أعيدوني الى حلمي - خليل ياسين
تسللت يدي الى يديك ، تلمست خيالك بين الوجود ، وكانت فرحتها لا توصف حين تنام بين يديك كطائر الدوري المبلل بالمطر ، وكنت انت حنون وهاديء....
انت الذي قلت لي ذات يوم : لك عليّ ان تبقى مقترناً بي الى الابد ، وكنت انا حين اسمع هذه الكلمات أطمئن، واتصرف مع عالمي كنفس مطمئنة ، وكانت الاشياء من حولي راضية مرضية ، كل شيء كنت اراه يحمل لونه الحقيقي ، فالاسود لون القوة والازرق لون الحب الغامض والاحمر لون الاشتعال والاخضر لون الهدوء ..وهكذا ، كانت الالوان تحمل قوة وضعفاً تدركه كلما وقع عليه نظرك .
اتذكر حين خرجنا بيوم كانت الجماهير فيه كموج البحر تطالب بالاستقلال الوطني وكنت انت تقود تلك الجماهير وتهتف عاشت بلادي حرة عربية ، الارض لنا من الماء الى الماء ، كنت في تلك الفترة استمد منك تمسكي بالحياة..... وكانت جد رائعة .
ولكن بعد ان سقطت البلاد ، واصبحت انت خارجها ضعت في بلاد الله ، وصرت تصرخ ولا يسمعك احد... كأن صرخاتك تدوّي بداخلك فقط ، وكانت رحلتك خارج البلاد كرحلة السندباد الذي تاه في الجحيم ، وبدأت رحلة الشك بك وبنواياك ....بدأ عذابك ، فاخوانك صاروا يتوجسونك ، انقسموا بشأنك....فريقان: فريقاً شك فيك...... في حركاتك وسكناتك ، وصرت بالنسبة اليه كائن سماوي مريب مخادع..... افكارك اما يسارية او ثورية او متطرفه ، تتحالف مع اعداء النظام والقانون السائد ، وفريق استوعبك وحاصرك تحت راية القومية والوطنية والثورية...ضيّق عليك في كل شيء....
وبين هذين الانقسامين ضعت ضياعاً غيبك عن الرشد فترة ليست قليلة من الزمن .
صرت تحت الزنك، وصارت المياه العادمة جارتك بعد ان كنت جار الماء العذب الفرات ، وصارت الكلاب الضالة والقطط الجائعة والفئران تشكل مجتمعك الجديد ، والطرقات تضيق عليك وتسحق عظامك كضيق القبر على جسد كافر ، وصرت تدخن التبغ الحار وتتذوق الاشياء الضارة ، وكأنك تود الانتحار ......
كل شيء ضاق عليك الا احلامك ...بدأت تكبر..صرت تحب الخلوة لتستحضر ايام البحر والمزارع التي كانت تفوح منها رائحة البرتقال النفاذة ...لم يكن لك شيئاً تملكه ، قبل غيابك عن البلاد ، لكنك كنت تشعر ان كل شيء لك ، العصافير والفراش والسوسن والروائح المختلفة التي تنطلق من الاشجار المختلطة ، حتى الروائح المزعجة ..صرت تحبها ..وتتمنى ان تعود.... فهي محببة اليك كما يحب السائس جموح الخيول الخيول العابرة....
صرت تحب ذلك المكان الذي وانت فيه ...كان عادياً ، لان الفقر فيه كان يجلدك بسياط من نار ..وكنت تضمحل وتتلوى من ضيق الزمن عليك..... ذلك المكان كان فسيحاً جداً بالمقارنه مع واقع مكانك هذا ...
كل ذلك جعلك تكفر بكل شيء الا مسقط راسك.... لذلك مزقت اوراق حسن السلوك التي ارادوها لك....ونبذت الحياة الهادئة وامتشقت الحسام ، حسامك كان تصميمك على الخروج من حالة الضياع التي وجدت نفسك فيها بعد ان ادخلك الاشقاء الى قلوب من جحيم ... احتضنونك... ولكن في مقابرهم التي كانت _ولاول مرة_ في فوق الارض ...
بعد ان ضربت في الارض الواسعة ودفعت الثمن من جسدك الذي اثخنته الجراح ومزقته السيوف ، بقيت مكانك ..ولكن عادت لك هيبة كانت مهدورة ، صرت معها لوحة سوريالية مبهمة للناس ....لكنك معروف لنفسك ،...عندها عرفت ان الضياع يجب ان لا يستمر .....
حصلت نوايا حسنة من مختلف الالوان .... تذكروك وحاوروك ، وشاركوك بقضاياك ، وانت سرت معهم ، قالوا لك اعترف بنا نعترف بك .... فاعترفت ، بدافع الهمة العالية التي خلقتها لنفسك بها ...
اعادوك الى مسقط راسك ، دعموا عودتك بكل قواهم ....
كان حلمك السرمدي ان تعود الى وطنك....
لتكتشف بعد غياب طويل ان الاشياء ليست كما كانت ... الناس والشوارع والاشجار والاصوات والفضاء والسماء وابعاد المكان ...كل شيء كان قد تغيّر....كل شيء قد تحول ....حتى انت ....
حيث ان واقعك الجديد لا يعكس خيالك..... حاولت ان تطابق الواقع والحلم ففشلت....
حاولت ان تخرج بصيغة توفيقية بين الحلم والواقع وفشلت ايضاً....
حاولت ان تعيش بالواقع كما هو وفشلت....
تحاول ان تعيش بحلم كنت تحمله ....وما زلت تفشل.....
ولكنك ضعت الان ضياعاً محزناً ....
وصرخت تصرخ باعلى صوتك....
اعيدوني الى حلمي .....
فيجيب صداك...
اعيدوني....
اعيدوني....
الى حلمي....