قضاة الشرف)
للقاص عبد الوهاب بن منصور
صراع المقدس والمدنس
النص فضاء لغوي مفتوح يتحمل عدة قراءات تتلون وتتعدد حسب نية داخله..ذهنيته..ثقافته وحتى عمره احيانا...ودخول النص دخولات ومن يدعي امتلاك مفتاح الباب الرئيسي يدععي امتلاك الحقيقة؟؟
في دخولي عالم(قضاة الشرف) حرصت –قدر المستطاع-دخوله بحياد ابيض...ولكن ما انهيت فصول الرواية حتى وجدني مضطرا الى ضرورة التقديم لها.
لان ابن منصور يتناول عالما يتسم بمحلية قصوى لا يمكن فك رموزه وفهم احداثه الا لمن يملك معرفة عن عالم –الزوي- على الاقل المظهر الخارجي-وما يشاع عنه من هالة العفة والقدسية.
ان( الزاوية)في المفهوم والثقافة الشعبية-للكاتب وسكان المنطقة على الاقل-مؤسسة دينية تتسم بقدسية لا يجوز فك اسرارها والولوج في تفهم اعماقها واليات عملها وتحركاتها,بل يجب التسليم والقبول بماهيتها كيفما هي والرضوخ لتعاليمها وتنفيذها مهما بعدت عن المنطق وخرجت عن المالوف والمتداول ,كما يجب الايمان بعصمة صاحبها-الغوث-وسدادة تصرفاته وحكمة قراراته وافتاءاته.
بهذا فقط نستطيع فهم احداث الرواية وتفسير الصراع المرير عن منصب الغوثية وما انطوى عليه من ميكافيلية.
منذ الوهلة الاولى يضعنا ابن منصور في مكان وعالم مخالف تماما لقدسية المكان والعالم الذي يعيش فيه..اذ نلتقي به وصديقه الذي جاءت به نفس الظروف في حانة –فلاوسن- بمدينة وهران بدل الزاوية والدشرة.
ياتي وهران: نفيا له وهروبا منه من صقيع العلاقات الاجتماعية ..لينسى فتوى-قضاة الشرف-الذين حرموه من (نوارة)لا لشيء سوى لانها لا تنحدر من عائلة شريفة..هذا الشرف الذي يقننوه حسب مفاهيمهم ومصالحهم-ياتي وهران بحثا عن دفء امراة يفرغ فيها طهارته ..امراة تقول له : هيت لك ووهران وحدها تمكنه من ذلك :
(..الان ابحث عن حواء التي تاكل التفاحة عمدا وتقول لي : هيت لك...)
(..حين دخلت وهران حثتني نفسي على الفحشاء والمنكر..)
(قال لي اخي وهو ينفث عقب سيجارة كنا نتداولها: في وهران تنسى نفسك..)
ولكن.
(وهران هذه الليلة ليست كما كان يحدثني عنها اخي محمد...كان يقول لي اني انسى نفسي..وانا منذ دخلتها هاربا لم انس نفسي..)
وفي غمرة تعاطي الاحمر-السكر-تنثال الذكريات شريطا مفصلا فيقدم لنا ابن منصور رواية اثنوغرافية تخلص الى ما ذهب اليه-جاك لاكان-في كتاباته عن الاسرة وتعقيداتها وبانها (هي مجال حيوي لكل الازمات النفسية ولجميع الدناءات الاجتماعية).
ندخل عالم –الزوي-لنجد انفسنا وسط غابة من الصراعات,المكائد,الدسائس والانانيات المفرطة تكشف هلامية المقدس وتبرز المدنس..عالم يسوده صراع طبقي..شخصي..حاد لا تنفع ولا تشفع فيه قرابة دم ولا عرق ولا صلة رحم..المصلحة والمصلحة الشخصية هي فقط من يحدد الاشخاص ومواقعهم...
