إذا أمعنت التدقيق في هذا الحوار، والحوارات التي سوف نأتي على ذكرها لاحقاً، تجدها في عمقها موضعاً قد خلا منه كبار السن، أو على الأقل حيّدَ الكاتب هذه الفئة البشرية من روايته، وصار يشار إليها بالتداعي، فأصبحت الرواية في الغالب الأعم تختزل الفئة الشبابية، وفقاً لمعطيات الأحداث التي أراد لها الكاتب أن تُؤَرخْ مجريات الخلق الفني ضمن مناخ اجتماعي مفتوح على آخره، فتلاقح صرفاً في موضوعاته السرمدية التي عاشرت وأطاعت بنيويتها الاختزالية، في سياق خصوصية المبدع، كونها العين التي تبصر الموضوعات وتحاور شيئياتها، ولهذا فالتأسيس الكتابي يعتمد بالمطلق على الثقافة الذاتية في البنية الجينية في خلايا التفكير، والمكتسبة من فعل الموجودات ومتغيراتها الايجابية أو السلبية منها،
وهنا لو تحدثنا عن علاقة الكاتب بالشخصية. نجده ومنذ حواره الأول قد عاصر الشخصية في قربه التاريخي الزماني والمكاني، ولهذا فقد حدد الأبعاد النفسية كالمشاعر واللذات، منذ البداية لشباب كان همهم الوحيد التعليم، متأثرين بالطفرة الثقافية والصناعية الأوروبية في قوله:
"كانت أوروبا الغربية المثال الأول المرسوم أمامه، والمثال الثاني المنظومة الاشتراكية."
كان هذا هو الهدف المرسوم في وعيه وثقافته، وقوة إيمانه بتحدي الصعاب المادية، التي تقف في كثير من الأحيان عائقاً بطريق النشاط المحسوب، لذا فقد أصبحت أوروبا مثاله، الذي يطمح لأن يبني مجتمعاً حضارياً وصناعياً مثله، حضارة مبنية على حرية المهارات، والإبداع، والتشريع الإنساني، لكي تصلح لكل زمان ومكان. وهي خاصية أراد الروائي أن يعالجها على أسس موضوعية التطور الانفعالي، وليس بالتشابه أو التقليد مع حضارة أوروبا.
وعودة للحوار الأول فقد أدخل الروائي الشخصيات في حوار تجده عادياً جدا في بلد من بلدان العالم الثالث "بتعبير ماوستي تونغ". الذي أراد أن يظهره من خلال ثقافة الحوار، المبني على جدل داخلي يقوم على صراع تناقضي في اتجاه واحد، يؤسس لجدل خارجي يقوم على تلاؤم الحضارتين، حضارة وادي الرافدين، والحضارة الأوروبية الحديثة في قوله:
"شدته الأفكار والمناقشات، كما شدت بعض الطلبة، وظل الحديث يأخذ طابع التمثل بما وراء الحدود من خصب ومثال لحياة أفضل، في وقت انتشرت كتب رأس المال، وقصص مكسيم غوركي، وفكتور هيجو، وكتاب دارون، وروايات أميل زولا، والبورتومورافيا، وازدحمت في مكتبات بغداد."
أراد الكاتب "البطل" أن يأخذ بالمفروض الواقعي إلى الوعي المصوغ من خلال وعي المثقف العراقي، وارتباطه بهموم الناس، ومعاناتهم اليومية، التي تميزت برفضها المعلن. عندما تلقف الراوي النشاطات الثقافية والسياسية اليسارية القادمة من أوروبا على يد الليبراليين أمثال: بوب بلاك. وهو من الجدليين المعاصرين، وتورغونييف الذي بشر بالعدمية "النيهلستية" في روايته "الآباء والأبناء" وبطلها العدمي بازاروف. والشيوعيين أمثال كارل ماركس، وانجلز. والأناركيين أمثال: ليساندر سبونر، وبنجامين توكر. الذين طوروا مفهوم فلاسفة وأدباء عصر النهضة العربي من خلال البوابة الأوروبية الثقافية والتنويرية منها.
