بعد قضية بوضياف وقضية الرهائن ، ها نحن في القضية التي تهمنا الآن، نسحب من خلالها الرأي العام إلى
قلب النظام وشبكاته المتنفذة التي أقدمت منذ الإستقلال على وضع البلاد تحت رحمتها تستقطع منه وتسلب
خيراته. فلابد من نهاية لهذا الموضوع. وقد تمّ خلال عشرين سنة وضع أجهزة تحكّم مجربة وإقامة هياكل تحتية
تمّ اختبارها بدقّة.
وفي الوقت الحالي، تتقاسم هذه الشبكات المتنفّذة الريع النفطي وثروات البلاد في حين أن 09% من السكان
يعيشون تحت مستوى الحد الأدنى من الفقر. وتشكل الاغتيالات السياسية والثروة الظاهرة لأصحاب السلطة
وقضايا الفساد التي تمّ طمسها بأمر من أعلى ولم يتمّ استجلاؤها، دليلا على أن هناك في بلدنا جزائر أخرى
موازية بهياكلها وجهازها اللوجيستي وإمكانياتها المالية الضخمة وقواتها الضارية الخاصة، تشكل جيشا للجريمة
قابلا للتحول في أي لحظة إلى جيش لخوض حرب أهلية إذا تعرض “النظام الاجتماعي” (المفروض) إلى
الخطر. وإن تعيين بوتفليقة على رأس الدولة لن يغير شيئ.ا وإن قاتلي الرئيس بوضياف وقاصدي مرباح
ومعطوب بل قاتلي الشعب الجزائري قد قلّدوا أخيرا وسام الدرجة الأولى وسمّوا “منقذي الديمقراطية” وأعطوا
الترخيص للاستمرار في القتل. وبعد أيام قليلة من ذلك تمّ القضاء بالرصاص على رجل حوار وتصالح في
عيادة طبيب أسنان في حيّ باب الواد.. إن عبد القادر حشاني تجرّأ بقول “لا” مرة أخرى أكثر مما ينبغي
للجنرال “توفيق”. وإن هذه الجريمة الشنيعة التي تشبه الكثير من الجرائم الأخرى هي رسالة دموية موجّهة إلى
كل الرجال الأحرار الذين جعلوا من تحقيق السلم العادل هدفا لحياتهم وجعلوا من مقاومة الجنرالات واجبا
وطنيا.
فرقة الموة
قبل الخوض في الحديث عن قضيتنا بحد ذاتها فلابد قبل كل شيئ أن نلقي بعض الضّوء على آلة للقتل من أبشع
وأشدّ ما عرفت الجزائر خلال تاريخها جميعا وهي فرقة الموت. وظهرت هذه التسمية “فرقة الموت” منذ أن
بدأت الجرائم السياسية في أوائل العام 1992 وقد زرعت هذه الجرائم بحكم طبيعتها وأهدافها الشك حولها في
عقول الناس. ولم يكن أحد آنذاك يتصور للحظة واحدة (سواء في الجزائر أو خارجها) أن الحكومة الجزائرية
ستلجأ إلى التصفية الجسدية، هذا الأسلوب الجبان واللامسؤول لحل خلافاتها مع معارضيها من كل درب
وصوب. ولاشك أن هذه الوحدة الخاصة هي الأكثر سرية من بين وحدات الجيش الجزائري. وهي رسميا لا
توجد وإداريا مغطاة بالسر الأمني. وتتلقى كل أوامرها شفويا وبنفس الأسلوب تقدم تقاريرها. حيث أنه ممنوع
مطلقا أن يكتب أي شيئ يتصل من قريب أو بعيد بهذه الوحدة وعناصرها. أسّست هذه الوحدة بطلب من
الجنرال العربي بلخير ومن قبل الجنرالين محمد لمين مدين (توفيق) واسماعيل العماري ووضعت تحت
سيطرتهما. وهي تضم عناصر تمّ اختيارهم بدقّة جداّ عن طريق الاصطفاء الذاتي من طرف مختلف الهيئات
الأمنية في البلاد. وفي حال تنفيذ مهام خاصة جدا، قد يضيف اسماعيل العماري أيضا مرتزقة محترفين إلى هذه
الوحدة 192. والهدف من ذلك هو تجويد الإنجازات العملياتية لهذه الفرقة على أرض الواقع. ويتم استقدام
المرتزقة من طرف اسماعيل العماري شخصيا ومهمتهم هي تعليم الفرقة 192 كيف تقتل سريعا وجيدا، مع
