شارل بودلير (1821-1867)
شاعر وناقد فني فرنسي.
يعتبر بودلير من أبرز شعراء القرن التاسع عشر ومن رموز الحداثة في العالم.و لقد كان شعر بودلير متقدما عن شعر زمنه فلم يفهم جيدا الا بعد وفاته.
يوميات بودلير
أن تقرأ يوميات بودلير يعني أن ترى الحياة بعين شاعر حقيقي ، يكتب كما يعيش ويعيش كما يكتب .. أن تُستلب بالتأملات والرؤى البكر التي قُدر لها أن تصلنا (على الأرجح) في صورة الدفق الأول ، وذلك لأنها نُشرت بعد وفاة كاتبها بعشرين عاما ، ما يعني أنه لم يتح له أن يشذبها أو يجري عليها عمليات تجميل .. يتبدى لنا بودلير في هذه اليوميات (وكما يصفه مترجمها إلى العربية الشاعر التونسي آدم فتحي) كأوضح ما تكون الرؤية : يفكر ويشك ، يحسم ويتراجع ، ينحاز ويتخلى ، يهجم ويدافع ، يمدح ويهجو ، يقارع الحجة بالحجة ، ويتخذ لنفسه موقعا من كل ما حفل به عصره (بودلير عاش في الفترة ما بين عامي 1821 و 1867) ، هذا العصر الذي نضح بمتغيرات عدة ، وعج بأسماء لامعة في الفكر والفلسفة والعلوم والأدب (هيجل ، كانت ، كارل ماركس ، فكتور هوجو ، فلوبير ، أوغست كونت ، داروين ، شوبنهاور .. الخ) ولعل هذا ما يصنع لهذه اليوميات أهميتها التاريخية .. قد نشاطر بودلير اعجابه بـ (ادجار ألان بو) أو (أوفيد) أو (فاجنر) ، وقد لا نشاطره سخريته من فولتير وموليير وجورج صاند ، لكننا نسجل له أنه مارس حريته في قول مايريد (بل وفعْل ما يشاء) ومضى ، هو الذي يتحدث في يومياته عن أن الروح تمر بحالات تكاد تكون فوق طبيعية ، يتجلى أثناءها عمق الحياة بأكمله في أي مشهد يتاح للعين مهما كان عاديا .. ان النظر إلى عمق الحياة هي مهمة الشاعر الحقيقي .. لكن الشاعر لا بد أن يكون انسانا قبل كل شيء ، بما يحمله هذا الانسان بداخله من تناقضات صارخة : الحب والكراهية ، الصدق والكذب ، الخوف والاقدام ، النبل والخسة ، الغموض والوضوح .. ان المواءمة بين الشرط الشعري والشرط الانساني هي التي تصنع الشاعر الحقيقي أو ما يسميه بودلير (الداندي) نسبة إلى (الدانديزم) الذي يعرفه بودلير بأنه المعادلة الخيميائية التي بفضلها يلتحم الشاعر بالانسان لانجاب الكائن الأسمى : الداندي .. هذا الداندي عليه ، حسب بودلير ، أن يعيش ويموت أمام مرآة ، وأن يكون عظيما في نظر نفسه قبل كل شيء اذ أن (الأمم لا تنجب العظماء الا مرغمة .. اذن لن يكون الرجل عظيما الا اذا انتصر على أمته جمعاء) ، كما أن الداندي عاشق للفن والجمال ، ولكن ليس الجمال النمطي المكرس والقار .. الجميل عند بودلير هو شيء ما متأجج وحزين ، شيء ما يفسح المجال للتخمين .. ويجعل من شروطه الغموض والندم ، ويضيف اليهما شرط التعاسة .. وهو بذلك لا يزعم أن الفرح لا يجتمع مع الجمال ، لكنه يعتقد أن الفرح حلية من أكثر حلي الجمال سوقية ، بينما الكآبة هي اذا صح القول قرينة الجمال الرفيعة إلى الحد الذي لا يتصور معه بودلير نموذجا للجمال لا تسكنه التعاسة
• * *
شذرات من يوميات بودلير
•
o عندما يأوي المرء إلى فراشه ، تتمثل الرغبة الدفينة لجميع أصدقائه تقريبا في أن يروه يموت .. بعضهم للوقوف على أن صحته كانت أسوأ من صحتهم .. والآخرون يخامرهم أمل ما ، في معاينة الاحتضار .
• * *
o ما من فتنة للحياة حقيقية غير فتنة اللعب .. ولكن ماذا لو كنا غير مبالين بأن نكسب أو نخسر ؟.
