إشكال التناغم في "ولو بعد حين " - زهير الجبوري
عندما يولد الشعر في ارض خصبة فانه يشكل انعطافة بارزة في تذوقه وعندما يولد في كينونة امرأة فانه يثير
الانتباه للعلاقة المتداخلة بين الشعر كـ( جوهر) وبين المرأة كـ( ذات) عاكسة لهذا الجوهر لذلك ذائقة مغايرة تظهر في الإلقاء الشعري ذائقة تفتح جدلية الحضور للمنجز الشعري / النسائي مع الأخذ بنظر الاعتبار الحساسية المفرطة والفاعلة في آن واحد في الكتابة الشعرية النسائية ..
الشاعرة ( فليحة حسن ) واحدة من الشاعرات العراقيات الأكثر حضورا في الساحة العراقية إذ استطاعت أن تقدم تجربتها بقوة ومهارة المنجز الذي طرحته هذه الفتاة الحالمة والهائمة بأجواء الشعر تطل علينا بهواجس جديدة وبتجربة أخرى أفردتها بعض الشيء عن تجاربها السابقة إنها مجموعتها الشعرية ( ولو بعد حين) إذ تبرهن على قدرتها الفاعلة من خلال فتح رؤاها بأيقونات التناغم الشعري وظهور إيقاعات نصوصها عبر لغة التواصل ..
وعلى أساس ذلك ننظر الى نصوص الشاعرة من زاوية التناغم الشعري المعبر عن إشارات دلالية متفاعلة في حركة البنية الشعرية وهذا ما ينسجم مع قصدية البناء العام في نصوص المجموعة .
وإذا ما فتحنا نوافذ المجموعة بالاعتماد على البنى المكونة لها ( وخاصة الشكلية والجملية) تنهض المكونات المعمول عليها على درجة عالية من التناسق المفتوح رغم إن بعض النصوص تأطرت بسردية الأحداث الشعرية
تناغم البنية الشعرية :
من خلال ما قدمته الشاعرة من نصوص واضحة في مجموعتها ( ولو بعد حين) من قدرة كاشفة لمكونات النص الشعري فان التناغم الحاصل في البنية الشعرية في مضمون نصوصها يعتمد على ما تحتويه من مقومات تكوينية على المستوى الشكلي والدلالي ولان الشكل ملازم للمضمون ( وبالعكس) فان لإيقاع الحاصل في شعر فليحة حسن يستشف من طبيعة اللغة المكونة والكاشفة لصياغة النص الشعري في النتيجة النهائية ..وقد تكون توصلاتنا هذه من حيث الحفر النقدي تنطوي على استخدامات سياقية تدخل في عمق المكون الشعري في نصوص المجموعة لكن الإشارة الراكزة في كشف ذلك تتضح في التناغم الذي حقق تفاعله من تداخل العلاقات الداخلية في المكون الشعري وما يدلل من وضوح قيم جمالية / شعرية ناتجة عن دلالات سايكلوجية وذهنية وحتى فكرية .
نقرأ في النص : ( احبك ، والوطن ملوث بالحروب) :
" كنا..
ومثل ليال فقدت مصابيحها
نتسربل باليأس
منقسمين على أنفسنا
مخضرمي حروب
نتنقل بين ( صفعات ) التاريخ
دونما بارقة نصر
مدمني منافي" ( ص 11)
ومع حركة توليد الدلالة الشعرية هنا فان المستوى البنائي اتضح من خلال الاعتماد على القيم الجمالية هذه بوصفها علامات فاعلة في جسد النص ،
فالعبارات ( نتسربل باليأس ) و( منقسمين على أنفسنا ) و( مدمني منافي ) .. فيها دلالات شاخصة ومباشرة للشكل الشعري القائم على التناغم الحاصل للبنية الشعرية ذاتها .
تناغم الشكل الشعري
يمثل التناغم الشكلي / الشعري في النص الهيئة الفاعلة والمؤثرة للبنية الشعرية ولعلها تعمل وبطريقة فنية / تعبيرية على أعطاء الشكل دوره الفاعل عبر منافذ اللغة المنفتحة على مساحة النص ، على الرغم من وضوح الدور الذي تبذله اللغة لتكريس الأبعاد الإيقاعية لإظهار محمولاتها وفي الكتابة الشعرية لفليحة حسن تظهر الجملة بوصفها شكلاً شعرياً متناغماً والمستوى اللغوي الصرف فالشاعرة من خلال ذلك خالقة لنصها عبر محسوساتها المولدة للحركة الشعرية لتنهض بعض نصوص المجموعة وتكشف آلية التناغم الشكلي إذ نقرا في نص ( مرآة الرؤيا) :
" سأعلن حربي
واليوم
أبصرت الطفل المهووس
بقربي
يرفع عني غطائي
ينظر صوب الأشياء الناضجة
ويمد يدا ًنحو الرأس
الاتعبه الركض في دهليز الحرب ...