ضمان التدريب العملي على الأرض. وكانت من أولى مهمات هذه الوحدة تصفية عدد غفير من ضباط الجيش
المناوئين لإيقاف المسار الانتخابي. وقد استاء العربي بلخير جدا من عملية فرار ثمانية جنود من القوات الخاصة
ببني مسوس، وأراد أن يتجنب بأي ثمن كان تكرار مثل ذلك . فبات من الأفضل القضاء عليهم بدلا من رؤيتهم
ينضمون إلى الطرف الآخر. والقضية موضع الصراع ليست قضية وحدة الجيش الوطني الشعبي أو مصير
الجزائر وإنما سلطة العرابين الذين يرفضون ترك سدة الحكم المهددة. كثير هم الذين تساءلـوا لماذا قبل العربي
بلخير منصب وزير الداخلية في حين أنه كان رئيسا للديوان الرئاسي؟ إنه في الحقيقة أراد أن يشرف شخصيا
على وضع قطار القمع على السكة إلى جانب إعادة تنظيم الساحة السياسية لإرغام المجتمع الجزائري كله
للإنقياد، ولا يترك مجالا للإخلال بخططه. وكان هدفه ولا يزال واضحا وهو بيع الجزائر قطعة قطعة. وإذا عدنا
إلى الوراء نستطيع أن نقول أن الوحدة 192 هي من (أجمل) منجزاته! وكان بلخير ينظر بعيدا. واستطاع
بالخصوص خلال كل هذه السنوات الأخيرة أن يبقى خلف الستار بعيدا عن الأنظار مثله كمثل محرك دمى
عرائس الكراكوز . وتشكل هذه الوحدة الذراع القوية للنظام الخارجة عن إطار القانون والوسيلة القصوى
لمعالجة المتمردين. ويحسب لها القضاء على المئات وإعدامهم (غالبا من بين المفقودين المختطفين)، وبشكل
خاص تنظيم مجازر المساجين في سجني سركاجي والبرواقية. ويتلقى عناصر هذه الوحدة “النخبة” امتيازات
كثيرة منها رواتب ضخمة جدا، وترقيات خاصة ، ومساكن، وسيارات، وأسلحة من آخر طراز، ومخدرات...
ويتمتعون أيضا بكامل الحرية في الاستحواذ على ما يريدون خلال عملية الاعتقال في منازل المواطنين الخاصة،
من مال وجواهر وسيارات وحتى النساء. وعلاوة على ذلك، فإن سلطتهم تفوق بكثير سلطة عدد كبير من
الضباط الكبار من ذوي المسؤولية في الجيش الوطني الشعبي. وعلى سبيل المثال فإن ملازما أول بسيطا
(عام1990) يدعى حسين أصبح اليوم رائدا. ونذكر من بين عناصر الوحدة 192 الذين أمكن التعرف عليهم
تحت إمرة العقيد بشير ترتاق المعروف بالعقيد عثمان، وهم الرائد عبد القادر والرائد م. ناصر (المدعو:
الماحي) والرائد رياض والنقيب ب .الوناس والنقيب محمد ...وكأنهم يريدون كسب سمعة خاصة في ميدان
الإرهاب فإن بعض العناصر يتخذون أو تطلق عليهم من رؤسائهم أسماء تعبر بدقة عن الأعمال التي يقومون
بها، مثل “الجن” و”كلاشينكوف”و “رامبو” أو مثلا “المنظف”. وتسمح لهم هذه الأسماء بإخفاء هوياتهم خلال
العمليات الخاصة. وإنه بفضل هذه الوحدة قد تغير مجرى الصراع. واستطاعت آلة الرعب مسلحة بـ “عقيدة
الإستئصال” أن تطغى على كل الدعوات السائدة في الساحة الجزائرية بإدخال “تكتيك” (أسلوب عمل جديد)،
وهو أسلوب المزايدة في استخدام العنف منذ بداية 1994، ولم ينتج عنه سوى الموت. ومارست هذه الوحدة
أسلوب الخديعة، وتمثلت إحدى خدعها في اختراق الجماعة الإسلامية المسلحة “الجيا” في منطقة عين الدفلى
والمدية، ثم إذكاء الحرب بين الجماعات المسلحة والقضاء على القيادة السرية للجبهة الإسلامية للإنقاذ باغتيال
محمد السعيد وعبد الرزاق رجام عام 1995.
