* المواضعة في المفهوم الشعري * قراءة في ديوان (فوضى المكان) للشاعرة رسمية محيبس زاير - أمجد نجم الزيدي
الى ماذا يخضع مفهوم الشعر، او ماهي افتراضاته التي يتمسك بها؟ ربما إن نحن احصينا ودرسنا الاجيال الشعرية على مدى قرون
عديدة وتفحصنا منجزها، الى ماذا سيقودنا ذلك؟ هل يمكننا ان نضع مفاهيما عامة للشعر، او ان نموضع تلك المفاهيم في اطر نظرية خاصة؟ هل سنقع على موطن الشعر او موضع اللحظة الشعرية المتوهجة، التي ربما تراكمت عليها الكثير من القناعات اللاشعرية، خارجة عن جوهر الشعر كشعر، والتي غلفتها الكثير من المفاهيم النظرية التي قسرت الشعر على ان يقول مقولتها.
(قصيدة النثر)، تلك القصيدة الخلاسية التي لم تشبع عطش جلاسها من الفئتين الشعراء والمتلقين، ربما كانت المفاهيمية الشعرية لها اكثر طغيانا في الكثير من التجارب، لانها لم تستطع برغم مما كتب، ان ترضي القناعات التي تأسست ووضعت جذورها بعيدا في عمق وعينا الشعري.
ربما يبدو هذا التأسيس او التموضع المفاهيمي مبررا او مقنعا للوهلة الاولى وخاصة لمتلقي الشعر، بيد انه ربما يقودنا الى حصرها في دائرة مفاهيمية مغلقة اكثر منها شعرية منفتحة، اذ ان قصيدة النثر - حسب رأيي على اقل تقدير- اعادت تأسيس تلك المفاهيمية الشعرية على وفق رؤية جديدة، وان وقعت بعض تلك التجارب في فخ المفاهيمية الجاهزة، الا ان الكثير من التجارب الكبيرة والناضجة، وضعت الانسان والعالم والوجود داخل دائرة كونية واحدة من خلال اكتشافها للصلة الخفية التي تربطنا بالحياة والوجود، والتي لا تستطيع اللغة العادية او المفاهيمية الشعرية الكلاسيكية من تفسيرها، او منطقتها بمنطق الشعرالذي بني على شكلنة تلك الصلة، "ان ما يجعل مسألة قصيدة النثر صعبة، شائكة (ومثيرة ايضا..) ربما يرجع الى ان اي شكل شعري من بين تلك الاشكال التي حاولت منذ قرن من الزمان ان تخضع اللغة لمتطلبات جديدة، لم يخاطر بمفهوم الشعر نفسه بنفس القدر من الجدة"*
فلو أخذنا ديوان (فوضى المكان)** للشاعرة رسمية محيبس زاير، الصادر عن مؤسسة الفكر الجديد. 2008 ، وقرأنا هذه الابيات من قصيدتها (من عبث بأبجدية الجمال):
انا النجمة تشظيت، انا مكتظة بعويل أخرس
الغيمة تحجبني. وزخة مطر تسد علي الطريق
أنا غارقة في التأملات بينما القمر،
يطوف على الاشجار والبنايات
على الادغال والبحيرات..
أو نقرأ في نص (رؤى غائمة):
أمس فتحت كتاب الافق
انهمر الضوء
كان القلب الحزين يترنم بأغنية في المحبة
لكني المح بين الضوء وبيني
جثثا تسعى كي تخطف برقي
وتعرقل عناء الروح
وهناك نماذج اخرى كثيرة في الديوان، وسيظهر لنا ذلك التأسيس الشعري عندما نزيح عن كاهلنا ذلك التقعيد الماضوي للشعر، واعدنا من خلال ما تطرحه النصوص من رؤى من تشكيل عوالم شعرية متوائمة مع ماتحاول الشاعرة رسمه بفرشاتها ، والتي تؤشر لمناطق غائرة في ذاكرتنا بالوان مميزة وواضحة، فلو اردنا اكتشاف هذا التأسيس لسعينا الى تحليل المقطعين السابقين، حيث يأخذ النص الاول بدمج عناصر الطبيعة والتي هي (النجمة، الغيمة،المطر، الاشجار، الادغال، البحيرات)، بعالم وسطي _اذا جاز لي التعبير_ يتكون من خلال الالتحام مابين الطبيعة والتي هي تعبير عن الوجود الخارجي، أو الاطار الكوني اللام، والنفس البشرية والتي تظهر من خلال العلاقات مابين (التشظي، العويل الاخرس، الحجب، سد الطريق، التأمل) والذات المتكلمة وهي (انا) وهذه العلاقات هي عبارة عن آصرة لغوية جديدة، مابين تلك العناصر والتي هي بالحقيقة دوال لغوية وبين مدلولات مستحدثة، جائت اليها من تلك العلاقات، وهذا يظهر في المقطع الثاني الذي اوردناه سابقا..