-الجد يستاثر بالغوثية ناقضا عهدا كان ابرم بينه وبين اسرة (ولد البغدادي) على تداول الحكمة.بحجة ان دمه اختلط ولم يعد صافيا.
-الاب الذي يرفع شعار الانتقام والثار لصفات الرجولة وضرورة الدهاء في تسيير شؤون الحكم مستشهدا بغلبة معاوية لعلي بدهاءه..لذا افتك الخلافة-الاب- من ابنه عدوانا وبهتانا وصفى خصومه نفيا-الراوي وصديقه- وبالقتل طورا-العم مولود وصديقه الكبران.
-ولد البغدادي الذي كان يمثل المعارضة يروضه الاب ويدجنه ليصبح الة في يده بتزويجه (نوارة)
وسط هذا العالم الموبوء بالعهر والتخدير فالفساد يحاول الابن الذي ليس هو بالضرورة-الكاتب-ان يشذ عن المالوف ويخرج عن المستور فبدات مكابرته تظهر منذ صغره فقد جادل فقيه المسجد في قصة خروج حواء من الجنة رغم انها لم ترتكب الخطا عمدا والله كما اكد الفقيه يحكم على النيات قبل الافعال؟؟....ورفع صوته عاليا في وجه الام التي تمثل هي الاخرى سلطة باعتبارها زوجة الغوث عندما احب نوارة واراد زواجها فرفضت متعللة((اسمع يا بني..هناك بعض التقاليد التي يجب ان نتقيد بها نحن اهل الحضرة ورثة العرش..فحياتنا مهما كانت فهي من اجل العرش وزواجنا ايضا تحكمه عادات وتقاليد لا نستطيع الخروج عنها ونوارة طفلة جميلة ولكنها ليست من الاشراف وانت يا بني عاقل ولا ترضى لنا العار...))
فيجيب الرواي
(ولكن ابي تزوجك وانت لست من الاشراف؟؟))
وفي غياب الاب وتوليه الحضرة-أي الكاتب-وامتداد المعارضة اراد ان يدخل تعديلات-وان كانت هذه التعديلات لم تخل من مصالح واهواء شخصية- فاتهم بارادة السطو على العرش واسترداد الغوثية التي سلبت منه ,فعاد الاب وارجع كل الامور كما كانت عليه بحكمة ودهاء صفى خصومه ودبر مكيدة هجرة او نفي ولده.
كل هذه الاحداث وغيرها بتشعباتها وتفاصليها الصغيرة استطاع ابن منصور الالمام بها وتجميعها في قصة جميلة تنم عن قرة هائلة وتقنية عالية تمكن الكاتب من القفز عبر ازمنة وامكنة عن طريق السرد المشوق واللقطات الخاطفة في ثراء لغوي يمكن من تتبع الاحداث مهما كبرت او صغرت عبر لغة سهلة سلسة تشد القاريء شدا وترغمه على تتبع نغمات وايقاعات جملها عبر فقرات وفصول الرواية...
كما تكشف الرواية كما جاء على غلافها عن علاقة واعية بالتراث وارتباط وثيق بالماضي وتجلياته-اذ يقدم لنا القاص صورا ولوحات موزائكية ساحرة عن تعاطي اهل الدشرة لبعض الطقوس والتقاليد والماثر:
((شجرة الخروب العظيمة منتصبة دائما,تزورها العوانس ليتزوجن..يتعرين ثم يغتسلن بترابها المبارك ويشعلن سبع شمعات عند جذعها الضخم...))
-((شجرة الخروب تشهد مبايعة اهل الدشرة لابي الغوث-سيدي محمد-لم اكن اعرف ان المبايعة تتم بتقبيل الجبهة والكف..))
-((البحرالذي جاء عن طريقه النبي –يوشع-1-وهوغلام لدى النبي موسى وصاحبه الخضر..على ساحل الغزواتنزل الانبياء..استراحوا..واكلوا..فرفضالنبي يوشع العودة مع رفيقيه وفضل البقاء في هذه الارض..
