[43]قال ديكارت في مبادئ الفلسفة: "من التناقض ان نفرض ان المفكر لا يوجد في الوقت الذي هو فيه يفكر"، وقال أيضاً: "اننا لا نستطيع ان نفترض اننا غير موجودين حين نشك في جميع الأشياء". وتسمى قاعدة ديكارت هذه "أنا أفكر، إذن أنا موجود" (cogito ergo sum) بالكوجيتو، وهي في نظره حقيقة بديهية. ولكي تكون الحقيقة بديهية، يجب ان تكون في معزل عن الشك، والكوجيتو هو، على حد تعبير ديكارت، "أوثق الحقائق والمبادئ التي تعرض لمن يقود أفكاره بترتيب" (مبادئ الفلسفة)، بل الشك فيه برهان عليه، لأن الشك يستلزم التفكير، والتفكير يقتضي الوجود. وهذا الكوجيتو الديكارتي لا يخلو من موافقة لبعض أقوال القديس اوغسطين الذي قال في رده على الريبيين: إذا أراد المرتاب أن يفكر، فيلزمه، وإن اخطأ، أن يكون موجوداً، ان يعرف انه موجود: "إذا أخطأت فأنا موجود" (اوغسطين، مدينة الله). ولكن ديكارت استخدم الكوجيتو في غير ما استخدمه فيه القديس اوغسطين. ان بداهة الكوجيتو عنده ترجع إلى القول ان تجمع أسباب الشك لدي لا تزيدني الا وثوقاً بصحة وجودي، لأنني لا أستطيع ان اشك الا إذا كنت موجوداً: إذا شككت فأنا موجود.
[44]ان الكوجيتو مبدأ أول، لأن التصديق به لا يحتاج إلى أي مبدأ آخر، في حين ان التصديق بجميع المبادئ الأخرى يستلزم أولاً التصديق بالكوجيتو. ولقد أخطأ غسندي في زعمه ان الكوجيتو قياس منطقي حذفت مقدمته الكبرى، وهي "كل من فكر فهو موجود"، فكان الكوجيتو قياس على الوجه الآتي: كل من فكر فهو موجود، وأنا أفكر، إذن أنا موجود، وهذا خطأ، لأن لفظ "إذن" لا يقتصر في الكوجيتو على ربط النتيجة بالمقدمة، بل يشير هنا إلى ما بين الفكر والوجود من صلة وثيقة، ونحن ندرك هذه الصلة بالحدس لا بالقياس. فالأصل في الكوجيتو ليس إذن هذه القضية العامة: "كل من فكر فهو موجود"، وانما هو الإدراك المباشر للصلة الوثيقة التي بين الفكر والوجود.
[45]ان اليقين الأول الذي استخرجه ديكارت من الكوجيتو هو وجود النفس، واستقلالها عن البدن.
[46]وبعبارة أخرى: إذا كنت أفكر فأنا موجود، حتى لو كان العالم الخارجي غير موجود. ... إن الذي يقود فكره بترتيب يعلم إذن ان وجود الفكر مستقل عن وجود الجسم.
[47] ان في نفوسنا ظواهر نفسية كثيرة، فنحن نشك، وننفي، ونريد، ونحس، ونتخيل، وجميع هذه الظواهر نشترك جميعاً في نسبتها إلى الجوهر المفكر. والجوهر المفكر هو النفس، أما الجوهر الممتد فهو الجسم.
[48]ان القاعدة الأولى من قواعد ديكارت توجب علينا ان لا نصف الأشياء الا بما نجده فيها واضحاً ومتميزاً، ونحن نعلم ان الجوهر الذي ندركه بقولنا: نحن نفكر، لا يحتاج في تحديده إلى الجسم، فالفكر متميز إذن عن الجسم تماماً. وهكذا كان تطبيق الطريقة الرياضية في علم ما بعد الطبيعة مؤدياً إلى القول بالمطابقة بين الماهية والوجود.