“الرجل الأكثر اطلاعا في الجزائر“ هكذا كان يسمى وكان كذلك فعلا. بعد القضاء على بوضياف كان قاصدي مرباح متأكدا أنه على قائمة
الأشخاص المزمع قتلهم. وكيف لا؟ والعربي بلخير نفسه كلف اسماعيل العماري بعد اغتيال الرئيس بأن يتحدث
إلى “سي مرباح” لإقناعه بالابتعاد عن السياسة مقابل منصب في الخارج يناله حسب اختياره. ويعتبر ذلك بمثابة
تقاعد مريح كما وصفه اسماعيل العماري في محاولته إقناع رئيسه السابق قاصدي مرباح. وقد فوجئ هذا
الأخير باغتيال صديقه “سي محمد” وبهذه الخسارة انهار مشروع مجتمع كما ينهار قصر من ورق. وشعر
بمرارة شديدة بعد تصفية العناصر الذين قام شخصيا بتوصيتهم للرئيس بوضياف لمساعدته في حملته لتطهير
الساحة السياسية. كما شعر بإحباط كبير عندما تعرض المحامي أ. حبيب (عضو ناشط في حزب “مجد” والذي
كلفه هو نفسه الدفاع عن 82 ضابط صف كان قد وضَعهم القاضي أ. سايح تحت التحقيق في قضية اغتيال
بوضياف، تعرض للضرب والتهديد بالموت إذا لم ينسحب من القضية. وكانت الرسالة الموجهة إليه واضحة
تماما، ذلك أن العربي بلخير لم يكن يريد أن يوجد سيد آخر يحكم الجزائر إلى جانبه. فلا شيئ ولا أحد يمكنه
أن يخل بالخطة التي وضعها مع توفيق واسماعيل. ويعود الصراع بين قاصدي مرباح والعربي بلخير إلى عهد
بعيد. ولما كان هذا الأخير مديرا للمدرسة الوطنية للمهندسين والتقنيين الجزائريين تم الإعلام عنه لدى الإدارة
المركزية للأمن العسكري من طرف رئيس مكتب الأمن في المدرسة واتهمه بابتزاز الأموال العامة، حيث أن
بلخير اقتطع مبالغ ضخمة من ميزانية المدرسة لبناء فيلات راقية جدا في منطقة عين طاية. وقام فريق من
ضباط المصالح المالية أرسلهم قاصدي مرباح بتحديد الوقائع وإثبات الجرم. وتم تحويل ملف بلخير إلى العدالة
العسكرية مع ملاحظة شخصية من قاصدي مرباح: يجب حذفه من قائمة أفراد الجيش الوطني الشعبي. ولكن
ومرة أخرى فإن التعاضد بين قدامى الجيش الفرنسي أنقذ العربي بلخير، وأصدر الشاذلي بن جديد أمرا بإيقاف
الإجراءات ضده وعينه في الرئاسة. وأصبح الرجلان مرباح وبلخير يلتقيان بانتظام في مقر رئاسة الجمهورية.
وكان مرباح يعرف هذا الشخص جيدا بأنه لا يستحق الاحترام ويعتبره خطأ من أخطاء النظام. بينما العربي
بلخير كان يكثر من الانحناءات ويحاول أن لا يظهر كثيرا متجنبا مرباح. وفي آن واحد كان يبذل كل ما في
وسعه لإخراج هذا الأخير من دائرة السلطة. وقام بهذا العمل مرحلة بعد مرحلة أولا بإخراجه من اللجنة
المركزية لجبهة التحرير الوطني ثم من وزارة الدفاع وبعدها من الحكومة نفسها. وعلى إثر أحداث 5 أكتوبر 1988
التي شعر الشاذلي بأنها تجاوزته وأنه لم يعد يعرف ما هو المخرج منها، ونظرا لسمعة النزاهة التي كان
قاصدي مرباح يتمتع بها لدى الجزائريين، قام العربي بلخير بإقناع الشاذلي بن جديد بتعيين قاصدي مرباح على
رأس الحكومة لمواجهة الظرف في 5 نوفمبر 1988 حيث كان الأمر العاجل هو تهدئة خواطر الناس.