Mohamed salah مرفأ غريب
اسم الدولة : الجزائر
| موضوع: استشهاديات للشاعر: الفيروزي الخميس مايو 10, 2012 11:23 pm | |
| على ضفاف الإبداع استشهاديات للشاعر: الفيروزي عبد الله لالي بسكرة الجزائر
إنها ملحمة مختزلة في أبيات تتقد لهبا، وكلمات تقطر دما.."استشهاديات" مرآة صافية تعكس ما يمور في نفس الشاعر من غضب ومرارة وثورة تتململ. إن قصيدة "استشهاديات" المنشورة ب "صوت الأحرار" (العدد 1907) والتي ألقاها بالملتقى الرابع (بسكرة عبر التاريخ)2 فاهتزت القاعة بالتصفيق وكاد الجمهور- بهذه القصيدة- أن ينسى التاريخ وأعماله، وينغمس في دنيا الشعر الحماسي وغضباته ما جعل الشاعر عمر البرناوي3 يقف معترضا الفيروزي وهو ينزل عن المنصة ليعانقه معترفا له بالإجادة والإحسان. إن هذه القصيدة لتعد معلما من معالم التوقيع الشعري في الجزائر؛ الذي يعبر عن عذابات الأمة وغضباتها، ويعبر عن ضميرها ونظرتها المتميزة للواقع والأحداث. إن صوت الأمة وصوت الشاعر توحدا حد التمازج في هذه الرائعة "استشهاديات" وذلك ما يفسر التصفيق الحاد الذي اهتزت له أرجاء "قاعة الفكر والأدب" أثناء إلقاء الشاعر لهذه الملحمة، لاسيما عند قوله: إن كان الغرب يكفرنا فمن الإيمان بأن نكفر. لقد ردد الجمهور معه بصوت واحد " فمن الإيمان بأن نكفر" لقد جاءت القصيدة مثل الصواعق المرسلة، غلب عليها أسلوب الأمر مثل قوله: "لغم أحشاءك"،" فتت أوصالك"،" زلزل أرجاء هزيمتنا"،"وقع بدمائك". وأيد الأمر بأسلوب النهي والزجر وأحيانا التقرير الحازم أو النفي الحاسم وكلها تعابير تدل على الحدة والغضب والثورة والتمرد: لن يرضى عنك الغرب ولو هاجرت بنفطك للمهجر. القصيدة تبكي بمرارة هوان الأمة وذلتها، وتشيد برجال المقاومة الفلسطينية وتمجد أعمالهم الاستشهادية، لأنها وحدها اللغة التي يفهمها العدو، ولذلك يستهل الشاعر"ملحمته"- وأصر على مسمى ملحمة وإن كان لا ينطبق على القصيدة اصطلاحا لأنها لا تزيد على واحد وأربعين بيتا، إلا أنها في اصطلاح المعاني القيمة والجمال الفني البديع؛ ملحمة بحق. أقول يستهل الشاعر ملحمته بتوجيه خطابه لمخاطب غير محدد لعله الفلسطيني، لعله كل عربي مسلم: لغم أحشاءك لا تحذر فتت أوصالك في المعبر واسحق أعداءك في ثقة أنت الأيوبي يا عنتر ولعل هذه المزاوجة بين عنتر العربي- رمز العروبة- وصلاح الدين الكردي – رمز التحرير- لها دلالة عميقة وبعد حضاري ضارب في أعماق التاريخ البطولي للأمة. إن العربي هو المسلم حيثما كان ولا انفكاك بين العروبة والإسلام إلا في خطاب القومية الضيقة. "أنت الأيوبي يا عنتر". بعد هذا الاستهلال الذي يحمل في طياته جلجلة المعركة ودمدمة الحرب في ثلاث أبيات ينتقل الشاعر إلى الحديث عن الأراضي المحتلة " الجولان، و سيناء، سابقا والأقصى" ثم يذكر أسماء بعض الشهداء الذين رووا بدمائهم الأرض المقدسة؛"الدرة"، و"آيات الأخرس"؛ إحدى أوائل الاستشهاديات الفلسطينيات، ثم يعود ثانية ليتحدث عن المدن الصامدة "رام الله"، "نابلس"، "جنين". وفجأءة يتقمص دور الاستشهادي ليتفجر غاضبا مثل..