حوار بين الوجود واللاوجود - فدوى أحمد التكموتي
ليال وأيام مضت على وجودها داخل قوقعة صنعها يد القدر , لقد كانت ولازالت تلك الأنشودة التي تتغى بها الطبيعة على ألسن الشعراء , لازلت أذكر أني كنت في حفل أقامه أهل الدير ليبارك البطرياق الأكبر ولادتها , التقينا صدفة ,
عندما كنا نشرب نخبها, فتصادفنا ومن ثم كان لقاؤنا , كانت سمراء البشرة, وشعرها حرير ملألأ بأكاليل من النرجس والزمهرير, عيانها تشع منهما نورا كأنه ظل الله في عينيها , عذبة الكلام , مليحة الوجه, ناعمة اليدين , مازلت أذكر أنها كانت ترتدي فستانا أبيضا مزكرشا بينابيع من اللؤلؤ والمرجان الإلاهي أحضرته لها الملائكة من فردوس الأرض والبحار والمحيطات , فكانت وسط ذاك الفستان الباهر عروسة ذاك الزمان , الكل يتبارك من ثوبها , فطوبى لمن لمسه أو حتى سمع منها كلمة رضى , فكأنه يلمس الحجر الأسود الذي يتبارك به أتباع نبي آخر الزمن في الوجود واللاوجود نبي أمة إقرأ , كان لقاؤنا, لقاء الصدفة , ولقاء الروح , كنت أسمع عنها الكثير ... ولكن لم تخطط لي ذاكرتي صورتها ولم ينسج لي خيالها هيئتها الراقية , تمشي كملاك في سماء المحبة , رسالتها أمن وسلام ورحمة , رافعة يدها اليمنى يد الله في السماء تدعو ربها في سر وكتمان , وفي يدها اليسرى العشق الطاهر السرمدي , تعلو بصوتها الشدي , وصراخها العميق , ودمعتها الكسلى الدفينة , تناجي طيف الملائكة , في سماء الأرواح والسلام والمحبة , تقول في سرها , هَلَّني أصلُ إلى مأربي , زادي عشقي جنوني , لأميري الوفي , حبي الطاهر السرمدي , الذي ما إن أجدهُ أكونُ له هدية وقربان الله للرضى في الوجود واللاوجود , هي راقية بكل معنى , هيئتها , شخصيتها , ضعفها الذي هو مكمن قوتها , لم تصور قط أن أمشي سويا مع أميرة , أميرة الحرف والكلمات , سكبتْ لي كأس خمر مقطرة من ماء الطهارة وقدمته لي فشكرتُ لها صنيعها , كان الكل عندما يراني أتحدث معها , ونسير معا , يتباركون بي , لم يدركني الفهم وقتها لمِ كل هذا التقديس , وهذه العبودية , ذهبنا إلى المحراب وبدأت تكرر كلمات الثالوث المقدس وختمت كلماتها بأعظم شيء سمعته في حياتي :
يا منصف الضعفاء , أنشر سلامك على أتباع نبي آخر الزمان, فأنت الرحمن , ومنك جاء الرحم والرحمة , فتولانا برحمتك وبغفرانك , وبقبول ثوبتنا إليك , فنحن جهلة ظلمة , ساقتنا دروب الأنا في خمرة الدنيا الدنئية, فرفقا بنا واهدينا إلى صراط المستقيم , فأنت السلام , ومنك جاء السلم والأمان , فارحمنا , واغفر لنا , وألف قلوبنا , واجمعنا فيما يرضيك , وفرقنا فيما يغضبك , اقبل ثوبة من دعاك , واغفر ذنوب من رجاك ...يا أرحم الراحمين , يا الله ...
وقفت مذهول الفكر شارده , كيف لقديسة تذكر الإلاه بهذا التصوف ... قلت في نفسي ... لله في عبادك الهداية , وإليك فيهم كل الأمن والسلام والرحمة ...
توجهت بي إلى حديقة الدير كانت تنظر إلي كأني مذنب وأريد أن يغتسل جسدي من نجاسة الأفكار , وأن أتوجه إلى البطرياق الأكبر , وأجلس على كرسي الاعتراف أمام الرب والثالوث المقدس , كنت أحس بتساؤلاتها الدفينة , وحيرتها الكثيرة , فبادرتها قائلا :
يا قديسة الراهبات , في ملكوت الحروف والكلمات , تتساءلين لماذا كنا في المحراب ولم أذكر الإلاه بأي شي من الدعاء , إني يا قديسة الكلمات , أقف عاجز أمام ربي في المحراب , ماذا عساني أن أقول له في حضرت جلاله وسلطانه و هو يعرف من أخفيه وما أعلنه , فما أردد من كلمات قد أكون لها متصنعا , وقد أكون لها أعمق دلالة , لكني أعجز تماما أمام ربي في المحراب ... لا أنطق ولكنه يسمعني ... لا أتحرك وهو يعرف سكناتي ... ولا أشكو وهو يعرف شجوني ...