[49] ان النفس التي تشك تدرك ذاتها بطريق الشك، وهذا الشك يشعرها بأنها ناقصة، ولكن فكرة النقص هذه تفرض فكرة الكمال الذي يعوز النفس، فإدراك النفس لذاتها بالحدس يتضمن إذن فكرة الكمال، وهي الأصل الذي يستند إليه ديكارت في برهانه الأول على وجود الله.
[50] ليست الأشياء الخارجية الا جواهر ممتدة ذات أشكال وأوضاع وحركات، وإذا كنت أنا نفسي جوهراً، فان لدي إذن ما أستطيع ان أؤلف منه معنى الجوهر وأحواله (modes) وبذلك تكون الأجسام الخارجية من لواحق طبيعتي.
[51] هذا مبدأ ديكارتي: الحق هو الوجود، والباطل هو العدم، وكل موجود فله علة، وعلى ذلك فإذا كانت الفكرة حقاً فلها بالضرورة علة.
[52] أي ليس اقل تناقضاً.
[53]إذا قلت: ان في المعلول شيئاً اكثر مما في العلة، كان هذا الشيء الزائد لا علة له، وإذا قلت أن الأكمل يحدث عن الأقل كمالاً، رجع قولك هذا إلى ان الشيء يحدث من لا شيء، وهذا خلف.
[54]أي اصطلاحات فلاسفة القرون الوسطى.
[55]هذا القسم من قوله: "لما رأيت ان هناك كمالات"، إلى قوله: "أتصور وجودها في الله" هو شرح ثان للدليل على وجود الله. وخلاصة هذا الدليل ان الإرادة تنزع حتماً إلى ما تظنه خيراً أعظم. انني ارغب في الكمال لأن لدي فكرة واضحة عن الكائن الكامل. ولكن لماذا لا أستطيع الحصول على جميع الكمالات التي أتصورها؟ ذلك لأنني لست خالقاً لوجودي، بل أنا أتابع لعلة هي اكمل مني، مشتملة على جميع الكمالات التي أتصورها، وهذه العلة هي الله.
[56] ان البرهان على وجود الله بالاستناد إلى فكرة الموجود الكامل ليس برهاناً على وجود الله فحسب، وانما هو الوسيلة الوحيدة التي تعين لنا في الوقت نفسه صفاته. فالله هو الموجود الكامل، الواحد، الأزلي، الدائم، المستقل بذاته، المحيط علمه بالأشياء، والمتصف بجميع الكمالات. وفكرة "الكامل" هي المعيار الذي تتوازن به سائر الصفات الأخرى.
[57]ذلك لان أجزاء المركب تابعة بعضها لبعض بالضرورة، ولأن الكل نفسه تابع بدوره للأجزاء التي يتألف منها.
[58]ان وجود الله هو الذي يضمن وجود العالم الخارجي، والله صادق لا يكذب، ولا يضلل، وصدقه هو العماد الوحيد لوجود الأشياء الخارجية.
[59]أي الملائكة بالمعنى المدرسي (أو السكولائي).
[60]كطبيعة الإنسان المؤلفة من اتحاد النفس بالجسم.
[61]يشير هنا إلى مبدأ الخلق المستمر (continuous creation).
[62] أي انه بعد أن برهن على وجود الله، وجود النفس وتميزها عن الجسم، سبر نمو فكره فاختار من محتوياته فكرة الامتداد الهندسي، وتناولها بالبحث.
[63]لانك لا تستطيع ان تتصور المكان الا محدوداً بمكان آخر.
[64]أي يوضع بعضها في محل بعض.
[65]لقد خلق الماهيات الهندسية كغيرها من الماهيات، وهو قادر على ان يبطلها ويخلق غيرها، اما طبيعته الكاملة فهي أثبت من جميع الحقائق، ويستحيل عليه ان ينفي عن نفسه الوجود، أو أن يجعل الخليقة مستقلة عنه.
