مفكرة الإسلام :
يعد نجيب الكيلاني [1931 – 1995 م] من أبرز الأدباء المسلمين الذين جعلوا القيم الإسلامية محور أعمالهم الأدبية ،وكان من أوائل الداعين إلى أدب إسلامي بعد سيد قطب وشقيقه محمد قطب حيث قدم عام 1963 كتابه 'الإسلامية والمذاهب الأدبية ' متجها بدراسته وجهة أدبية جمعت بين النظرية والتطبيق .
أصدر نجيب الكيلاني أول سلسلة من نوعها في الأدب العربي المعاصر، تناول فيها قضايا ومشكلات العالم الإسلامي وهي :'ليالي تركستان ' و 'عمالقة الشمال ' و'عذراء جاكرتا' و 'الظل الأسود' و 'دم لفطير صهيون ' والتي تم إعادة نشرها من قبل دار المختار الإسلامي بالقاهرة تحت عنوان 'حارة اليهود ' .
تناول عدد كبير من النقاد والدارسين في العالم العربي والإسلامي كتاباته بالنقد والدراسة حيث قدمت عنه دراسات أكاديمية في جامعات مصر والأردن والسعودية والمغرب.
شارك في عدد كبير من المؤتمرات الأدبية والعلمية كما ترك ثروة ضخمة من الأعمال الأدبية والفكرية التي جاوزت التسعين عملا.
توفي الدكتور نجيب الكيلاني بعد مرض عضال يوم 6 /3 /1995 م الموافق 5 /10 / 1415 هـ.
تشويه صورة عالم الدين في الأعمال الأدبية :
يعد عنصر رسم الشخصية الإنسانية من أبرز العناصر التي يعتمد عليها العمل الروائي فكلما أحاط الكاتب وتعمق في رسم هذه الشخصية جاءت منسجمة مع السياق العام في الرواية وبلغت في نفس متلقيها الغاية من حيث تجاوبه معها وتأثره بسلوكها وتفسيره لحركتها في الواقع .
وقد رسم الروائيون العرب – منذ نشأة هذا الفن وظهور زينب لمحمد حسين هيكل التي يعدها الكثير أول رواية عربية – مئات الشخصيات الإنسانية من مختلف الطبقات الاجتماعية وقد حالفهم التوفيق في الأعم الأغلب منها مما جعل هذا الفن الروائي الجديد –القديم في أدبنا العربي ينمو ويطرد ويصبح واحدا من أبرز الفنون الأدبية في أدبنا الحديث حتى شاع مؤخرا 'الرواية ديوان العرب '.
في حين نجح الروائيون العرب في رسم الشخصيات المختلفة إلا أنهم أخفقوا في رسم شخصية عالم الدين أورجل الدين كما يطلقون كما يطلقون عليه متأثرين بالثقافة الغربية فأظهروه في أبشع صورة للدجل والكذب والأنانية والرياء وحتى العمالة للأجانب .
وقد برع طه حسين في كتابه في كتابه الأيام بإظهار 'سيدنا ' معلم القرآن في القرية في أبشع صورة فهو لايتورع عن الكذب والحلف بالطلاق ثلاثا على أن الولد قد حفظ سورة 'يس' بينما لم يكن الصبي قد استكمل السورة وحين يجوع الناس يشبع الشيخ وحين يفتقرون يغنى وحين يحزنون يفرح .
واستمرت هذه الصورة البشعة ومازالت تظهر في روايات معظم الروائيين العرب ولسنا بصدد إظهار هذه الصورة السلبية التي شوهت هذه الشخصية وأساءت إلى الإسلام .
عالم الدين في روايات نجيب الكيلاني:
وسط هذا الركام من الروايات التي شوهت صورة شخصية عالم الدين نجد روايات نجيب الكيلاني وقد أظهرت الوجه الإيجابي لعلماء الدين المدافعين عن كرامة الأمة وحريتها واستقلالها .
ففي رواية 'ليالي تركستان' وأحداث هذه الرواية تقع على أرض تركستان الإسلامية التي اغتصبها الشيوعيون نجد الشيخ 'خوجة نياز حاجي' وهو من رجال الفكر والدين والوطنية ومعروف بشجاعته وصدق بلائه يذهب إليه الحائرون في 'قومول' للاستفسار وطلب الطمأنينة واليقين ،كان دائما يحث أهله أهل تركستان على الجهاد والتصدي للمستعمر فيقول مشجعا ومحمسا لهم :
'أدوات النصر أنتم تعرفونها..الصبر والصمود..الجهاد حتى الموت .لا جديد بعد كلمات محمد.انظروا لا يفل الحديد إلا الحديد . كل ماأعلمه أن أقواما بلا شرف وبلا دين هم موتى وإن كانوا يأكلون ويشربون ويتنفسون .لا تستنكروا تصرفات العدو وحده ولكن ابكوا على تهاونكم واستنكروا استسلامكم . أتفهمون ؟.
