.
وعاد بابان الى اسطنبول ليبسط موضوع سارة هناك، وقام نواب العراق (نائبا الموصل ونواب بغداد والديوانية وكربلاء وكركوك) في
مجلس المبعوثان العثماني بتقديم تقرير عما جرى في هذا الموضوع في 12 كانون
الثاني-يناير و 6 شباط-فبراير 1911. وانتقد طلعت باشا وزير الداخلية ناظم
باشا على سلوكه، ملوحاً بالتحقيق وعزل ناظم باشا.
وسارع أعضاء حزب الحرية والائتلاف الى مؤازرة ناظم باشا والدفاع عنه في صحيفة (صدى بابل) لصاحبها داود صليوه، وصحيفة (الرياض) لصاحبها سليمان الدخيل. واتخذت الصحف البغدادية الأخرى موقف النقد والمعارضة لناظم باشا.
على أن حماقة ناظم باشا دفعته أكثر الى الانحدار في سلوكه بعد أن أحس بنذر الخطر تحدق به، فراح
يحاول الحصول على تقرير طبي يؤيد إصابة سارة بمرض عقلي يتطلب وضعها تحت
الحراسة. وبلغ الأمر مسامع سارة وأدركت ما يعنيه هذا الإجراء إن نجح ناظم
باشا في تحقيقه، فأخذت تعد العدة للخروج من
بغداد والهروب الى أية جهة تكون فيها بمنجاة من تصرفه. لذا سارعت الى الهرب
من بغداد بمساعدة راهبات دير الراهبات الفرنسيات متخفية بزي راهبة وبصحبة
الراهبة هنرييت والراهب الاسباني بيير. واستطاع الثلاثة أن يغادروا محلة (رأس القرية) ، حيث يقع الدير، الى منطقة (المصبغة) المجاورة للمدرسة المستنصرية، واستقلوا باخرة من بواخر شركة لنج المعروفة التي كانت ترسو عند شاطئ المنطقة، للذهاب الى البصرة.
كانت سارة ما أن تتخلص من مأزق حتى يعترضها مأزق آخر، لأن الباشا كان مصراً على أن يظفر بها. ولهذا ما أن تفشل خطة حتى يبادر الى أخرى، وكانت
سارة تفلت من أي حصار يضربه عليها الباشا مهما بلغت دقته. وكانت العيون
التي بثها الوالي في كل مكان قد نجحت في رصد تحركات سارة بشكل دقيق. فقد
عرف ناظم باشا أن سارة انتقلت الى باخرة شركة لنج، ولهذا أرسل عدداً من (الجندرمة) لإلقاء القبض عليها.
وحاول جلاوزة الوالي اقتحام الباخرة، إلا أن قائدها منعهم من ذلك، باعتبارها
تحمل العلم البريطاني وتابعة لقنصلية أجنبية. وكانت بواخر هذه القنصليات
تتمتع بحصانة دبلوماسية كالقنصليات التابعة لها. وهكذا، فشل الوالي مرة أخرى في القبض على سارة. وانطلقت الباخرة الى البصرة، وصدرت الأوامر الى قائدها بأن يقودها بأقصى سرعتها ودون توقف في أية مدينة تمر بها.
وأستمر
الوالي الطاغية بمحاولاته للقبض عليها وفكر في وسيلة أخرى. فقد حاول
إعادتها من البصرة مدعياً أن راهبات دير الراهبات الفرنسيات أجبرن سارة على
التخلي عن مذهبها الأرثوذكسي واعتناق المذهب الكاثوليكي الذي كانت عليه
هؤلاء الراهبات.
<img height="350" width="265">
وتعاونت
القنصلية البريطانية في البصرة مع القنصل الروسي هناك لتهريب سارة على
إحدى البواخر الراسية في شط العرب والتي كانت تستعد للتوجه الى مدينة
بومبي. ورست الباخرة في ميناء بوشهر الإيراني في الخليج العربي، وبقيت هناك مدة من الزمن تحت رعاية السير برسي كوكس المقيم البريطاني في بوشهر، والذي ساعدها في إرسال برقيات الاحتجاج الى اسطنبول، والمحافظة على أملاكها ببغداد من استيلاء ناظم باشا عليها. وقام السير برسي كوكس بإصدار تقرير طبي يؤيد كونها سالمة من أي مرض عقلي، وذلك رداً على طلب القنصلية العثمانية بذلك، تركت بعدها سارة بوشهر الى بومباي حيث استقرت لبعض الوقت.
