إن رفض العولمة بجملتها لن يكون فقط ضد الاقتصاد العولمي لكنه أيضا سوف يقطع حركة الأفكار والفهم والمعرفة التي يمكن أن تساعد كل شعوب العالم بما فيهم المحرومين من ضحايا العولمة نفسها. البعض تصور الحل في الانتصار للمحلية ضد الكوكبية والدفاع عن الهوية في مواجهة العولمة ولكن ذلك لا يعني سوى تبني النظرة القاصرة:" أدى التشخيص الخاطئ الذي يقول أن عولمة الأفكار والممارسات لابد من مقاومتها لأنها تجلب "التغريب" دورا ارتداديا للغاية بالفعل في عالم الكولونيالية ومابعد الكولونيالية. فهذا التشخيص يستحث وجهة نظر إقليمية ضيقة كما يقلل من قيمة التقدم في العلوم والمعرفة العابر للحدود. والواقع أنه ليس فقط غير مثمر في حد ذاته لكنه يمكن أن يكون في النهاية طريقة جيدة لكي تسبب المجتمعات غير الغربية أذى عظيما لنفسها – حتى نفسها الثقافية العظيمة"[7].
لقد الأحداث الأخيرة الى القول بأن الهويات الثقافية تمثل سبب التفكك والنزعات بين الشعوب وتشكل عاملا أساسيا أنتج الانقسام والتوتر وبالتالي يرى البعض أن تراجع الحضارة الكونية يرجع إلى تنامي نزعة الخصوصية والانغلاق على الذات وسياسة الانكماش واعتبرت الاختلافات بين الثقافات المشكلة من هويات متعصبة لانتمائها مصدر رئيسي لحروب الأديان وسوء التفاهمات بين الجماعات. وقد عبر هنتغنتون عن ذلك بتأكيده أن:"أن الصراع بين القوى العظمى قد حل محله صدام بين الحضارات".
"إن التنوع في الثقافات يمكن، بل قد يسمح بسهولة بالتخلي عن الديمقراطية والحقوق الفردية، كما أن التجاهل المتضمن في الطروحات المعادية للعقلانية والطروحات المضادة للتأسيسية والموجهة إلى المعايير الكونية ينطوي على مخاطر العودة إلى عالم أكثر وحشية وفوضوية."[8]
4- التعددية الثقافية سبيل نحو كونية أكثر إنسانية:
" إن الكوسموبولوتية كمنظور ثقافي هي أولا وقبل كل شيء رغبة في التعاطي مع الآخر. إنها موقف فكري وجمالي من الانفتاح على خبرات ثقافية متباينة، إنها بحث عن التناقضات بدلا من التجانس"[9].
ربما ماهو مطلوب هو تحقيق شروط الضيافة الكونية بالاعتراف بحق الملكية المشتركة لسطح الأرض من طرف كل البشر على قدر المساواة والسماح للنوع البشري بان يؤسس سلم ابدي يفرضه دستور سياسي كوني وليس إظهار محبة الناس لبعضهم البعض أو إرساء علاقات الصداقة وتبادل حق الزيارة الإقامة والتسليم بالحرية كما يقول كانط. إن ما هو لازم لجعل الكوني يعبر عن ثراء الإنساني هو التضامن الفكري والتعددية الثقافية وتوزيع العدل وعولمة الحرية والهوية الديناميكية والتنظير إلى احتمالية الكوسموبولوتية أو ما سمي بالمواطن العالمي. في هذا السياق يرى ريكور أنه:" لا يجب تخيل العلاقات بين الثقافات من خلال مصطلحات الحدود وإنما من خلال مصطلحات التأثيرات المتداخلة بين مراكز إشعاعها".
ليس بالضرورة كما يرى صاموال هنتنغتون أن يؤدي الانتشار الكوني للنموذج الاقتصادي على الصعيد العالمي إلى اغتراب ثقافي وذوبان في الهويات وإلغاء للتنوع والتعدد في الخصوصيات لاسيما و"" إن انتشار وانتقال السلع الاستهلاكية من مجتمع إلى آخر لا يحدث تغييرا مهما في الثقافة الأساسية للمجتمع المتلقي مثلما أن الانتشار السريع للتقنيات والإعلاميات ووسائل الاتصال لا يخلق اندماج الدول الغربية في القيم الغربية". لذا ينصح الكاتب الأمريكي بأن "نعرف من نحن قبل أن يكون بإمكاننا معرفة مصالحنا" ولكن عوض التنظير إلى الصدام بين الثقافات والحروب بين الدول ألا يجدر بنا أن نبحث عن الوسائط الاتيقية القادرة على انجاز تثقاف وتصالحات بين الهويات؟
ينبثق تعريف ماهو إنساني من معرفة الطبيعة الإنسانية في انفعالاتها وتصرفاتها وإبداعاتها وبعد مقارنته بالغريب والهمجي واللاسوي والآخر المغاير، وقد تغيرت دلالة الإنسان في الآونة الأخيرة لتقترن بنعت انسية مغايرة عبر عنها ادغار موران بقوله:" إن طبيعة الطبيعة هي طبيعتنا" ولتدل على مشروع ثقافي لامتناهي التعقيد يقدس الإنسانية التي تناهض كل سلوك إقصائي للغير وتؤمن اعتراف الآخر بالذات بعيدا عن كل اختزالية او استخفاف أو نظرة أحادية أو تمركز على الذات. الأخر هنا لم يعد الضد الذي يسلب ذاتي بل جزء من النحن الذي نكونه وشرط إمكان تحقيق الذات.
