Science and Religion in Islam
فلسفة الأخلاق إطار الحوار بين العلم واللاهوت
Thierry Magnin
يبدو من المفيد أن نبرز وبصفة جلية، دونما حاجة للبحث عن توافق ما أو خلط بين ميداني العلم والدين، العناصر المشتركة بين المؤمن الباحث والفيزيائي. فهل أن الواقع مستتر عن الفيزيائي: إن في الأمر التباسا. فالله بالنسبة للمؤمن المسيحي يطرح نفسه للمعرفة كما يظل متعاليا تماما: يندّ بعض ذلك التعالي عن الإمساك. عديدة هي الأمثلة الأخرى التي يمكن الاستشهاد بها في هذا الصدد. وهي مواقف مدعّمَة ويمكن تحليلها بصفة نقدية من قبل فلسفة الأخلاق التي تمثل إطار حوار متميّز بين العلماء والمؤمنين. وسنؤكد على التأثير الممكن لفلسفة الأخلاق هذه في تربية الناشئة من جهة وفي الحوار المتجدّد بين العلم والدّين، ومن ثمّة الحوار بين الدّيانات من جهة أخرى.
مقدّمـــة
بات من المعلوم أن تطوّر العلوم الصحيحة (الرياضيات وعلم الفيزياء بالخصوص) في القرن العشرين أدّى إلى إعادة النظر في المفاهيم الفلسفية المتداولة كالواقع والمعنى. وأمام بروز تصوّرات جديدة عن التعقيد في الفيزياء الكمية وفي الديناميكا الحرارية لعدم التوازن وفي الكسمولوجيا، أعاد مبحث ابستملوجيا العلوم تعريف مفهوم الواقع عبر العلاقة فاعل – موضوع في البحث العلمي.
فالملاحظ هو جزء من الواقع الذي يحلله. بل إن نظرية القياس تظهر أيضا أن المعرفة والقياس عند الفيزيائي تعني ’’الفعل في الواقع‘‘. إن ’’واقعا من التجاذبات‘‘ هو المطروح للتحليل العلمي، مع إعادة النظر العميقة حول الحقائق الثلاث الخاصّة بالعلموية وهي: حتميّة لابلاص (مفاهيم اللاّمتوقع والشك ) والاختزالية المعرفية (توجد معلومات في الكل أكثر منها في مجموع الأجزاء) والاختزالية المنهجية (اللابتيّة والنقص مع نظرية غوديل). يصبح الإنسان بذلك "مترجم" عالم معقد، وتصبح الموضوعيّة المتشددة للعلوم موضع شك كبير.
تحيلنا هذه التطوّرات الى السؤال التالي: "ما هو الشيء المراهَنُ عليه اليوم في المنهجية العلمية وما هي الاختيارات والقيم التي تختفي خلفه ؟ تأخذ الجملة التالية لإنشاتاين (ذكرها فرانك ضمن مؤلفه عنه) أهمية خاصّة في هذا السياق: "لنعترف أنّ في أصل كل عمل علمي ذي بال يقين يشبه اليقين الدّيني: إمكانية فهم العالم". تعود كلمة يقين إلى الاختيارات الأوليّة وإلى المواقف الأخلاقية للباحث العلمي.
تهدف هذه المقالة إلى تحليل هذه المواقف (ميدان أخلاق المعرفة) وتوضيح أسسها (ميدان فلسفة الأخلاق مع التحليل النقدي للأسس) وتقديم مساهمة فيزيائي حول موضوعة "العلم والوعي اليوم". لذلك سنميّز بين مختلف المستويات: العلم والميتافيزيا وفلسفة الأخلاق.