ولنأخذ مقطعا اخر من احد نصوص المجموعة وهو نص (تجليات روح):
روحي التي تذوي كشمعة
وتذوب كعاصفة
روحي التي اطلقتها مع الريح
فهربتها الازمنة
وشحنها رصيف لرصيف
روحي الخضراء المكتظة بالهموم
كشاحنة جنود
ربما سمعت صوت ناي حزين
وانهمرت نحو المدى.
فسنلاحظ من خلال هذا المقطع، ذلك الكسر للعقدية مابين الدوال وبناء اشارات وعلامات جديدة على بقايا دوال اخرى، كان من الممكن ان تفسر النص، او ان تربطه بالعقدية المباشرة، بيد ان الشاعرة اوهمتنا بذلك التقعيد، وسرعان ما هشمت ذلك العقد الزيف ببناء جديد، حيث يتمثل ذلك العقد المباشر في البيت التالي(روحي تذوب كشمعة)، حيث شاخت هذه الدالة من كثرة الاستعمال والتداول، لكن الشاعرة اعادت لها الحياة من خلال وضعها بميزان متعادل مع (وتذوب كعاصفة) حيث يظهر ذلك الزخم الحركي الذي اضفته الشاعرة، عندما زاوجت الدالتين (الشمعة والعاصفة)، واذابتهما في دالة اخرى وهي (روحي)، وايضا العلاقة الزمكانية مابين هذين البيتين (روحي التي اطلقتها مع الريح) و (فهربتها الازمنة)، فأن الانتقال المكاني الذي توحيه ( اطلقتها مع الريح)، يقف بالضد من (هربتها الازمنة)، فبالأضافة للعلاقة المتوازية مابين بنيتي المكان والزمان تقف دلالة هربتها نقطة وسطى اعادت تعريف تلك الدلالتين، فحيث ان الانطلاق مع الريح الذي يمثل الحرية، تكون حالة الهروب التي سببتها الازمنة غريبة، ولكن بأعادة لظم مجمل البيتين وفق قاعدة تاسيسية واحدة وهي (روحي) التي جعلت هاتين البيتين متكافئتين، من خلال خيط اخر مستتر يظهر إن نحن فسرنا العلاقة مابين البنيتين المكانية والزمانية، انطلاقا من تلك القاعدة وهي (روحي)، لتصبح علاقة واحدة، والتي ربما تكون هي (العمر)، وايضا الدوال الاخرى في نفس المقطع والتي تأخذ نفس هذه العلاقة ، ولكن تتباين من حيث مرتكزاتها البنائية.
أما نص (لوحة سيزان) والذي سنأخذ منه المقطع التالي:
في اللوحة كوب ومرايا
صوت خطى وزجاج يتهشم
طفل .. وصراخ مكتوم
فيها جوع وزجاجات فارغة
وانين..