ويقول لبطل الرواية 'مصطفى مراد حضرت ':
يامصطفى :اذهب إلى أميرك في السجن وقل له يجب أن يبحث عن مخرج '.
و خوجه نيازي لايكتف بالخطب الرنانة والفتاوى بل يتقدم صفوف المجاهدين حاملا روحه على كفه فعندما أحس بنبرة الاستسلام في أحد اجتماعاتهم عندما قال أحدهم :'إن ثمانية ملايين من أبناء تركستان لايمكن أن يصمدوا أمام شعب الصين الذي يربو تعداده على أربعمائة مليون ولذا كان من الممكن أن نرسل وفدا إلى الحاكم الصيني الأعلى ونجري معه مفاوضات سلام لعلهم يخففون الوطأة ويلغون القوانين الجائرة التي تتعارض مع ديننا وكرامتنا وما لا نستطيع أن نأخذه بالحرب كان من الجائز أن نحصل عليه بالسياسة .ولقي هذا الكلام ترحيبا لدى بعض السياسيين القدامى الذين حضروا الاجتماع '.
ففزع خوجه نياز وأشار بيده وقال في غضب :
'أيها الرجال إذا أرسلتم وفدا فلن يعود إليكم سوى أخبار ذبحه كما تذبح الشياة ...وإذا كنتم تقيسون الجيوش بعددها فوالله لو إن الإسلام ما كان لينتشر ، وترفع راية الله في الأرض لو أن المسلمين الأوائل فكروا كما تفكرون ،وكأني بكم لم تقرءوا قول العلي الأعلى' كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ' وإني أعاهد الله على أني لن أضع سلاحي حتى ألقاه أو أنتقم لديني وبلادي فمن كان أبواه مسلمين فليتبعني. وخرج خوجه نياز حاجي من قصر الأمير قاصدا المخازن التي وضعت فيها أسلحة القتلى الصينيين وسار الجميع وراءه '.
وعالم الدين في 'ليالي تركستان ' ليس ساذجا بل يعي قضيته ويؤكد على أن الكل يتآمر على الإسلام فالإسلام ليس تثبيطا ولا إحباطا بل يبعث الأمل في نفوس أتباعه .
'الحرب أيها الرجال سجال. يوم لك ويوم عليك. وقد عاهدنا الله ألا نستسلم حتى ننتصر أو نستشهد... ها أنتم هؤلاء ترون الروس الذين أتوا بالأمس لنجدتنا يمدون يد العون الآن لعدونا. ألا تعتقدون أنهم اليوم سبب نكبتنا ؟
ويقول باعثا الأمل ومفسرا أسباب الصراع:لا تحزنوا أيها الرجال.من قديم والكنيسة تسعى للقضاء عليكم .كانت تحرض روسيا على غزو ديارنا الإسلامية لأن الكنيسة لم تكن تنسى أن محاربينا الأشداء ساعدوا تركيا وعاونوا العالم الإسلامي في الحروب الصليبية ، وبلادنا أيها الأبطال لها ماض وتاريخ وحضارة عظيمة وفي أرضنا تكمن الثروات الضخمة .إن هناك ألف سبب وسبب تجعلهم يطمعون في أرضنا وأهمها هو أننا مسلمون .فالروس في ثورتهم الشيوعية لم يعانوا من أحد كما عانوا من المسلمين.
وبعين بصيرته يرى خوجه نياز انهيار الماركسية فيقول :
إرادة الله أقوى من أية فلسفة أرضية . إن ما تحسبونه انتصارا أبديا لفلسفة من الفلسفات الملحدة إنما هو بريق مؤقت سرعان ماينطفئى.