والملاحظ أن الكاتب بدأ جهده مركزاً على الطفرة العضوية للجملة، التي تأخذ بالسرد إلى اختصار تداعيات الماضي، والتركيز على الحاضر والمستقبل، وهو في حالة من الوثوب الدائم واليقظ، والعزم على مسك الخيط من أوله، ولكن تبقى البداية دائما غير مثالية عند أغلب الكتاب في بداية كتاباتهم لهذا الجنس الأدبي أو ذاك، سيما وأن الاعتماد الملاحظ نجاحه جاء في صيغة تبني الاستنتاج الضمني لطبيعة الحالة الاجتماعية، ومؤثراتها الذاتية، وإسقاطها على الحوار من خلال الإحساس العام الذي يملأ النفوس بالاهتزاز المادي في قوله:
" أعمل في محل أهلي. وظيفة الحكومة لا تنفع. أشتغل مدة واجمع مالاً، ثم أرحل لأكمل دراستي."
هو اليأس النفسي إذن، الذي يحيط تفكير الشباب بعدم الثقة بهذه السلطة القاهرة لشعبها، ومحاولة الوقوف بمواجهة التردي المعاشي والسياسي لبلده العراق، إلى درجة اكتشف أنه يعيش في بلد يفتقر إلى أدنى حالات التطور التنموي الخلاق، وإغفال حقوق الإنسان، والتعدي على الحريات العامة، وعدم الالتزام برأي الأغلبية "الديمقراطية"، خاصة وأن الكاتب من سكان الجنوب وبالتحديد من محافظة البصرة، قضاء التنومة، فشعوره بالغبن والإهمال وبعده الثقافي التنويري والأدبي، مكنه من الدخول إلى الكشف عن معاناة شعبه، وافتقار مجتمعه إلى ابسط حالات الرفاهية والسمو الإنساني.
الملاحظ أن الرواية مكتوبة في أيلول من عام 1989، وهو عام قريب من الأعوام القلقة، التي شهدت بها كل الأجناس الأدبية غفوتها واستهلاكها، بمتأثرات عديدة منها:
- بلوغ السلطة البعثية الدموية الظالمة في العراق غاياتها القصوى، في ملاحقة واعتقال الوطنين الأحرار من الكادر الثقافي، والأكاديمي، والعسكري، ورؤساء العشائر، والكادر العمالي، وزجهم في غياهب المعتقلات القذرة وإخفائهم للأبد.
- حرب الثماني سنوات، وما خلفته من تدمير معنوي في كل المجالات، بين إيران والعراق، والتي انتهت بهزيمة الدولتين.،
- نكسة الحروب مع إسرائيل، والاجتياح الإسرائيلي للبنان، كان ومازال يحقن النفوس ويعذبها، ولبنان كان وقتها هو البلد العربي الوحيد الذي صنف من البلدان الديمقراطية في العالم، وهو هكذا لحد هذا اليوم يعتبر بلد الحريات كلها.
ومع هذا فقد حقق الكاتب لروايته القسم العفوي، في تنامي الجزء الظاهر في الخصائص البنيوية، التي تجمل وظائف الحبكة الدلالية في تنامي النص، خاصة عندما أجاز للأسلوب تبني المحلية، في بنية النص العفوي، بدون هدف واضح يميز هذه الاستقلالية، مما شكل تنامياً متعثراًً ظاهراً في الانسجام الداخلي وتلازمه، كونه نشط من الوصفية التحليلية الشاملة لمضمون السرد المباشر، أي التصوير، بتعبير أخر أن الكاتب لامس طرف: محور القوة المحركة، أي العملية الإبداعية، التي من المفترض أن ترسم الأحداث ودلالاتها بريشة تطابق الخيال مع الملموس الإبداعي الذاتي، وليس الملموس المكتسب، الذي ينحى بالأسلوب الروائي إلى القلق الوظيفي، والغاية هي فك الالتباس بين الحقيقة الإبداعية، وبين الوهم، لتحقيق بناء جملة واضحة التركيز على معانيها المرتبة بعموم واقعية الحكاية، التي من المفترض أن تؤدى إلى تلازم النسيج المكون من الأدوات المحلية الأصيلة، لما يتوافق مع إيقاعاته الوجدانية في المسار الذاتي للأبطال، في قوله:
"معدله العام دون شروط الجامعة."