في 17 آذار-مارس 1911 ورد الأمر من اسطنبول بعزل ناظم باشا من ولاية بغداد. وبعد ثلاثة أيام توجه ناظم باشا بالباخرة الى البصرة، ومن هناك ذهب الى اسطنبول عن طريق بومبي. ولم ينس أثناء مروره بمدينة بومبي أن يبحث عن سارة. وشعرت إدارة الهند البريطانية بالأمر، فأوعزت
الى سارة خاتون أن تتوارى عن الأنظار لفترة ريثما ييأس الباشا المتصابي
فيغادر بومبي. وعندما عادت سارة الى شقتها بعد تأكدها من سفره، سلمتها صاحبة البيت رسالة تركها لها ناظم باشا يعبر فيها عن (حبه) ، وأرفق معها صورة له! !
وعلى إثر عزل ناظم باشا، نظم الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي قصيدة بعنوان (طاغية بغداد) ، وفي ما يأتي أبيات منها:
رام هتـكاً لمـا تصـون فتـاة كسبت في أمر العفاف اشتهاراً
بنت قوم لم يدنس العرض منهم بقبيح هم من سـراة النصارى
أيهـا المصـلح الـكبير أهـذا ما يسـميه بعضـهم اعمـارا
يا مهين العراق هل كنت تدري أن أهل العراق ليسـوا غيارى
سر بعيـداً الى سـلانيك عنـا أن فيهــا كواعبـاً أبكــاراً
وتولى ناظم باشا وزارة الحربية عندما تسلم الائتلافيون الحكم في 22 تموز-يوليو 1912، ثم
قتل بعد أشهر محدودة من قبل متظاهرين اقتحموا الباب العالي أثناء انعقاد
مجلس الوزراء في خضم هزائم الجيش العثماني إبان حروب البلقان الأولى.
وغادرت سارة بومبي الى باريس حيث تزوجت عام 1913 من تانييل اوهانيس تاتيوسيان (1875-1922) ، وهو عراقي أرمني. وبعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى (1914-1918) أوزارها، عادت الى بغداد مع زوجها، وأخذت ترعى ثروتها بنفسها. وقد سمت ولدها برسي (ولد ببغداد في عام 1922 وتوفي فيها عام 1987) تيمناً بالجميل الذي أبداه لها السير برسي كوكس، وسمت ابنتها صوفي (ولدت ببغداد في عام 1917 وتوفيت فيها عام 2002) على اسم أمها وعمتها. كما ولدت لها ابنة أخرى أسمتها ادما (ولدت ببغداد في عام 1919 وتزوجت في انكلترا وتوفيت فيها -2006) .
ويروي الذين عاصروها الكثير من الحكايات عن كرمها الذي تجاوز حد المعقول الى التبذير والإسراف، فجاء هذا الإسراف على آخر فلس من ثروتها، فضلاً عن عملية الإحتيال التي تعرضت لها. وقد أحيطت بالخادمات والطباخات وبسائقها، وكانت الدعوات التي تنظمها في بيتها فريدة من نوعها في بغداد.
وتميزت
سارة خاتون أيضا بمواقفها المشرفة من بني جلدتها من الأرمن الذين عانوا من
مجازر الإبادة الأرمنية على يد الحكام العثمانيين عام 1915. ففي هذا
العام، تم تهجير قافلة نضم نخبة من المثقفين والبارزين من الأرمن في بغداد، بضمنهم
الأستاذ والمربي الفاضل ومدير المدرسة الأرمنية ببغداد مهران سفاجيان الذي
هجِّر الى رأس العين حيث توفي. كما استشهد هاكوب نرسيسيان، وهو لغوي من القدس وكان مترجماً في القنصلية البريطانية في بغداد، وكارنيك
كيومجيان وآخرين. وأعقبت هذه القافلة قافلة ثانية من المهجرين. ولدى علم
سارة بأنه يتم الإعداد لتهجير قافلة ثالثة من الأرمن، لجأت الى بعض الأعيان العرب وسألتهم الوساطة لدى الوالي للعدول عن قرار التهجير. وبجهود سارة، تم إنقاذ أفراد هذه القافلة وتوقفت عملية تهجير الأرمن.
وفي عام 1917، أسست
سارة خاتون مع عدد من النساء الأرمنيات في بغداد الهيئة النسوية الأرمنية
لإغاثة المهجرين الأرمن بفعل مجازر الإبادة الأرمنية في الدولة العثمانية
عام 1915، والتي راح ضحيتها مليون ونصف المليون من الأرمن وترك عشرات الألوف من المهجرين والمشردين. وفي الوقت ذاته، قامت سارة خاتون وزوجها تانييل (قبل أن يتوفى في باريس في عام 1922) بتوزيع الطعام والملبس على 20 ألفاً من المهجرين الأرمن في العراق.
