قمقم الرعب الفسيح - فرج ياسين
لم يعمد أي من الجنود الآخرين إلى رصد تلك اللحظة ، ولم تدون في لوائح الواجبات اليومية . وحدة الجندي رود ملفل من أوكلاهوما ؛ قام برصدها لحساب ذاكرته ، وبعد عودته إلى الديار ، حدّث بها أصدقاءه وزملاءه في العمل ، وآخرين عابرين في مناسبات كثيرة .
في الآونة الأخيرة ، وبعد إنقضاء ثلاثة أعوام على عودته من العراق؛ وهو يحمل ندوبا ً في جبهته وعارضيه ، ويعاني عرجا ً خفيفا ً في ساقه اليسرى ، فطن إلى أنه بات متورطا ً في حبائل وسواس يوميّ لايكاد يحد له مخرجا ً . ومع إنها حادثة صغيرة عابرة فقد ظهرت على أحداث ٍ جسام ومخاطر جمّة ، تعرض لها فضلا ً على ذكريات عامين من المثول في قمقم الرعب الفسيح ؛ الذي كان يتربص به وبزملائه الجنود في كل مكان ، وفي كل دقيقة على أرض العراق .
الجندي رود ملفل من أوكلاهوما ، ذهب الى الحرب إمتثالا ً لإغراءات التطّوع المعروفة ، وهو أمريكي مهجّن ( وثمة من يعّدون ذلك ميزة ً جنسية وحضارية ، ويدّعون بأن الأسود والأبيض لونان يستحيل مزجهما في غير أمريكا ).
في الأيام الأول ، بعد وصوله الى العراق ، لم يكن يملك أية فكرة عن المفاجآت والمخاطر المحتملة ، لكنه تعلم التعامل على نحو يستبعد الخوف بعد ذلك ؛ لأن القضية كلها ذات صلة ٍ بنوعية السلاح وقوانين الحذر والوقاية وإستعمال العنف . وهو حين كان يكتب رسائل الى أمه أو صديقته ويبعثها بوساطة الأنترنيت ، دأب على التأكيد بأن الخطر موجود فعلا ً ، لكن تدريبنا وأجهزتنا وطائراتنا ووسائلنا العسكرية . لن تخذلنا ، وأن الجيش سوف ينجز مهمته التي ذهب من أجلها . أما الناس – هنا – فنحن لا نفكر بهم !
صديقته كلير صارت تبذل كل ما في وسعها من أجل تخطيه أزمة التذكّر . وزميلا العمل في مكتب البريد كاري وتانسن ، نصحاه بعرض حالته على طبيب نفسي ، لكنه صارح الجميع بأنه يحب معاودة المثول في حضرة تلك اللحظة ، ويستمتع بفكرة إستقصاء درسها الغرائبي لسبب بسيط يتلخص في انه يريد معرفة ، ماذا كان يعني حصول ذلك حقا ً ؟ ولماذا علقت تلك اللحظة في ذاكرته ، وجعلت تنسج شباكها في وجدانه ؟
وأخيرا ً ومن دون إستشارة أحد ؛ قرر أن يبعث رسالة الى الرئيس باراك أوباما يروي له فيها حكاية تلك اللحظة ، على انه لا يدري – على وجه الدقة – لماذا إرتفع بإختياره إلى قبّة البيت البيض ؟
سيدي الرئيس ، حين كنت مجندا ً في العراق قبل ثلاثة أعوام ، وفي صباح خريفي ّ جميل ، قامت قوة مؤلفة من بضعة جنود – وأنا منهم – بمهمة إستطلاع في قرية تقع شمال تكريت ، القرية صغيرة جدا ً ، حقولها فقيرة ، ومنازلها متباعدة ؛ فعزمنا على زيارة أحد تلك المنازل – قلت زيارة ياسيدي – ولم يكن لدينا أي مخطط عدائي . بل على العكس تماما ً أرادنا أن نأنس بقاطني المنزل ونحظى بمقابلة ودّية ، وربما راودت مشاعرنا رغبة نزيهة في الحصول على دعوة الى قدح من الشاي ، أو كأس من نقيع المشمش المحلــّي . كنا في لحظة مرحة ، فتقدم بعضنا وطرق الباب طرقا ً خفيفا ً ناعما ً . وبعد هنيهة فتح الباب وأطلت صبية ، بدا وكان ملاك الرب المنوطة به مهمة إسباغ شفرة الجمال الآلهية ، هو من أعد زينتها .
لايزيد عمرها عن السادسة او السابعة عشرة ، ولم أر في أوكلاهوما كلها فتاة بمثل إشراقها وروائها . ومع أن أقربنا اليها كان يقف على بعد مترين في الأقل ، ولم نكن نشهر أسلحتنا ، أو نصدر حركة وقائية من أيّ نوع ، بل رحنا نصطنع إبتسامات شبابية خفيفة حوّمت حول محيا كل واحد منا ، لكنها حصبتنا بنظرة إحتقار مريعة ، وشاهدت وجهها وهو يتقبّض ويتلون ويتفصد عرقا ً ، وكفيها وهما تهويان الى بطنها ، وجذعها وهو ينحني . وفجأة كفت عن معاينتنا وإنكفات جاثية على ركبتيها ، وراحت تقيء .
قاءت لمجرد رؤية وجوهنا ياسيدي الرئيس !
19 / 4 / 2009