مثل.. لا أجد تشبيها يليق بغضبه سوى أن أقول:مثل "الشهيد": إني يممت بناسفتي صوب الأرمادة والعسكر. ويستمر الشاعر على هذا النسق مخاطبا العرب المتخاذلين ساخطا، حانقا وملتفتا إلى الغرب المتآمر على الأمة العربية المسلمة رافضا لكل هيئاته التي اصطنعها ليتحايل على الشعوب والعبث بمصائر الأمم بدءا بهيئة الأمم ومجلس الأمن ومرورا بالمنظمات العالمية المختلفة وانتهاء بالصليب الأحمر، وحتى الهلال الأحمر ضمه لهذه الزمرة "المسخرة". تبا للهيئة من أمم والمجلس يجلس في المحشر تبا لحقوق طفولتكم وحقوق الكلب المستهتر تب الإنسان ولجنته وهلال صليبهم الأحمر ويعود مخاطبا أرض العروبة والإسلام وكما يقال في المثل الساخر:" إياك أعني واسمعي يا جارة". هل غاية خلقك أن تلدي يا أرض العزة من يصغر. وللقاريء أن يتخيل أي أرض يقصد الشاعر، هل هي أرض الجزائر أم هي أرض فلسطين؟ إنها على الأرجح أرض العرب جميعا، ويعود مرة أخرى مخاطبا الاستشهادي في تحريض قوي مزلزل: سدد أشلاءك ضدهمو واضرب أعداءك في المصدر صوت التفجير يمتعنا وكتائب ربك لن تكسر إنها حالة يعيشها كل عربي مسلم يعاني من هوان الأمة، وذلها واستكبار العدو وعنجهيته كلما سمع خبرا عن تفجير في قلب أرض العدو إلا وشعر بمتعة ونشوة عارمة، إنها نشوة الثأر للكرامة والعرض المستباح وفرحة بإذاقة العدو بعض الذي يجرعنا إياه صباح مساء. " صوت التفجير يمتعنا" إنها أغنية العرب الحزينة التي يترنم بها عند كل نشرة أخبار تحمل أنباء صوت المعركة الدامية. ويحضر بومدين- رحمه الله- في ثنايا الملحمة رمزا مفقودا تتلى أقواله في الملمات: قال الموسطاش أبو شنب خالف أعداءك كي تكبر ويحضرني في توظيف كلمة "الموسطاش" الأجنبية؛ قدرة الشاعر الفائقة في تطويع الكلمات ولاسيما الأجنبية منها والغريبة لخدمة السياق الشعري دون استكراه أو تكلف، وأكثر ما تجلى ذلك في ديوانه "المير". وفي اقتباس بديع لألفاظ وتعابير القرآن الكريم تأتي دفقة من الأبيات المحكمة السبك، الثرية بالمعاني السامية: لن يرضى عنك الغرب ولو هاجرت بنفطك للمهجر لن يرضى عنك الغرب ولو أخصيت فحولك في المخفر لن يرضى عنك الغرب ولو أهديت نساءك للقيصر وتعود بنا هذه الأبيات لدلالة الآية الكريمة:" لن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم". ولا يتخلى الشاعر عن أسلوبه الساخر المتهكم الذي طبع شطرا كبيرا من شعره، فيقول بسخرية تنضح مرارة: لن يرضى عنك الغرب وإن حولت الكسكس همبرغر إنها سخرية لاذعة وتهكم قاس، لا أقسى منه سوى الواقع الفضيع الذي جعلنا نقتفي الغرب شبرا بشبر وذراعا بذراع. وفي التفاتة عجيبة تشبه إلى حد ما التفاتة أحمد شوقي في قصيدته "نكبة دمشق" عندما قال: رواة قصائدي فاعجب لشعر بكل محلة يرويه خلق فإن شاعرنا الفيروزي