من جهة مقابلة ينبغي الإبقاء على التنوع والتعددية والمحافظة على الاختلاف والتباين لأن القضاء على هذه المفاهيم وصهرها ضمن ثقافة النموذج الواحد لن يؤدي الى تحقيق أي معنى حقيقي لحضارة عالمية ولذلك ينبغي أن تتعايش داخل الحضارة الكونية الثقافات القومية وتحقق تفاعلاتها القصوى المنتجة للتنوع وفي هذا السياق يقول كلود ليفي ستروس:" ما نطلق عليه اسم الحضارة ليس سوى نتيجة لتنوع الثقافات التي تساهم فيما بينها في انجاز إستراتيجية مشتركة". نراه هنا يدعو إلى تحالف بين الثقافات يسمح لكل ثقافة بالتفاعل مع الثقافات الأخرى من دون أن تفرط في هويتها. هذا الموقف يتكرر مع غاندي الذي يعتبر كل البشر إخوة ودافع عن ديانة توحد البشرية وترفع ما بينهم من خلافات وتعتقهم من ضغوطات الغربة وذلك بعودتهم إلى الحق والخير والتسامح والسلم وتساعدهم على التحكم في ذواتهم وتمكنهم من النزوع نحو الكوني وحب الخير إلى الجميع وينشد هذا المصلح الكبير في تعبير مجازي خلاب:"إن قطرة الماء تشارك في عظمة المحيط حتى وان لم تكن تعي ذلك لكن بمجرد أن ترغب في الانفصال تجف تماما". وهو يلمح هنا إلى أن كل الخصوصيات قد ساهمت في تشكل الحضارة الكونية وأن نزعات الانفصال والتقوقع لا تساهم في تشكل الهوية بل في سكونيتها وجدبها.
إن إقامة عولمة بديلة تفترض إنتاج ثقافة عالمية بديلة تسمح للخصوصية أن تجد مكانا لها في هذه المنظومة الكلية بشرط أن تكون هذه الخصوصية موجهة نحو المستقبل وغير مكتفية بما ترثه عن الماضي من أحكام ثابتة ومعايير مطلقة وحقائق نهائية. إن تجاوز التلفيقية الغائمة والبحث عن الالتقاء الفاعل والوفاء للأصول هي شروط أساسية للتواصل مع الغيرية وانخراط الهوية في الكوني والمساهمة الإبداعية فيه وهو ما عبر عنه ريكور بقوله:"إن الثقافة الحية الوفية لأصولها وتلك التي تكون في نفس الوقت في حالة إبداع على صعيد الفن والأدب والفلسفة والعطاء الروحي هي وحدها القادرة على تحمل ملاقاة الثقافات الأخرى".
خاتمة:
" أفتح نوافذي لكل رياح العالم مادمت متأكد من أنها لن تقتلعني من جذوري" المهاتما غاندي أليس اختزال الإنساني فيماهو كوني استخفافا بكل هوية؟ ذلك كان موضوعنا وتلك استفساراتنا حوله وهذا كل ما يمكننا قوله بخصوص هذه الاستفسارات وكانت بعض من تلك المرجعيات والشواهد التي ساعدتنا على توضيح مشكل التوتر بين الخصوصية والكونية الذي يطرحه نص ذلك الموضوع.
لقد كتب باسكال منذ قرون أن الإنسانية كلها كإنسان واحد يتعلم ويتذكر باستمرار ورأى ريكور أن الإنسانية باعتبارها جسما واحدا تدخل ضمن حضارة واحدة تمثل في الآن نفسه تقدما عظيما للجميع ومهمة جسيمة لبقاء التراث الثقافي وتكيفه مع هذا الإطار الجديد. وقد ألمح هيجل إلى أن المثقف يتخلى عن خصوصيته ويختم ببصمة الكلية أفعاله وذلك لتعوده على الفعل وفق وجهات نظر وأفعال كلية.
