ثنائية (الحلم والحبيبة) في قصيدة منير مزيد (يحلم حلما يتيما) - محمود فهمي عامر
لعل أول ما شدني في قصيدة منير مزيد (يحلم حلما يتما) المنشورة في مجلة (حيفا لنا) أيار- مايو 2009م ذلك الحلم اليتيم الذي جعلني أتساءل من اللحظة الأولى قبل قراءة القصيدة:
ما الذي جعل الشاعر منير مزيد يحلم حلما يتيما ؟ وما سر هذه الأحلام المتلاحقة أو المتصاعدة في عالم منير مزيد الشعري ؟
هذه ليست التجربة الأولى التي استقاها الشاعر البوشكيني من وشوشة أحلامه، بل عشنا معه تجارب أخرى تناولت الحلم كتلك القصيدة التي وسمها بـ (فلسطين والحلم) و قصيدته ( حلم يتسلل للغيب) ، وهناك قصائد استهلها بالحلم كـ (قصيدة حب لفلسطين) التي قال فيها:
كانت تلفنا الأحلام الإلهية
بثوب السكون
نقطف وردة الخلق
من مروج الجسد الملتهب
نرشف الرحيق المترف
من شفاه العنب
ونشرب نخب الحبّ
نخب الحياة....
وقصائد أخرى جاء الحلم في ثناياها من مثل قصيدته (حبيبتي):
ها أنا ذا أتجول في حلم
أحلم حلماً يتسلل إلى شرفات الغيب
ترافـقـني أحزان الحياة الماضية
و الآتية
والمتتبع لقصائد منير مزيد الأخيرة يجد حضورا لـ (لحلم) ومرافقته الحاضرة في أحلامه، وهي (الحبيبة) .
وحبيبة منير مزيد كما وجدتها في قراءات سابقة هي (فلسطين)، وهي السبب في هذا الحلم الذي رافق إنتاج منير مزيد الشعري، وخصوصا في هذه المرحلة الشعرية الناضجة والصافية التي يمر بها بوشكين فلسطين.
وإذا كانت الحبيبة هي هم الشاعر في يقظته فلا عجب أن ترافقه في أحلامه؛ وهذا يدل على صدق التجربة الشعرية ، وانتماء صاحبها لحبيبته التي ترافقه في حله وترحاله وأحلامه.
هذه الثنائية (الحلم والحبيبة)، وتلك المصداقية في التجربة الشعرية، والانتماء الحقيقي للمحبوبة في يقظته وحلمه هي التي ولدت أفعالا مضارعة مستمرة قاسية في هذه القصيدة ، لتعبر بدلالاتها الفنية ووحيها الشعري عن معاناته وهمه الإنساني وتطلعاته لواقع آخر تعيش فيه محبوبته، ولا يحتاج القارئ العادي أن يدرك ذلك وهو يستعرض الأفعال الآتية: (يتعمق، ويتوحل، وتمر، وتستسلم، ويتجذر، وتحج، وتنبت، ويحدق، ويقطع، ويبحث، ويصلي، وتعانق):
حبيبتي
بين عذابات الحياةِ و مرارة التشردِ
يتعمقُ الحزنُ ... يتوحلُ في الهذيانْ
تَمُرُّ لحظاتٌ صافيةٌ تَستسلمُ فيها الروح
لـ نداءِ ضيفٍ رائعٍ من السماء
حاملاً أنفاسك المعطرة بشذى الإله
بشذى الأنبياء ...
في هذه الرؤيةِ
في هذا الهذيانِ ... يا حبيبتي
أَحْلمُ حُلماً يتيماً يتجذرُ في الذاكرة
قبرًا تحت ظلِ زيتونةٍ أحببتها
و أحبتني بحياءْ ..
تحج إليه كُلّ العصافير المهاجرة
و تنبتُ عليه شقائق النعمان
بوشوشةٍ بيضاءْ
وهي ذاتها بثنائيتها المنسجمة مع تركيبة القصيدة في مقطعين صنعت أجواء موسيقية خارجية تعتمد على قافية ممدودة لتعبر عن امتداد الحلم وانقطاعه بهمزة قطعه، هي التي جعلت الحب البوشكيني في حلمه يمتد إلى الآفاق وهي التي جعلت حبه يتوقف بتوفق الحلم في يقظته مع توقف حرف المد الصوتي عند انتهائه بالهمزة، وهي التي جعلت المقطع الثاني يركز على حرف الياء صاحب السمة المعروفة بكسره المضعف؛ ليعبر خلاله عن كسر أو هم خطير في واقعه لا يرى صلاحه إلا في حلمه اليتيم الذي لا أب له يخرجه إلى حلم الحقيقة (حلمي، ويسري، ولا أدري، وحبيبتي، ويصلي، ومصيري):
آه يا حلما يتيما
آه يا حلمي
كُلّ شيء يحدق ُمباشرةً في الأبديةِ
في اختلاف الليل و النهارْ
في الموتِ و الحياةْ
كل شيء فيَّ يسري
و النجوم سارحةُ الذهنِ
في جوهرِ مصيري المقدّسِ ..
أمسيت على شرفتها
لا أدري
حبيبتي
ها هو حلمي اليتيم
يقطعُ يدَ السارقِ
يبحثُ عن أعشابه الشافيةِ في عكا
وبياراتِ يافا المقدسةِ
يصلي في مساجد القدس وكنائسها
نعم نحن هنا مع شاعر يتعامل مع الكلمة الشعرية بفطرته الإلهية وتجربته الصادقة مع حبيبته التي جعل معظم إنتاجه الشعري يتغنى بها من واقع حلمه الذي يتمنى أن يرى واقعها الحقيقي خلاله فيها.
هذه الفطرة السليمة هي التي جعلت نهاية قصيدته وكأنها قلعة محصنة تستعصي على الذبح بأسوارها العالية والمتمثلة فنيا بشكل الألف في حروفها:
وأزرعُ تشردي
أشجارًا
راسخة جذورُها
وأغصانها
عالية
تعانق السماء
نحن هنا مع شاعر نادر في تجربته الشعرية الصافية التي تحدق في مرحلة المرآة ومفهوم الحلم والحبيبة ، نحن مع شاعر حقيقي يعيش حلمه ويسعى ليكون واقعا ، نحن مع شاعر يسجل الحلم في قصائد يشقى الكثير في جعل القصيدة حلما، نحن في هذه القصيدة مع شاعر انحنى له الخيال من واقع حلمه، وشاركته اللغة المجازية شاعريته الحالمة في مخاض تجربته الواقعية.
ونحن مع الشاعر نعيش قلق التأثير بين عذابات الحياة ومرارة التشرد، ونقطع يد السارق، ونبحث عن علاج شاف من واقعنا الفلسطيني، ونحلم حلما يتيما لا أب له ، ونتمنى أن يصبح حقيقة بحكم الأب الحقيقي الذي يتبناه ليدافع عن حقه ويقف مواجها ومقاوما لكل المحاولات التي تسعى للإبادة الثقافية وطمس ثقافة الشعوب حتى في أحلامها.