يقول أيضا في ما يشبه الفخر من طرف خفي وحق له أن يفخر: لغمت الشعر وما شعرت ليلى والحاكم لم يشعر وتتلو هذا البيت الدرة خمسة أبيات مثل صواريخ "القسام" شامخة تبث الرعب في قلوب اليهود: أتحدى الواقف أن يمشي أتحدى الآمر أن يأمر أتحدى الهارب أن يدنو أتحدى الداعي أن يجهر أتحدى الرافل في الكرسي أتحدى النائم في المنبر أتحدى الخامر في الملهى أتحدى الساجد إن كبر وفي ختام القصيدة ينفي الشاعر أن يكون السلم هو الخلاص والحل السليم لقضيتنا المحورية قضية فلسطين، ليوقع توقيعا حربيا مجلجلا: أنت الإرهابي يا بطلا وقع بدمائك في المحضر لقد حاولت تلخيص أهم معاني القصيدة وأفكارها، ووجدت زخما يتجاذبني من كل جهة فألجأ إلى القفز والتجاوز أحيانا مرغما غير مختار. إنها ملحمة أكبر وأبدع من أن تختزل أو تختصر، كمثل الجوهرة المتلألئة لا يمكن اختزالها إلا بتفتيتها أو إتلافها، ولذلك خشيت أن أفعلها برائعة الفيروزي، فليعذرني الشاعر وليعذرني القاريء أيضا، وعزاؤنا هنا جميعا أن الأصل موجود كبصمة الإصبع لا يشبهه شيء ولا يزيل جماله ويمحو رونقه قراءة قاصرة أو فهم متعسف. والفيروزي يذكرنا في هذه القصيدة " الملحمة" بأسلوب نزار قباني ومحمود درويش واحمد مطر. كلمات بسيطة سهلة في تركيب محكم النسج متين الصياغة، لا يمكن أن يوصف إلا بالمقولة النقدية الشائعة " سهل ممتنع" سهولة تأتي من جانب وضوح وجلاء معانيه، وتأتي صعوبته من عدم تيسره لأي شاعر في هذه السلاسة والخفة. ولعل الأسلوب الغنائي الذي يشبه قعقعة الحرب ودمدمة الصواعق هو السبب في هذا النفس "الساخن" الذي طبع القصيدة من مبدئها إلى منتهاها، وهو أسلوب نلحظه في كثير من قصائد الشاعر. ولا يوجد في القصيدة كبير خيال أو صور مجنحة، أو تعابير هائمة لا يمسكها شيء. ولا يضير القصيدة قلة الخيال أو الصور البيانية، ذلك لأن الواقع الذي تصوره أكبر من أي خيال وأكثر فضاعة ودهشة من صورة أي شاعر. وأي صورة متخيلة يمكن لها أن تفوق هذه الصورة الواقعية الواضحة أشد الوضوح: لن يرضى عنك الغرب ولو هاجرت بنفطك للمهجر لن يرضى عنك الغرب ولو أخصيت فحولك في المخفر لغة نزار قباني وأحمد مطر أكثر ما تكون وضوحا وجلاء في هذه الأبيات، وأذكر في هذه المقام قول الشاعر الساخر أحمد مطر: إن صدق الكلمة يطعن السيف بوردة. فكلمات الفيروزي بيضاء ناصعة في صدقها وواقعيتها،وإن كانت مرة كالعلقم في بعض مقاطعها وعباراتها، إلا أنها تبعث روح التحدي والمواجهة في نفس كل عربي مسلم الذي يكاد يركن إلى اليأس والقنوط فتهزه أبياتها هزا عنيفا، فيردد مع الشاعر دمدمته: زلزل أرجاء هزيمتنا أبرق للضفة كي تمطر.
هامش: 1-الفيروزي هو التوقيع الشعري للشاعر الفحل الأزهر عجيري. 2- هذا ملتقى سنوي تقيمه الجمعية الخلدونية وهي أشهر من نار على علم، ويتشرف صاحب الكتاب بأنه واحد من أعضائها. 3- شاعر جزائري مشهور وصاحب رائعة "من أجلك عشنا يا وطني". | |
|