المنهجية العلمية ضمن لعبة "الإمكانيات المتاحة"
لتقديم بعض العناصر المفاتيح للمنهجية العلمية اليوم، أستعيد بعض الكلمات التي وردت في خاتمة كتاب ف. جاكوب الحائز على جائزة نوبل للطب مع ج . مونو المعنون "لعبة الممكنات" (فايار 1981). وقد درس ف. جاكوب في هذا المؤلف العلاقات القائمة بين العلوم (الصحيحة) والأساطير. وأشار في البداية إلى أن إحدى مزايا المنهجية العلميّة تتجسد في سعيها الكبير إلى تحطيم فكرة الحقيقة المقدسة. كما بيّن انطلاقا من هذه الملاحظة كيف أن الكثير من الأنشطة البشرية (الفنون والعلوم والتقنيات والسياسة) ليست في الحقيقة سوى طرق معيّنة تعتمد كلّ واحدة منها قواعد خاصة "لممارسة لعبة الممكنات". فلا بد إذا من التأكيد أن العلوم والأساطير تقوم في - حدود معينة - بنفس الوظيفة. كلاهما يوفر للعقل البشري صورة معينة للعالم وللقوى التي تسيّره. كلاهما يرسم حقل الممكنات.
’’إن تمثيل العالم الذي يشيده الإنسان، أسطوريا كان أم علميا، يقوم في جزء كبير منه على خياله.... ولكي يقدم الإنسان (في العلم) ملاحظة ذات أهمية لا بد أن يكون له في البدء فكرة عما يريد ملاحظته. لا بد أن نكون قد قرّرنا ما هو الممكن. وهذه النظرة محكومة بتصور ما عمّا يمكن أن يكون عليه الواقع. وهذا يتطلب دائما تصوّرا عن المجهول، عن هذه المنطقة التي توجد مباشرة ما فوق المنطقة التي تسمح التجربة والمنطق اعتقاده. فالتحقيق العلميّ يبدأ دائما بخلق عالم الممكن، أو بجزء منه. وهكذا يبدأ الفكر الأسطوري أيضا. لكن هذا الأخير يتوقف عند ذلك الحد (ص 28)‘‘.
وبعد أن يعرّف المؤلف بالنقاط المشتركة بين العلم والأسطورة والدور الرئيسي الذي يلعبه الخيال في المنهجيتين، ينتقل إلى التأكيد على الاختلافات الجوهرية بين هاتين القاربتين عن الممكن. إن أهم شيء في تحليل ف. جاكوب هو الطريقة التي يسلكها الإنسان "لاختراع المستقبل" من خلال أنشطة مختلفة لكل واحدة منها قواعدها الخاصة، ولكنها تستعين كلّها بالخيال. وتعيدنا خاتمة ف. جاكوب إلى سؤال أخلاقي:
’’يطرح خيالنا أمام أعيننا صورة دائمة التجدّد عن الممكن. وهذه الصورة هي التي نضع على محكّها بانتظام ما نخاف منه وما نتمناه، ونعدّل رغباتنا ونفورنا بالنظر إليه. ولكن وإذا كان من طبيعتنا أن نصنع المستقبل فإن المنظومة مرتبة بطريقة تبقى فيها توقعاتنا بالضرورة غير مؤكدة. لا يمكن أن نفكّر في ذواتنا بدون لحظة تالية، لكن لا يمكننا معرفة ما ستكون عليه هذه اللحظة... عديد التغييرات يجب أن تحصل وسيكون المستقبل مختلفا عمّا نتوقعه. وهذا ما يطبق بالخصوص على العلم. إن البحث سيرورة لا تنتهي، ولا نتصوّر مطلقا كيف سيتطور. فاللامتوقع جزء من طبيعة المشروع العلمي نفسه... لا بد أن نقبل جزءه غير المتوقع وغير المطمئن‘‘ ( ص 118 و 119 )
إنها الصورة التي يتبناها اليوم معظم العلماء المرموقين. وقد سبق أن ذهب بعضهم مثل بوانكاري وهادامارد وهايزنبرغ وبوهر، وبشجاعة إلى الإعلان عن ذلك على رؤوس الملأ.
عندما يواجه العلم تعقّد الواقع
منذ أن أصبح الفيزيائي يواجه مسألة التعقيد في الواقع أصبحنا نرى ضمن الفكر العلمي تحولات عميقة مثل نهاية الحلم عند لابلاص و"نهاية اليقين" وسحب الأسس.