فقالت لي تلك الأميرة , التي مهما وصفت لم تدركني مخيلتي إلى تصويرها بتلك القدسية الرهيبة , قالت لي وهي تمشي بضع خطوات في اتجاه بئر حديقة الدير...
هو طريق الهداية والتقوى , فهو بشرى لنا , ولمن قبلنا ومن سيأتي بعدنا طريق نوره دائم , في الأرواح , منقوشة على الصدور , لكل الكائنات , ما علينا إلا أن نختار الشكر والهداية أم السخط و العصيان كنتُ في بحر عميق جدا , بنات أفكاري أبخرة أعمال واهية , صنعها لي القدر , من هيكل الأوجاع والأحزان ,وكنت والعذاب رفيقان , أتلذذ به كهوائي الذي أتنفس به في رئتي , وذات زمان في مكان بعيد حيث يوجد ظل الله في ذاتي العاشقة للسرمدي المطلق في الوجود واللاوجود , هناك قابلتُ وجه الله, فاتخذتُ من موقع الدير أفرشة تراب أغطي به لحمة جسدي , ومن ماء بئره أنقي به تلوث جسدي من أتربة سيئاتي , ومن الخمرة المقدسة من الماء الطاهر أشربه لكي أشبع ظمأي في عشقي الجنوني السرمدي المطلق في الوجود واللاوجود , من هذا المقام اتخذتُ سكناي , حياتي كلها هنا , بين جناح ظل وظلال الله , إني أحس بيد الله نحوي , تلمسني بطهارة نفس كنت أتشوق إليها في لحظات سكون قاتل مع ذاتي , ووحدة مميتة مع عقلي , الذي لست أدري أهو لعنتي الأبدية أم نعمتي الأبدية على نفسي , على ذاتي ولما رآني الناس وسكوني في هذا المقام , بدأوا يتبركون بي , كأني قديسة راهبة , عندي فقط الحب والسلام أنشره في حدائق النفوس المرهفة , ولم يلوث نفسي غبار الحقد والكره , لم يعرفوا أني إنسان , ومن صفاته النقصان يريدون مني التقرب إلى ذات الله , الذي تسكن ذاتي وروحي , قربانهم طقوس رضاي , كل رضاي , كأني لهم مفاتيح جنة الفردوس , بابها مغلق بيدي وبرضاي تفتح لهم روائح العطر المقدس الإلاهي ... ...
زار الصمت ألسنتنا , في ضباب الكلمات التي قالتها لي تلك الأميرة الحسناء , وذهبت نفسي تتساءل أهي قديسة من البشر , أم ملاك روحي من السماء , جرأتها غير ذي جرأة في الوجود , أهي روح الله في هذا المحراب , أم هي ظل الله في روحي ... لست ُ أدري ...؟؟؟
رجعتُ بفكري إلى الميتافيزيقا , ما بعد الشقاء وما بعد التعاسة , ما بعد الوجود في الأزل , وبين اللاوجود في الحياة , وذهب فكري يتساءل هل نحن ذواتٌ وذاتنا ذات الله في ظل ذوانتا ؟؟؟ ونور الله وشعاعه في الأزل منذ وجودنا ؟؟؟؟أم نحن ذواتٌ في كهنوت الذات, بؤرة الخير والشر فيها تتسارعان في الوجود واللاوجود ؟؟؟؟
وهناك جاءني الجواب , من ملائكة السماء , تطوف تجول في الفضاء , فضاء عقلي الذي لا أدري أهو نقمة علي أم نعمة لي تقول :
طوبى لمن يتساءلُ عن الوجود , في اللاوجود بين المرئي والسمعي , الزمان والمكان اللاخلود , إن سؤالك جوابه هناك في ماوراء هذا الوجود فهلاَّ عرفتهُ يا كاهن الذات , إنه ظل نور الله في ذاتك الدائمة السؤال , والحائرة الجواب , إن جوابك عندي في السرمدي فابحث عنه مادمت قد اخترت طريق البحث دربك , فحتما ستصله قد يكون في الأزل وقد يكون في الوجود واللاوجود ...
بقلم : فدوى أحمد التكموتي
المغرب