تقول جدتي:فركب النبي موسى وصاحبه الخضر مركبهما ونسيا خبوهما على الشاطيء فكان غذاؤهما بركة وخيرا عم الارض..))
-((الله حي .....حي ...حي ...الله ؛ي... كان الايقاع بطيئا ,عباءات الفقهاء تهتز وتتثاقل..تغير الايقاع صار سريعا كان العرق يغمر الوجوه..العباءلت تهتز بسرعة الاجساد..محمومة الرؤوس تنحني الى الامام ترتفع بسرعة يسقط ابي وسط الحلقة واصل الفقهاء هتافهم..))
-((جدي مسجى بازار اصفر وسط روائح الجاوي واعواد القماري..))
والى هذه الصور الجميلة لم تكتف قصة ابن منصور بتشريح تلك التناقضات والمؤمرات والدسائس على على صراع محدود في العائلة والدشرة بقدر ما هو صراع وجود ممتد وممدود
هذا الصراع يعني وجود خلل على المستوى العام-الحكم-المجتمع- وقد اضاء ابن منصور ذلك عن طريق لقطات حول الثورة وما شهدته من صراع افكار واقتتال رجال-حوارات الاب والعم عن حركة مصالي-حزب الشعب-اعتبار الاب الافلان ابن عاق للمصالية-انقلاب 19 جوان واحداث الثورة الزراعية وما لهذه الاحداث من دسائس وتصفيات جسدية استنكرها الخال –مولود-واعتزل الناس بسببها.. لكنه لم يسلم منها لاحقا بسبب ارائه العلمية وعدم رضاه في اغتصاب الاب للغوثية واقراره بعدم شرفة اخته-زوجة الغوث- كما لم يسلم منها قدور الكبران الصديق الحميم للاب لانه عارض طريقة تسيير الدشرة وتولي الانتهازيين مناصب مفتاحية
واذا كان الراوي في لحظة فنائه في الخمرة هروبا من كوابيسه وبحثا عن سعادة سمع الناس يتحدثون عنها..وتركنا مشدوهين امام نهاية مفتوحة رغم اصراره عل ايجاد اعواد ثقاب لانارة غرفته وحثه المستميت في ايجاد باب الخروج من غرفته-محنته:
((لابد من ان اجد الباب..الزاوية الاولى...الثانية...احسست بالدم في يدي..المسه باليد الاخرى...احس بسائل ساخن يجري من السبابة اضعه في فمي اتفحص . الدم يسيل .. هو فال خير .. ساجد الباب حتما اذا سال الدم حضر الاولياء وباركوا ذلك اعود للبحث زاوية اخرى.... واخرى...))
توصل ابن منصور الى الباب ام لما يتوصل؟؟
فقد توصل الى منحنا لحظات من السحر والدهشة في قصة رائعة تنم عن موهبة تمتلك القدرة على الهمس والبوح عبر تقنية ذكية تختصر الزمان والمكان في لغة حنونة هادئة سيالة في صور خالدة عن –جبالة-2-وقصيدة شعر رائعة ل –نوارة-نوارة الشمس..نوارة الحقول والصحاري...نوارة الجسد والقلب..نوارة جبالة..
وفي منشوره ذكرنا –ابن منصور-بتدفقات وسيلان لغة –راشا-العسل الجبلي والنبع الصافي لاحراش –مسيردة ل(عمار بلحسن) وادخلنا اجواء رائحة السندل والبخور الافريقية التي تستهوي فراشات المدن البارارد الحانة الى لفحات الشمس الافريقية في (موسم الهجرة الى الشمال( ل –الطيب صالح-ودعانا الى ضرورة البحث عن شمعة(الطاهر وطار)لانارة دهاليزنا وااكتشاف كنوزنا ومعرفة منابعنا.
فشكرا على القصة الدهشة.
ع القادر زيتوني
1-سيدي يوشع: شاطيء على سواحل الغزوات
2-مسيردة:منطقة جبلية شرق وجدة ينتمي اليها الكاتب