1) نهاية الحلم عند لابلاص
لقد كان الغالب على العلم الكلاسيكي مفاهيم الدّيمومة والاستقرار، والتوقع والحتمية، ومن ثمّة السيطرة. وقد كان لفكرة اليقين في العلم بريق لا يضاهى، لدرجة أنها أصبحت مرادفة لـ " المشاركة في العلم الإلهي". وقد كان لظهور الفيزياء الكمية، والديناميكا الحرارية لعدم التوازن بشكل خاص، وقع كبير في المجال العقلاني لمفاهيم اللاّيقين، والنقص، واللاّبتّية، مفاهيم غيرت أيما تغيير وضع المعرفة، وذلك من خلال المكان الذي تحتلّه الذات العارفة. إن الأمر هنا يمثل تحوّلا حقيقيا للعقلانية العلمية التي لا بد من الإقرار بأثرها على العقليات.
لقد بيّن بوانكاري، وآخرون بعده، أن "الحلم اللابلاصي" حول الحتمية كان سرابا. وإذا كانت قوانين نيوتن، في نظام مؤلف من جسمين في حالة تفاعل، تسمح بأن نتصوّر تماما تطوره طالما كنا نعرف مختلف مكونات مسارات كل واحد من الجسمين، فإن ذلك يصبح متعذرا بالنسبة لنظام مؤلف من أجسام ثلاث، فما بالك بنظام ذي عدد لا محدود من الأجسام. لا مجال إطلاقا للتوقعات ولا حلّ شامل لهذا الإشكال. وبذلك كان بوانكاري هو أول من وضع أسس مفهوم عدم القدرة على التنبؤ الذي يميّز فوضى الحتمية (موقف غير متوقع لنظام تحكمه رغم ذلك قواعد تطور حتمية). وغالبا ما نرى اليوم فوضى الحتمية هذه في الطبيعة. إنّ الحساسية أمام الشروط الأولية يضع حدا نهائيا للحلم الذي عبر عنه لابلاص: وليس لأن النظام يخضع لقانون تطور حتمي بشكل قاطع، حتى يكون هذا التطوّر متوقعا. لا يمكن أن يوجد إذا وصف شامل للواقع، من خلال ما توصلت إليه معارفنا في الوقت الراهن طبعا.
لنؤكد هنا على عنصر في غاية الأهمية. إذا ما قبل العلماء أن يتخلّوا عن حتمية لابلاص وفكرة يقينية الفوضى المُحَدِّدَة واللاّتوقع، فإنهم يكونون بذلك قد فتحوا إمكانيات حديثة جدا أمام ازدهار المعارف. وتبقى فكرة اليقين الوحيدة الجديرة بمقاربة علمية حقيقية. برغم ذلك فقد كان هذا التصور متشائما في الحقيقة، لأن الزمن (وسهمه) لم يكن سوى سراب (أنظر أعمال بريغوجين بالخصوص). إن عدم توفر إمكانية التوقع والفوضى قد أعادت للوقت المكانة التي كانت له سابقا، مما مكنه من دوره البناء لـ"حقيقة غير يقينية" (برنارد ديسبانيا). لم تعد فكرة الاحتمال هنا تقدَم على أنها تعبير عن جهلنا، بل تعبير عن التطوّر نفسه. أما غياب التوازن فيعطي فكرة عن الإمكانيات الكبيرة التي تتيحها المادّة. وهذا التغيير في الرؤيا للعالم لا يمكن أن يبقى بلا تأثير على موقف العالم نفسه ! فالكون – بالنسبة إلينا – ليس معطى بل هو بصدد التكون.
2) شيء ما ينفلت
إن ادعاء ’’كمالية‘‘ الخطاب العلمي، الذي يسير بالتوازي مع التمسك بالمطلق، يفترض بالخصوص توفر لغة قادرة على التعبير عن الواقع كاملا. لكن الدراسات التي أجراها فتغنشتاين على سبيل المثال تظهر أن البنية المنطقية للغة لا يمكن التعبير عنها داخل اللغة نفسها. أي إن ما نتصور بواسطته أو ضمنه غير قابل للتمثل (لا يمكن التعبير عنه). يوجد فيما بعد اللغة ما لا نستطيع التعبير عنه. ألا يعني قبولنا بوجود شيء دقيق يندّ عن الوصف أننا فتحنا الباب أمام السؤال المتعلق بالمعنى مع الاعتراف بحدوث الإنسان في نفس الوقت ؟
إن العلم الكلاسيكي مع أنه يحلم بإمكانية للتوقع التام، كان يؤكد رغبته في بناء نظام عرض شامل. لكن أعمال غودل جاءت لتضع حدا لهذه الادعاءات. تبرز نتائج غودل باختصار وجود مقترحات غير قابلة لأن تصبح نهائية، ومقترحات حسابية صحيحة لا يمكن أن تصبح مسلّمات وشروح صحيحة غير قابلة للإثبات. ويتبع ذلك أنه لا يمكن لأي نظرية أن تكون من يثبت متانتها، كما أن الوصف التام للذات مستحيل منطقيا. فالمتانة تشترط النقصان، والشعور بالكمال لا يحصل إلا على حساب المتانة: هنا أيضا، كم هو هام هذا التطور.