ويظهر من خلال هذا النص ذلك الدمج مابين اطياف مختلفة ومتنافرة، بيد انها مجموعة برؤية واحدة، تسعى الى تعزيز صلتها ببعضها من خلال الاطار الذي رسمته الشاعرة لها، وذلك يظهر من خلال التزاوج مابين المسموع والمرئي واللامرئي بوحدة واحدة عززها العنوان وعبارة (في اللوحة)، التي تشير الى هذه الاطياف التشكيلية التي يجب ان تكون اطياف لونية وتشكيلية مجردة، تتحول الى اصوات ممكن لتلك الاطياف اللونية او التشكيلية من انتاجها، فالشاعرة في هذا النص قد اخذت طريقا مفارقا، ليس من خلال تمثل اللوحة الفنية عندما "نجد انفسنا مدعويين للمشاركة في تكوين او تشكيل او بناء خاص انصهرت فيه الالفاظ والصورة والاوزان والايقاعات من ناحية، والخطوط والألوان والمساحات والظلال من ناحية اخرى"***، اي انها قد اشبعت البناء التشكيلي بأيحاءات صوتية وتمثيلية ناتجة عن لوحة فنية هي لوحة (سيزان)، وقد اخرجتها من تداوليتها كلوحة وتحويلها الى مقطع سينمائي، تمثل من خلال اصوات هي (اصوات خطى وزجاج يتهشم) و (انين) وايضا الصورة السينمائية، التي تعكسها الصورة المرئية الممثلة بـ(طفل) و(زجاجات فارغة) وايحاءاتهما (صراخ مكتوم) و (جوع).
وكذلك لو نظرنا في نص (سوف لا ادعي سفرا سيحل):
قريبا
اعد الحقائب
فمنذ قرون والطريق
تحاول جاهدة غير اني
سأعلق خوفي على مشجب الذكريات
ارتق هذا المساء بغيم الاماني
لكي لا ارى قمرا خادعا
او نجوما..
منحت ضوءها للغريب
تترنح هذه الغيوم تبلل اشرعتي
تفر العصافير مذعورة
افتح نافذتي وأحدق
يلحس القط وجه القمر
تشرب الشجرة كؤوس المطر
وتلقي بها للريح
واسمع صوت ارتطام الامنيات
ألم شظايا
وأدلف نحو النهار
سنلاحظ بأن هذا النص يأخذ مداه في تفعيل دلالته من خلال الايحاء الذي تضفيه دلالة العنوان وهي (سوف لا ادعي سفرا سيحل)، ومن خلال فتح فضاءات دلالية تتأسس رؤية شعرية واحدة، تنتج من خلال التلاحم مابين دلالات النص (فأدعاء السفر) الذي يوحيه العنوان يظهر من خلال (قريبا اعد الحقائب)، ونكران هذا الادعاء يتم من خلال البنية الزمنية (قريبا) التي توحي بأن (اعداد الحقائب للرحيل لم يتم بعد)، لكن العلاقة بين (قريبا اعد الحقائب) و (منذ قرون والطريق تحاول جاهدة) وايضا (غير اني....)، تظهر لنا بأن النص يحاول تأكيد دلالة الرحيل او بالاحرى الاصرار على الرحيل، حيث ان الدلالة الاولى المقترنة بالزمنية (قريبا) تدخل بعلاقة غير مباشرة مع الدلالة الثالثة وهي (غير اني..)، حيث ان العلاقة المباشرة بينهما ستعكس كل محمولات النص، لذلك جعلت من الدلالة الثانية وهي(منذ قرون والطريق جاهدة) جسرا تعبر عليها دلالتها، والتي لو شاء لنا توضيحها سنختصرها؛ بأن الاعداد للسفر سيتم بعد ان يتخذ النص عدة خطوات وهي:
• سأعلق خوفي على مشجب الذكريات.
• ارتق هذا المساء بغيم الاماني.
الى اخر النص الذي ينتهي بدون ان يتم الرحيل، اذ تأتي تحركات النص لتأكد ارتباط انا الشاعرة بالمكان وتمثلاته التي تظهر من خلال (تفر العصافير مذعورة)،(افتح نافذتي)،(يلحس القط وجه القمر)،(تشرب الاشجار كؤوس المطر)، ثم تنتهي بأن (ادلف نحو النهار).
وأخيرا تختزن مجموعة (فوضى المكان) للشاعرة رسمية محيبس زاير، الكثير من الفضاءات الشعرية التي لو قيض لنا سنحاول ان ندرسها بصورة اكثر عمقا في قابل الايام انشاء الله.
* قصيدة النثر من بودلير الى ايامنا – سوزان بيرنار – ت: د. زهير مجيد مغامس – دار المأمون –بغداد 1993 ص13
** فوضى المكان – رسمية محيبس زاير – مؤسسة الفكر الجديد- النجف 2008
*** قصيدة وصورة –د. عبد الغفار مكاوي – سلسلة عالم المعرفة – المجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب – الكويت 1987 ص22
amjednjem_(at)_yahoo.com