• * *
o فيما يختص بالنوم ، تلك المغامرة الكئيبة لكل ليلة ، كان يمكن القول ان الناس ينامون يوميا بجرأة غير معقولة ، لولا أننا نعرف أنها جرأة الجاهل بالخطر .
• * *
o يقال ان عمري ثلاثون سنة .. ولكن اذا عشتُ ثلاث دقائق في كل دقيقة ، ألا أكون في التسعين ؟
• * *
o الانسان يحب الانسان ، إلى حد أنه لا يهجر المدينة الا ليبحث عن الحشد مرة أخرى ، أي ليعيد صنع المدينة في الريف
• * *
o يبدو لي الانسان المتعلق بالمتعة ، أي بالحاضر ، في هيئة رجل متدحرج من عل ، أراد أن يتشبث بشجيرات ، فاقتلعها وجرفها معه في سقوطه
الحافة
ـــ ت.خليل يوسف فريجات
"خيبة مستديمة في الحب والحياة، حملت الشاعر بودلير، على الاحتفاظ بطعم المرارة في ثنايا فيه.
ومن خلال هذا الحرمان والكبت والآلام، تنشأ أزاهير جد نادرة، تتخلل أجمل أشعاره، أنها أزاهير الشَّر".
(قامت بتحقيق هذا الملف آن برونسويك Anne Brunswik
في العدد /185/ لشهر شباط 1991 من مجلة لير الفرنسية Lire).
بودلير غير راض عن كل شيء حتى عن نفسه
منطلقاً من عقل الطفولة، أخذ بودلير بالتشرد والسعي نحو الملذات المحرمة، فأصيب بالزهري، وبدد إرثه وراء هواه، بحجة رغبته في عيش حسن.
كان يردد دائماً: أنا مريض، خلقي رديء، أنا كريه ومقيت جداً، ويعود ذلك إلى خطا أهلي. جئت إلى الحياة بسببهم. وهذا ما يكون عليه ابن أم عمرها 27 سبعة وعشرون عاماً، وأب عمره 72 اثنان وسبعون عاماً. إنه اتحاد غير متزن، مرضي، شيخوخي.
لا شك أن الشاعر متطرف بكلامه، ويعطي والده زيادة عشر سنوات في عمره. وما يمنع أن يولد شارل بيير بودلير من رجل مسن، في التاسع من شهر آذار عام 1821 في باريس في شارع هونغوي Hautefewille ويدعى هذا الرجل المسن:
فرنسوا بودلير "وهو كاهن ترك الرهبانية خلال الثورة، ووظف في الإدارة، ويتقن اللغة اللاتينية والرسم. ومات ولم يكن عمر ابنه شارل سوى ست سنوات، مخلفاً لدى ابنه ميلاً للرسم، وأما فتية أنيقة، تدعى كارولين دوفايي، التي أصبحت بطبيعة الحال أرملة.
أخلص شارل الصغير لوالدته جد الإخلاص، حتى أنه كتب مرة لأحد ناشري قصائده: "ما الذي يجعل الطفل يتعلق بأمه ويشده؟ هل هو هندام الساتان الجميل؟ أم العطور والحلي؟.. إن حب الأم ثابت لا يتبدل.
وقد كتب لأمه مرة: "أنا أحيا بحنانك، أنت لي وحدي، لقد كنت لي مثالاً ورفيقة" وقد بقي على احترامها طوال حياته، حاملاً كلماته العذبة في جيوبه، يردد قراءتها مستعيداً حبه وتعلقه بأمه.
وعلى الرغم من هذا الحب المتدفق، فإن أمه كارولين بودلير أهملته، وتخلت عنه، وتزوجت ضابطاً وسيم الطلعة يدعى أوبيك Aupick. كان يصبو إلى مراتب عليا، وأعطي فعلاً أن يصبح عضواً في مجلس الشيوخ في الإمبراطورية الثانية. وهكذا استطاع أن يباعد بين بودلير وأمه، ويحل هو محله قرب أمه الغالية.
قدر إذاً لبودلير، أن تمهر حياته كلها بإهمال مضاعف: "موت والده وخيانة والدته". إنه ابن عائلة محترمة، إنه ذكي، لكنه لا يحب العمل كثيراً. أدخل مدرسة داخلية في ليون. واحتمل البقاء فيها عدة سنوات. لكنه أنهى دراسته في كلية "لويس الكبير" ونال الجائزة الثانية في الشعر اللاتيني. وطرد منها أخيراً لعدم انتظام سلوكه.