وننتقل من 'ليالي تركستان ' إلى 'عمالقة الشمال ' التي تجري أحداثها في نيجيريا حيث نجد الشيخ عبد الله في الرواية يفهم الإسلام على ِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِحقيقته فهو دين ودنيا ،عقيدة وشريعة فينغمس في الحياة بكل تفاصيلها ويتفهم أبعاد الصراع بين قوى الحق والباطل في إطارها الإنساني العام في بلده نيجيريا خاصة إذ يرجع تأجيج هذا الصراع إلى الدوافع التي تحدو بالأوربيين إلى غزو العالم الإسلامي وبث الفتن وإراقة الدماء على أرضه .
الشيخ عبد الله في هذه الرواية 'عمالقة الشمال ' يزرع في مريديه روح القوة والصلابة والشجاعة والإخلاص ويدعوهم إلى التوكل على الله وحده دون خوف أو وجل :
حي قيوم.علام الغيوب.إذا نزلت ياعثمان في أحراش اليوربا وظلمات الأيبو فابعث بكلمات الله في كل مكان وادع البشر هناك إلى عبادة الواحد .وقل لهم كونوا إخوة وحطموا الأصنام الجديدة ..أطلق كلماتك في الصحراء .في الغابات .في المناجم . في المصانع ولا تخش إلا الله. وليس من المكتوب هروب ولو اجتمع أهل السماء والأرض على أن يضروك بشئ لن يضروك إلا بشئ قد كتبه الله عليك .
وفي السجن نجد الشيخ عبد الله يبث الأمل في النفوس، ويخبرهم بأن النصر قادم بإذن الله:
انظروا إلى السماء .نحن في آخر الشهر العربي . والظلام دامس والنجوم تقاوم الظلمة . لكن لا تنسوا القمر.سوف يسطع عما قريب . واذكروا أن بعد الليل نهارا . هكذا الدنيا. ولكنكم قوما تستعجلون. عندما يعجز البشر تأتي سفينة نوح أو تنقض صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود يا أبنائي. ارفعوا راياتكم الخضراء واكتبوا عليها وكان حقا علينا نصر المؤمنين والله سبحانه لايخلف وعده ما دمنا مؤمنين .
أما في رواية 'عذراء جاكرتا ' التي تدور أحداثها على أرض اندونيسيا نجد حاجي محمد إدريس يبث القوة الإيمانية في نفس ابنته عندما تشكو إليه قائلة :
'أنا ضعيفة ' فيقول لها :' أنت قوية بالله '
فتقول : 'والمبادئ الفاضلة تضمحل وتموت '
فيرد عليها :'لن تموت أبدا يافاطمة لأنها من صنع الله '
الغوغائيون ياأبتي أصبحوا يسيطرون على قطاع كبير من عقول غالبية المجتمع .
قال في تحد :هذا وهم ياابنتي .إنها مظاهر كاذبة تذوب وتفنى عندما تسطع عليها شمس الحقيقة اسألي أباك أنا أعرف .
الكذب والنفاق لا يقيمان دولة ولا يحميان سلطة يجب أن تؤمني بذلك .
لقد رصدت روايات نجيب الكيلاني وخاصة ليالي تركستان وعمالقة الشمال و عذراء جاكرتا الأبعاد الإيجابية في شخصية عالم الدين فهي تكاد تكون من الروايات النادرة التي أعطت هذا البعد الإيجابي لشخصية عالم الدين .
ونحن من جانبنا نعترف أنه إذا كان في سلوك بعض علماء الدين ما ساعد على ظهور صورة عالم الدين في الكتابات الروائية بهذه الصورة البشعة إلا أننا نقول إن واقع الصحوة الإسلامية المعاصرة والعودة إلى النبع الصافي القرآن والسنة بعد غفوة طويلة كادت تودي بنا إلى النسيان ..هذا الواقع أعطى أروع النماذج لشخصية عالم الدين.
أليست هذه الشخصية – شخصية عالم الدين – هي التي قادت ومازالت ثورات التحرير والصراع ضد المستعمر والظلم والاستبداد في كل الأصقاع الإسلامية وأطلقت للفكر الإسلامي العنان وأزالت الشبهات ووقفت أمام سيل التغريب والمسخ الفكري الجارف ؟
هذه الشخصية أمثال الشيخ شامل القفقاسي الذي قاوم الاحتلال الروسي للأراضي الروسية ومازال أحفاده على الدرب سائرين. و محمد بن عبد الوهاب و الأمير عبد القادر الجزائري و ابن باديس و المهدي و السنوسي وعمر المختار و عثمان بن فوديو و عز الدين القسام و سيد قطب و مالك بن نبي و النورسي وغيرهم وغيرهم ؟!.
الكاتب
محمد بركه