يأخذه بين يديه ؛ ( ص32)
نلمس حركة الشكل كيف انطوت على موضوعية تناغمت والقصدية المعمول عليها من داخل النص والشاعرة لديها النصوص الكثيرة في ذلك إلا إننا اكتفينا أن نأخذ بعض المقاطع ( كأنموذج) تطبيقي لذا ..فعملية ( الإبصار للطفل وهو يرفع الغطاء) دلالة واضحة لإبراز الشكل الشعري عن طريق الإيقاع الداخلي في النص ، وهذا ما يبرهن عبارة ( يرفع عني الغطاء) وكذلك في عبارة ( ويمد يدا نحو الرأس الاتعبه الركض ) عبارة ( اليد ) وأيضاً ( الرأس) علامات شكلية في جسد النص لذلك تعد من حيث صياغتها التناغمية منتوجاً دفع بالطريقة هذه بالاعتماد على أسلوب المجازي .
نقرا في قصيدة ( حنين) القصيرة ، إيقونة الشكل وعملية استعادة الأشياء كدلالات فاعلة ومؤثرة بوصفها خطابا للواقع فالشكل الشعري عند الشاعرة أداة فاعلة من داخل النص ، وهذا ما جعل القارئ الآخر أن يدرك ما تطرحه بمهارة الإلقاء :
"لما استعاد القبر دكنته الحبيبة
صيرتُ قلبي نافذة
وجعلت امدح قاتلي " ( ص 62 )
وقد يكون ( القبر) القيمة التخصيبية للشكل الشعري عند ( فليحة حسن) والحاضنة لبقية العبارات التي تقف بشكل تناظري مع الإطار الفني للنص ككل فدلالة الموت أصبحت واضحة وجلية حتى عندما دخلت برؤى مشحونة برغبة القتل ( وجعلت امدح قاتلي) فالنص هذا جاء(بالمقلوب) لكن عملية اللعب بالشكل أجاز للشاعرة أن تفيض من مهارتها الشعرية الشيء المقبول وتصوغ نصها بالصورة هذه فنحن ندرك بان القتل يؤدي الى القبر وهكذا في حين يدخل اللعب بالشكل في مناطق تناصية في بعض القصائد وان كانت تجئ سريعة إلا إنها واضحة الدلالة ففي مستهل النص الشعري ( ابنانا والرماد ) نلمس ذلك :
" لستُ في نقطة الاختيار
فأينما تبرك الناقة
ثمة منفاي" ..(ص42 )
يحيلنا هذا المقطع الاستهلالي الى قراءة شكل النص من حيث بعده الفني الى تنقيبات بنائية ( الاختبار ..تبرك الناقة ..منفاي ) كلها تمنح النص طراوة التلقي المباشر ، وفي القراءة الموضوعية نلمس بناء النص على أرضية النص المقدس .
تناغم المفردة الشعرية :
تقوم المفردة اللغوية التي ينبني عليها النص في مجموعة ( ولو بعد حين) بالتركيز على النواة الفاعلة لما تحمله المفردة من علاقات متشكلة مع بعضها تبعا لطبيعة الكتابة الشعرية عند الشاعرة والتي تكتسب أهميتها بالدرجة الأساس من المهارة في الإلقاء ( أولاً) وصياغة الجملة الشعرية (ثانياً) .. فليحة حسن تلعب بالفردة مثلما تريد وكأنها تمسك بمجموعة من الألوان لترسم لوحاتها الصورية / الشعرية ولعل ذلك يحكم قدرتها على صياغة النص كشكل فني له تناغمه الخاص ، والملفت للنظر إننا نلمس حضور المفردة الشعرية كبنية خالصة لوحدها- من جهة – مثلما نجد حضور المفردة داخل إطار الجملة الشعرية – من جهة أخرى – فالمرونة والتشكيل والمد والجزر كلها توفرت في نصوص المجموعة ولكن ثمة من يسال كيف لنا أن نقرا المفردة الشعرية داخل بنية النص ؟ ..
وإذا ما قمنا يفتح المجموعة وقراءتها مجددا نمسك بالعديد من النصوص التي تنهض فيها المفردة كدلالة شعرية ناضجة :
نص ( تساؤل) :
( لماذا لا اكتب عني ؟/ وأنا / منذ وجودي محبوس في قمقم رأسي )ص76
نص ( ومضات ) : ( 2- ضياع / ثمة من يصرخ في هذا النهر / ماء / ماء / ماء) ص 87 .
نص ( همسة): ( ارفل بالحزن ممسكا بدمي / المعلقون بأنياب الشاهدة / أصدقائي ) ص23 .
من هذه المقاطع تكشف المفردة الشعرية مستواها الإيقاعي الذي يقوم بخلق معنى له توهجاته الكاشفة عن بناء شعري له أبعاده المحسوبة ففي النص الأول نلمس جدلية اللعب باللغة وأحالتها الى ما هو مجازي والمفردة المحورية تتضح بعبارة ( أنا) وهي بلا شك ( أنا الشاعرة) أما النص الثاني فكانت المفارقة واضحة المفارقة التي باتت من خلال فعل الانزياح ( للصراخ الحاصل في النهر) إلا أن المفردة الممحورة داخل النص هي (ماء) ... أما النص الثالث فقد تمتع بهواجس ( ذاتويه ) ( فالإمساك بالحزن ) و( المعلقون بأنياب الشاهدة ) متداخلة مع عبارة ( أصدقائي) تداخلا إيقاعياً واضحاً ،
وهذا ما يبرهن العبارة الأخيرة كمفردة شعرية لها أبعادها المحسوبة .