[66]يقارن ديكارت هنا بين المفاهيم الهندسية ومفهوم الكائن الكامل، فيجد في هذه المقارنة دليلاً على وجود الله، وهو اننا نستطيع ان نتصور شكلاً هندسياً من دون أن نتصور وجود موضوعه خارج الذهن، في حين اننا لا نستطيع ان نتصور الكائن الكامل، أي الإله، من دون ان نتصوره موجوداً، لان الوجود كمال من الكمالات، ومن التناقض ان نفرض ان الكائن الكامل ينقصه كمال ما كالوجود. وقد سمي هذا الدليل بالدليل الانطولوجي (ontological argument)، أو الوجودي، لانه يستنتج الوجود من فكرة الكمال.
[67]ان الذين يألفون الإدراك الحسي يعجزون عن تمييز النفس من الجسد، وعن إدراك ضرورة وجود الله، فيبدو لهم أن النفس جسم دقيق، وأن وجود الله شبيه بوجود الأشياء المادية، مع أن الله انفرد بميزة لا يشاركه فيها شيء، وهي ان وجوده لازم عن ذاته. لا بل ان فكرته تجعلنا على يقين بوجود موضوعها خارج الذهن.
[68]هذه حكمة سكولائية: Nihil est in intellectu, quod non prius fuerit in sensu
[69]هذا نقد لفلسفة القديس توما الاكويبي الذي كان يقول ان عقولنا لا تدرك من حقيقة الإله والنفس اكثر مما تستطيع ان تصل إليه بطريق المعرفة الحسية.
[70] في الأصل (morale) أي ثقة خلقية، وأدبية، وهي الثقة الضرورية للنهوض بحاجات الحياة العملية، كثقتنا مثلاً بقواعد الأخلاق المؤقتة.
[71] في الأصل (metaphysique) نسبة إلى علم ما بعد الطبيعة، وهو اليقين الذي لا يقارنه إمكان الشك.
[72]قارن هذا القول بقول الغزالي في المنقذ من الضلال: "فتوقفت النفس في جواب ذلك قليلاً، وأيدت أشكالها بالمنام، وقالت: اما تراك تعتقد في النوم أموراً، وتتخيل أحوالاً، وتعتقد لها ثباتاً واستقراراً، ولا تشك في تلك الحالة فيها، ثم تستيقظ فتعلم انه لم يكن لجميع تخيلاتك ومعتقداتك اصل وطائل... الخ"
[73] يفرق ديكارت بين نوعين من اليقين: الأول يسمى أدبياً، أي كافياً لتدبير أخلاقنا. وهو مساو في القوة ليقيننا بالأشياء التي ليس من عادتنا ان نشك فيها لتعلقها بسلوكنا في الحياة، مع اننا نعرف انها يمكن ان تكون باطلة: إن الذين لم يذهبوا البتة إلى روما لا يشكون في انها مدينة في إيطاليا... اما اليقين الثاني فهو اليقين الذي ندركه عندما نرى ان الشيء لا يمكن ان يكون على غير ما نحكم به عليه، وهذا اليقين يشمل جميع الحقائق المبرهن عليها في الرياضيات.
[74] ان هذا الكلام أثار المشكلة المشهورة في تاريخ الفلسفة باسم الدور الديكارتي ويلخص هذا الدور كما يلي: اننا أقمنا الدليل على وجود الله بالاعتماد على مبدأ البداهة، وهو أن كل ما نتصوره بوضوح وتميز حق. بعد ان تم لنا ذلك الدليل، عدنا إلى تصوراتنا، وقلنا ان ما نتصوره بوضوح وتميز لا يكون حقاً الا لأن الله موجود. فنحن قد استندنا إذن إلى سلطان البداهة في إثبات وجود الله، ثم استندنا إلى وجود الله في تأييد سلطان البداهة، وهذا دور.
[75] في الأصل (repugnance)، أي الاشمئزاز أو النفور.
[76] قارن هذا القول بقول الغزالي في المنقذ من الضلال: "وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيراً في مقدار دينار، ثم الأدلة الهندسية تدل على انه اكبر من الأرض في المقدار".
[77] ان هذا الاستدلال ليس منتجاً لانه قد يتأتى للمرء ان يكشف بعض الحقائق العلمية في النوم، وقد اعترف ديكارت نفسه بذلك.