وبعد سطور معدودة تصافى الكاتب مع تداعيات الأسلوب باتجاه الماضي قائلا: "كثيرا ما منعته من الخروج واللعب في الشارع، تفكيرها يقتصر أن تحفظه من مآسي الطريق، وأخطار العجلات، وتمنعه من الاختلاط بأبناء الشارع، حتى تؤدي أمانة الأم فيشب."
من دون شك استخدم الفلاسفة الأقدمون كما هو الحال عند أفلاطون في المدينة الفاضلة، أسلوب التداعيات منهجاً وصفياً يربط أجزاء بنية الموضوع بالوظيفة الإبلاغية، وقد أخذ المعاصرون هذا البناء الأفلاطوني لبلورة ملامح النص وتبيان السياق العام للبناء، وهو صناعة نسيج فني يتابع مسيرة ارتباط المعاني مع خصائصها بوجوب سياقاتها المختلفة، وقد حقق قصي الشيخ عسكر هذه الإفادة، ولكن بخلاف بسيط، حيث أنه لم يمفصل التقنية التناسجية التلازمية في الرؤيا الداخلية في تراكيب المعاني، تأكيداً لتحقيق الوظيفة الروائية، التي تتبنى تتبع الأحداث في سياقها العام في وحدة المعنى، وذلك من أجل أن تحقق متلازمات الأسلوب في ترابط البناء صرفياً، ومنها تتوحد الوصفية الوظيفية مع البنية اللغوية لتبيان الانسجام العام في خصائص الموضوعات. وفائدتها أن لا تتشتت أفكار القارئ التي من المفترض أن تنسجم مع المسيرة السردية.
لقد حفزني الشاعر والروائي قصي الشيخ عسكر عبر أجناسه الأدبية المنوعة، إلى طرح تساؤلات عديدة منها:
- لماذا يتجه البعض من الشعراء إلى كتابة الرواية، ويضعها بلغة شعرية معقدة، فيفقد السرد قانون صراع المتناقضات الداخلية أهميته؟
- لماذا اللسان العربي "عند البعض" لا يتجه إلى التبسيط واغناء المعاني بسهولة اللفظ والإيعاز؟
- لماذا لا نضع نصوصنا ضمن خصائص السياق البنيوي المحلي، ونتجه عوضاً عنه إلى السياق البنائي الأوروبي؟ وحاله يزرع في حقل ويجني ثماره من حقل آخر، فتصبح العبارات والجمل مركبة تركيبا مشتتاً ومعقدا، وبهذا يبتعد القارئ عن النص!!
كل هذه الأسئلة تقودنا إلى دراسة نتوسع فيها إلى أبواب ومحاور عديدة في الأجزاء القادمة من دراستي هذه في الرواية العربية. ولكي نبين نقاط الاختلاف والمطابقة مع هذه الأسئلة نقرأ هذا الجزء من الرواية:
" دخل المنزل الساعة العاشرة، ما كاد ينتهي من خلع ملابسه حتى أقبلت أخته كعادتها تلقي عليه أسئلة يضجر منها، فيخفق تأففه بإجابات مقتضبة.
– أتعشيت في السوق أم في بيت صديقك صالح الذي حدثتني عنه؟
كان يحرك رأسه بالإيجاب أو النفي، ويغلف ضجره بابتسامة واسعة، بينما واصلت أخته:
- راع نفسك بالأكل خارج البيت، فربما لا تهتم البيوت والمطاعم بنظافة الأكل مثلنا! خرجت لتتركه وحده. أحس بصفاء ذهن بعد تحقيق قصير. أخرج الكتاب ، وبدأ يقرأ عبارات سمعها من إذاعات مختلفة، ومصطلحات بعضها عرفه وآخر مر به، ولم يجد إلا القليل الذي يخالف رأيه وتعاطفه، لقد ورث عن أخته وزوجها، ووالديه قبل الرحيل كرهاً لحكومات أسقطت العهد الجمهوري الأول. كان أهله يتعاطفون مع اليسار، فالشيوعيون، والوطنيون، وقفوا جنب عبد الكريم قاسم في محنة رمضان وظلت صورة الزعيم في عيني والديه رمزا لحامل سيف الحق على الظلم، وكانت أخته مثال أمه لا في تفكيرها فحسب بل تصرفاتها. أما زوج أخته وأن لم يتحدث بالسياسة إلا قليلاً، فأمنيته أن يبصر آل عارف معلقين بالساحات التي علق فيها أنصار الحكم الملكي."