وبزيادة عدد المهجرين الأرمن، أصبح حي (كمب الكيلاني) لا يستوعبهم، مما استدعى تدخل سارة مرة أخرى لإبداء المساعدة، إذ قامت في العام 1937 بتوزيع أراضيها لقاء مبالغ مالية زهيدة. ولكي تمنع أي استغلال، وتضمن حصول أكبر فئة من الناس على هذه الأراضي، لم تبع أية قطعة أرض تزيد مساحتها على 150 متراً. وسمي هذا الحي الأرمني حي (سارة الزنگينة) أو (كمب سارة) .
ومنذ عام 1938، كانت سارة خاتون توفر الملابس والقرطاسية لجميع الطلبة المتعففين في مدرسة الأرمن. وعلى الرغم من ظهور البوادر لأزمتها المالية، فأنها استمرت بعملها الخيري هذا مدة عشر سنوات بلا انقطاع.
وبعد تأزم أوضاعها المادية أتتها الضربة الكبرى، إذ فقدت في يوم واحد، وإثر عملية احتيال تعرضت لها، كل
ما تملك حتى منزلها. وقام أناس بمساعدتها بشكل ظاهر أو مستتر. وقد استمرت
خادمتها المخلصة وسائقها الشخصي بخدمتها بلا مقابل حتى وفاتها في 5 كانون
الأول-ديسمبر 1960.
ووصف ليباريد آزاديان مؤلف كتاب (ذكريات دجلة) واقعة جمعته بسارة خاتون في بغداد بعد أن فقدت ثروتها، فقال: "في يوم صيفي لاهب وفي الساعة الثانية بعد الظهر، وعندما كنت أقود سيارتي لمحت سارة خاتون وهي تنتظر في محطة لحافلات الباص، من دون أن تضع قبعة يحمي رأسها من أشعة الشمس. وكان منظراً لا يصدق. وفكرت في أنها يمكن أن تصاب بضربة شمس، وقد تجاوزتها، بيد أن ضميري أخذ يؤنبني. كيف كان في إمكاني تجاهل سارة خاتون وتركها في هذا الوضع، وأنا الذي كنت أردد أسمها المشرف دائماً في طفولتي، وقررت العودة لمحطة الناص وقلت لها: سيدة سارة، تفضلوا، سأنقلكم بسيارتي الى حيث ترغبون. فكان جوابها: شكراً ولدي، ستضايق نفسك. فقلت لها: لا توجد أية مضايقة، وأرجو كثيراً أن لا ترفضوا عرضي هذا. ونزلت من السيارة وقدتها إليها، وكان العرق يتصبب منها بغزارة! ! وفي الطريق قلت لها: سيدة سارة، إنكم لا تعرفونني. أنا وأمثالي جئنا مهاجرين الى بغداد وحظينا بدعمكم المعنوي والمادي، وأنني أشعر دائماً بالعرفان بالجميل تجاه شخصكم، وأنكم بإعمالكم الخيرية صرتم فخراً لأرمن بغداد. ولم يصدر منها أي تعليق على كلامي هذا. وعندما وصلنا، فتحت لها باب السيارة. وبعد أن نزلت من السيارة، رفعت رأسها وقالت لي: شكراً، أيها السيد".
لقد كانت حياة سارة خاتون مليئة بالمآسي التي واجهتها بكل صلابة وشجاعة، فقد توفي أخ لها في عمر خمسة شهور قبل ولادتها. كما توفيت، وهي في سن صغيرة، أمها وأختها الصغيرة وأبوها، وتلاعب عمها بثروتها، وتعرضت للصعوبات الكثيرة إثر ملاحقة الوالي ناظم باشا لها بسبب حبه لها الذي رفضته. كما توفي زوجها ولم يمض عشر سنوات على زواجهما، وأخيراً فقدت ثروتها الطائلة. ورحلت سارة عن هذا العالم والحزن يعتصر قلبها، وهي لم تفهم لماذا يكون القدر قاسياً معها الى هذا الحد، وهي التي سعت دائماً الى فعل الخير للآخرين.
وتحتل سارة خاتون المرتبة الأولى في قائمة المحسنين في تاريخ الأرمن في بغداد، لأنها أنقذت الأرمن من القتل العثماني وساعدت المهجرين، وأدخلت البهجة والسرور في نفس الأطفال المتعففين. وكانت سارة محبوبة ومحترمة جداً من قبل الجميع، وكان الأعيان العرب ينظرون إليها على أنها أميرة ويجلونها كثيراً. كما حظيت بالاحترام الخاص من قبل البلاط العراقي.