إن الفيزياء الكمية هي الساحة المميزة لإظهار الشعور بالنقص، ولإظهار هذا "الشيء الذي يينفلت عنا". فالفيزياء المجهرية تذكّر بأن الإنسان ليس ذلك المتفرج المستقل عن الواقع الذي يستكشفه، بل هو جزء لا يتجزأ منه (إننا في "العالم"؛ إننا "في الظرف "). فالواقع الذي تصفه الفيزياء غير مستقل عن طرائق الوصف. وليس ذلك فقط لأن الإنسان هو واضع المفاهيم والنظريات كما نعلم، بل لأن القياس والمعرفة هي الفعل في الواقع، أو بالأحرى التفاعل معه. إن تفاعلا مثل هذا يشوش بالضرورة على الموضوع، ويستتبع ذلك أن كل عملية قياس تشوبها نسبة تذبذب معلنة لا يمكن تفاديها، في شكلانية الميكانيكا الكمية، عبر علاقات الشك (اللاحنمية) لهايزنبرغ. يظهر المشكوك فيه مشارك للتوسع نحو المعرفة التي نحصل عليها عن الواقع. هناك عائق حقيقي يعترض معرفة الموضوع الكمي. فشيء ما يظل منفلتا، وبرغم ذلك فإن المعرفة تتقدم أيضا بالقبول الإيجابي لهذا الشعور بالنقص. أؤكد على القول: " القبول غير السلبي" لأن صراع انشتاين لإيجاد ثغرات في النظرية الكمية (البحث عن المتغيرات الخفية) دفع بالمعرفة للتطور.
إن شيئا ما، مما له علاقة بالأصل يظل عصيّا. والظاهر أن كلا من دراسة الكلام عند فتغنشتاين وتلك المتعلقة بالمنطق لغودل، ودراسة بنية المادة لدى هايزنبارغ أو تلـك الخاصّـة بالتطوّر غير القابل للتراجع لبريغوجين، تخلص كلها إلى نفس الإحساس بالنقصان، نفس أفق اللاقرار، ونفس استحالة تحديد الحقيقة في مجموع ما يقال، ما يمكن إثباته بشكل حاسم أو تقييمه في الحال. إن الاعتراف أن شيئا ما يمكن تقعيده يعني الاعتراف أيضا أن مناحي من هذا الشيء تبقى مستعصية بالضرورة. إن وضع أسس لنظرية في المعرفة يؤدي إلى الاعتراف أن شيئا ما يندّ عنا. وهذا لا يعني فشل العقل، بل إن ذلك شرط للتطور، شرط للإدراك.
إن المفاهيم الكلاسيكية المتمثلة في السببية الخطية والاختزال والكمال والاستقرار تركت مكانها لمفاهيم التأثر بالظروف الأولية ورفض الاختزال والنقصان والشك واللاإستقرار وغير القابل للتصغير. والعلم المعاصر يدعونا إلى الإستفادة من إيجابية مفهوم النقصان هذا، الذي بدأ يظهر كشرط للمعرفة. يتعلق الأمر هنا بانفتاح على سؤال المعنى وكذلك على مكانة الذات في عملية اكتشاف العالم الذي تنتمي إليه. إن ذلك يؤكد أن التطور في مستوى المعرفة العلمية يترجَمُ بالانتقال من اليقين إلى الشك، وهو ما يرجع الإنسان إلى ظرفيته وطبيعته الفانية.