء الأهل تاهت لوعة وجفا
ودالتا (غريب) و(مرافيء) أحالتا المتلقي إلي حيز القبلية وحفزتا فضوله الحفري ورسمتا صورةً سوداوية للمحكي عنه إذ أضيفت (مرافيء) إلي (غريب) فدلّ الإسناد علي اللاستقرارية أو الرحيل المستمرلهذا الغريب . ستهل الشاعر قصيدته بحضور ماضوي مكثف في البيتين الأول والثاني في
خلال :
كان المتكررة مرتين / انتظرت المتكررة مرتين / الفعل نزف
وقد رافق هذا التكثيف إيقاع موسيقي مؤسس علي التوازي التركيبي :
كم + فعل ماض + حرف عطف + كان
يقول الشاعر في البيتين الأول والثاني :
كم انتظرت لهاث الضوء مرتجفا وكان لحني قديما شاحبا أسفا
كم انتظرت وكانت كل أوردتي حبراً علي دربي المجنون قد نزفا نلحظ أيضا حضور إيحائية الحذف في خلال حذف المفعول به في الشطر الأول من البيت الثاني التي تركت فسحة قرائية للمتلقي أبعدت النص عن ظاهرة الاستبداد التركيبي .
واشتغلت في النص ثنائية ( الانتظار والأسلبة ) واختار الشاعر دالة ( كم ) التكثيرية للدلالة علي الانتظار وبيان سعته أما الأسلبة الراكنة للنكوص تحققت في الدوال :
مرتجفا - شاحبا - أسفا - الدرب المجنون - النزف - لا حضن لي - لا غصن لي - كلي الذي تلفا ........
التناص مع السياب
فضلا عن اختيار صوتين لبيان الأسلبة النكوصية هما : ( واو الاستغاثة ) و (ألف الإطلاق ) إذ اعتمدت الأخير في رويها كذلك أهم الحذف في إرساء النكوص لاشتغالهما في الحيز الدلالي نفسه :
لم تتخذ - لا غصن لي - لا حضن لي - لا انتهاء له - لا حكايا - ولا الشناشيل تحكي - يا سرفة الريح لا أرض نلوذ
وقد حاول الشاعر إعادة قصيدة ( غربة الروح ) للشاعر بدر شاكر السياب التي نظّمها عام 1963 في لندن مضفيا ً عليها ذاك الهم ّ العراقي السرمدي لذا ألزم نفسه التوحد مع العراق الوطن المضاع يقول السعدي :
نصفي عراق ونصفي آخر وطنٌ هو العراق ولكن من دمي خطفا
إنّ هذا التوحد جاء نصفيا ً كي يرسخ عراقية النص في خلال البناء الإشاري للعلاقة المقصدية المستوحاة من ملحمة جلجامش وقد ظهر أثر السياب واضحا ً في مطلع القصيدة :
كم انتظرت لهاث الضوء مرتجفا وكان لحني قديما ً شاحبا ً أسفا
يقول السياب :
مسدودة كلّ آفاقي بأبنية
سود ٍ وكانت سمائي يلهث البصر
في شطها مثل طير هدّه السفرُ
النهرُ والشفقُ
يميل فيه شراع يرجف الألقا
والمعادلة التناصية الأتية توضح التأثي السيابي في قصيدة السعدي :
السعدي السياب
لهاث الضوء يلهث البصر
تحضن الآفاق آفاقي
غريب المرافيء غريب الروح
دلالة الرحيل طير هدّه السفر
شراع يرجف الألقا أقتفي ألقا - أنا شراع الرزايا
لقد وسع السعدي نمط الغربة السيابية فأضاف لها الآلهة والجسد والتكثيف المأساوي للغربة يقول السعدي : وإنّ نخلي عراق والسما رئة مخنوقة الغيث قصّت شعرها السعفا
كما نلحظ تناصا مع قصيدة عارف الساعدي التي يقول فيها :
آمنت بالبحر يغفو في أنامله ويستفيق علي أحداقه مطرا حيث يقول السعدي :
نغازل الفجر في أحضان شيبته ليستفيق علي ألحاننا ترفا
فالتناص موسيقي ( بحر البسيط ) ولفظي ودلالي إذ اتكأ الأخير علي الطبيعة الراكنة للرومانسية .
قلنا إنّ القصيدة مشذرة لها دلالة واحدة ناطقة بجرح العراق وأبنائه الذين لا مكان لهم فهم مُهجّرون مُشتَتون علي الرغم من علو كعب بلدهم وكعبهم واشتغل التشذير في حيّز جرّ المتلقي لقراءة القصيدة كاملة من دون أن يُضفي مللا ًفضلا ً عن إغراق النص بذاتوية مكثفة أعتقد أن لها علاقة بنفسية الشاعر المصابة بالأنا العالية والدوال الآتية توضح ما قلناه:
اتظرتُ - لحني - أوردتي - دربي - خطاي - مولاتي - أمشي - أمتعتي - نخلي - أنا - يعللني - حطمتُها - فيَّ - خلتُها - بذرتُ - روحي - دمعتي - نشدتُها - أسئلتي - لي - عليَّ -وطني - سهرت - لعلي - أقتفي - غيمي - سهري - نصفي - دمي - أرقب - أعلّق - أجمعها - لملمتُها - قلبي ....
لقد تركزت البنية التركيبية للأنا في أربع صور هي :
أنا - ضمير المتكلم التاء - الضمير المستتر أنا - ياء المتكلم إن حركية القصيدة لم تستمر علي خط قولي واحد بل أثقلتها بعض النتف المنطقية التي لجأ الشاعر إليها كقوله :
لا حضن لي الآن يا مولاي يا وطني يريق دفء الأماني فرحة وصفا
فدالتا( الحضن والدفء ) أعاقتا الومضة الشعرية وأركنتا هذا الموضع النصي للتداولية .
ونري أن الشعرية تحققت في النص من خلال الإسنادات المنزاحة في الأمثلة الآتية :
دربي المجنون - والسماء رئة - شراع الرزايا - ألف عاصفة - بذرت روحي - نصفي عراق -....
كما استفاد الشاعر من تقنية العدسة النصية يقول :
بذرت ُ روحي يماما ً في أزقتها فأورقت دمعتي في طينها خزفا الروح - بذرة (تصغير ) الدمعة -خزف ( تكبير ) وعضّد الشعرية المبنية في النص اهتمام الشاعر بتكثيف الإيحاء الدلالي بوساطة أسلوب الحذف الذي أشرنا إليه فضلا ً عن الأسلوبين الآتيين :
أ - أسلوب التكثير :
كم انتظرتُ المتكررة مرّتين - كم غرفا
ب - أسلوب الاستفهام :
من يعللني - كيف نحيا - وكيف يا حب - وكيف نصبر- من
سيحضنه
مما يتقدم يتضح لنا أنّ الاختيار اللفظي كان ملائما ً للمحور الدلالي في جانبيه جانب التزامن المتسم بالاختيار المقصود الواعي وجانب التعاقب المبني علي حسن النظم والتنسيق لذا لم يكن نص السعدي نصّا ً لائكيا ً اجتراريا ً بل كان ومضة شعرية .
محمد ونان جاسم- أستاذ اللغة العربية في الجامعة السورية الدولية
سأكتب لكم بحرف التاسع والعشرين ..
موضوع: تحليل تقنية التشذير في الشعر قراءة في قصيدة ( غريب المرافيء) لـ خالد عبد الرضا السعدي - محمد ونان جاسم 
الأحد يونيو 07, 2009 1:23 pm