اعتمد الروائي في هذا البناء: خصائص البنية الصوتية التي تعكس محاكاة السمع في قوله:
"أقبلت أخته كعادتها تلقي عليه أسئلة"
أما الصمت فجاء ملحقا ثانوياً لنشأة اللسان بفاعلية النطق والصوت، في قوله:
"كان يحرك رأسه بالإيجاب أو النفي."
لأن الإجابة لا تحدد النطق في اللسان وحسب، إنما هناك أكثر من عامل للرد بوضوح على الأسئلة، ومنها الإجابة في حركة الرأس كما أشار لها الكاتب، أي الإشارات الدالة على المعاني غير المنطوقة، وحركة اليدين، والعينين، والتأفف كما أحالها الكاتب إلى تبني الإشارة. وقد تكون هذه الإجابات حركة وصفية مقنعة، بخلاف تحديد وحدانية بقية الحركات في فسلجة العقل وايعازاته: كالسمع، والأكل، والنظر، والشم، والمشي، وأخرى وظيفية داخلية، في حدود تبيان وتمييز تطبيقاتها الإبلاغية. وقد بين السكاكي في هذا الاتجاه في كتابه " مفتاح العلوم":
"حيث بين أن علم المعاني في مفهوم الإشارة "الإجابة" على الشئ تتجلى في تتبع كيفية ارتباط الإسناد بالإفادة عن طريق مفهوم الإشارة في سياقاتها المختلفة".
أراد الروائي هنا أن يطرق المحلية بلغة تتبنى المفردة الشعبية المدنية، حين سألته أخته:
"أتعشيت في السوق أم في بيت صديقك صالح الذي حدثتني عنه؟".
فالكلمة "أتعشيت" شعبية تدل على التخصيص الزمكاني، أي تناول وجبة العشاء المسائية في مكان ما، هذا لأن البناء التخصصي في هذا المقطع يتحد مع مضمون السياق العام للرواية، كونه يحجب الشكل، ويبين المضمون ولذا فالتناسق تركب ذاتياً، وهو غير ملزم بالتلاقي العضوي بين الشكل والمضمون، لأن حال هذا المقطع شكله لونه الخاص، وكأنه بنية فنية منصرفة بتركيبها ونجواها ودلالاتها الإيقاعية، التي يجب أن تنسجم انسجاماً شيئياً في دواخلها الروحية وخوارجها الشكلية للدلالة الصوتية، وهو تخزين الخوف في عقل الأخت، للحفاظ على الترابط العضوي في وحدانية البناء للمخصص النفسي لهذه الرواية. ويظهر من ذلك أن الانسجام الذي اعتمدته كلمة "أتعشيت" لها صلة بالعوامل النفسية الصامتة التي يشتكي "يضجر" منها البطل "الأخ" في أمنيته الدائمة الملحة في نفسه أنه أصبح شاباً يعتمد عليه، خاصة وأن "الأخت":
"مثال أمه لا في تفكيرها فحسب بل تصرفاتها."
هذه الدقة في التشبيه الجلالي بين "الأخت" و "الأم" مؤثرة في موقعها وفعلها، واختصار المعاني زاد من فعلها الإنساني التربوي تألقا، يعني ذلك أن التدفق الفسلجي عند الروائي في لغته الرصينة، جعلها مبنية دائرياً في ديمومة مسارها المكاني الخاص. فالرواية التي تحاكي الواقع عبر مكونات عناصره، بروحية شفافة، وتعالج موضوعاته، تجد تأثيرات الواقع معكوسة فيها كالمرآة وهي تحاكي المتلقي.
يتبع : الجزء الثالث من دراستي في الرواية العربية.
جعفر كمال
j.kamal_(at)_hotmail.com