بيد أن ما حدث هو أن هذه الإنسانية وقع اختزالها في الكونية وأن العولمة همشت الخصوصيات وجعلت مطلب تحصين الهوية يقترن بالتعصب واللاتسامح والتمركز على الذات ودعت إلى الانفتاح والتحررية في كل شيء واحتكمت إلى قيم السوق والاستهلاك والتسليع.
على هذا النحو يبدو إعادة صياغة مفهومي الكونية والهوية أمرا مقضيا من أجل إزالة التوتر الطارئ بينهما وتحقيق إنسانية الإنسان والخروج من متاهة العولمة المتوحشة ومن أسر الخصوصية المحنطة، وان الكونية البديلة هي كوسموبوليتية جديدة تشرع للعيش السوي وتبقي على الاختلاف والتنوع وتنادي بالتثاقف والتخاصب بين الجماعات المتباينة والمتباعدة وهذا ما عبر عنه أدغار موران بالوحدة في التنوع والتنوع في الوحدة بقوله: في جميع الأمور الإنسانية لا ينبغي على التنوع في حده الأقصى أن يحجب الوحدة ولا أن تحجب الوحدة الصماء التنوع"[10].
إن الهوية الإنسانية المنشودة هي تقاطع وتلاقح بين عدة هويات متنافرة وبالنظر الى الغيرية على أنها بنية تكوينية للانية وهو ما أقره اريك فروم عند قوله:"هوية الأنا ترجع إلى مقولة الوجود لا إلى مقولة الامتلاك. فإنني أكون أنا في النطاق وحده الذي أكون فيه حيا مهتما مرتبطا نشيطا، وفي النطاق الذي أكون قد حققت فيه دمج الصورة التي أعطيها للآخرين أو لي أنا نفسي بنواة شخصيتي...ولا يمكن حل أزمة الهوية إلا في النطاق الذي يعود فيه الإنسان إلى الحياة من جديد نشيطا...وذلك بتحويله من كائن مغترب إلى كائن مكتمل الحياة".
بيد أن الإشكال الذي ربما سيبقى قائما هو تراوح الكونية بين الواقع والرهان ويمكن صياغتها على النحو التالي: هل هي كونية للكل ضمن المماثلة أم أنها كونية مغايرة وتنويع؟ وهل الإنسان هو مجرد وسيلة للكونية أم غايتها وقيمتها المنشودة؟
المراجع:
Edgar Mourin, Humanité de l’humanité, Edition du Seuil , 2001
Gil Delannoi et Pierre- André Taguieft, « Nationalisme en perspective », Bergintermotionnel Editeur,2001
أمارتيا صن، الهوية والعنف، وهم المصير الحتمي، ترجمة سحر توفيق، عالم المعرفة 352 يونيو 2008،
بول ريكور، التاريخ والحقيقة، فصل الثاني الجزء الثالث الحضارة الكونية والثقافات القومية،
فريد هاليداي، الكونية الجذرية لا العولمة المترددة، دار الساقي ، الطبعة الأولى 2002،
جون تومليسون، العولمة والثقافة ، ترجمة إيهاب عبد الرحيم محمد، عالم المعرفة 354 أغسطس 2008،
جان بودريار مقال السلطة الجهنمية مجلة الفكر العربي المعاصر العدد 134-135 خريف 2006،
.............
[1] أمارتيا صن، الهوية والعنف، وهم المصير الحتمي، ترجمة سحر توفيق، عالم المعرفة 352 يونيو 2008، ص11
[2] جان بودريار مقال السلطة الجهنمية مجلة الفكر العربي المعاصر العدد 134-135 خريف 2006، ص43
[3] بول ريكور، التاريخ والحقيقة، فصل الثاني الجزء الثالث الحضارة الكونية والثقافات القومية،
[4] Gil Delannoi et Pierre- André Taguieft, « Nationalisme en perspective », Bergintermotionnel Editeur,2001.
[5] أمارتيا صن، الهوية والعنف، وهم المصير الحتمي، ترجمة سحر توفيق، عالم المعرفة 352 يونيو 2008، ص20-21
[6] فريد هاليداي، الكونية الجذرية لا العولمة المترددة، دار الساقي، الطبعة الأولى 2002، ص 232-233
[7] أمارتيا صن، الهوية والعنف، وهم المصير الحتمي، ترجمة سحر توفيق، عالم المعرفة 352 يونيو 2008، ص131
[8] فريد هاليداي، الكونية الجذرية لا العولمة المترددة، دار الساقي، الطبعة الأولى 2002، ص 233
[9] جون تومليسون، العولمة والثقافة، ترجمة إيهاب عبد الرحيم محمد، عالم المعرفة 354 أغسطس 2008، ص248
[10] Edgar Mourin, Humanité de l’humanité, Edition du Seuil , 2001,pp70
كاتب فلسفي