احتار بودلير في تنظيم مراحل مستقبله، ولم يرض بعمل ملحق في سفارة عرض عليه. فازداد ميله إلى التشرد، وأضاع عمره في صداقات خائبة، وعاشر كثرة من نساء رخيصات ذابلات، لأنه قال مرة: بئست ليلة ليلَة قضيتها مع يهودية بشعة تدعى سارا، وهي بالإضافة إلى بشاعتها كانت قصيرة النظر".
وعلى الرغم من كل هذا، لم يتخل عن نفسه ولم يهملها كلياً، وقد سمع يقول: "أتي الجرح والسكين والضحية والجلاد".
فلقت عائلته من طيشه وعشرته الرديئة، وعزمت على إرساله إلى الهند، في رحلة صحية نفسية.
فأبحر في العاشر من شهر حزيران عام 1841، بباخرة بحر الجنوب، لكن غرابة أطوار الشاعر الفتى كانت تجلب إليه انتباه المسافرين. إذ كان يجب على كل مسافر حال انطلاق السفينة، أن يمسك بحبل عند صعود درجات السلم. أما هو فقد مانع، لأنه كان يحمل تحت إبطه رزمة كتب. قدمت له كأس من الشاي، شربها وبقي ممسكاً برزة كتبه.
قطع سفره في جزيرة موريس Maurice (جزيرة استقلت عام 1968 مساحتها 1865 كم2 عدد سكانها 822350 نسمة) ثم في جزيرة بوربون (من مجموعة جزر الروينيون) وعاد من سفره محملاً بالصور والعطور، والأشياء الغريبة المجلوبة، محاولاً نسيان ما يكتنفه من آلام ووحدة، بعد أن أصبح فريداً نائياً أشبه بأمير السحب الذي وصفه هو بقوله: "إنه يعيش في العاصفة، ويسخر من رامي السهام، إنه منفي على الأرض، وسط الهزء والسخرية، تمنعه أجنحته القوية عن الارتفاع، بل عن المسير."!!
غريب متأنق شاذ
لدى عودته من سفره القصير، حاول أن يرجع لإرث والده، وابتسمت باريس لهذا المتأنق، وكأنه أسطورة. وأخذ الناس يتقولون: انظروا إنه عائد من الهند، شعره أسود لامع، نظراته وقحة، هيبته معتبرة، وبدأ هذا المتأنق يرتاد المقاهي الليلية الساهرة والمراسم أحياناً، وكواليس المسارح.
أعياه التجوال وأضناه. وهد جسمه. فكر بحل فارتبط أخيراً بامرأة جميلة جذابة سمراء، قادمة من إحدى الجزر تدعى جان دوفال Jeanne Duval إنها خلاسية، لا كثيرة السواد، ولا كثيرة الجمال، حسب قول بعض أصدقاء الشاعر.
والمصور الشهير فيلكس نادار (1820-1910) أحبها حالما شاهدها. أحبها بسبب تكوين جسمها. ويذكر أحد أصدقاء بودلير يدعى تيودور دوبانفيل (شاعر فرنسي (1823-1891) قال عنها: إنها فتاة ذات لون جميل، وقامة هيفاء، تمشي كملكة، كلها ظرف وكياسة، لديها مسحة إلهية وبهيمية في آن واحد معاً.
لقد أسر ابنة المسرح المسكينة، بذخ وترف ذاك الذي يبدل دون توقف أثاث بيته، بأثاث أجمل حسب طلبات وتقلبات قلبه ميوله، في سكنه في جزيرة سان لويس وتدعى اليوم رصيف Béthune.
أوصلته تحركاته وتقلباته حياته وطيشه إلى القضاء، وبعد بحث دقيق وتحقيق قال له المسؤولون: قف، وإذا كان هذا الفتى يعتقد أنه غني، فإن واجبنا يدعونا أن نذكره بمبادئ تحرك بورجوازي سليم. وفي النهاية وضع بودلير تحت وصاية قضائية في 30 من شهر أيلول عام 1844.
أصبح وضع بودلير مؤلماً، لأنه سيبقى طوال حياته قاصراً وتحت إشراف القانون والسيدة أنسيل Ancelle الكاتبة بالعدل في نويّي Neuille هي المكلفة بمراقبته.
اعترض بودلير على هذا التدبير القاسي، لكنه خضع أخيراً للوضع الذي اختير له.
وفي سن الثالثة والعشرين، بدأ جحيم حياته. ها هو بودلير بين أيدي الدائنين والمرابين، ولن يفلت منهم أبداً.
وعندما بدأت دور النشر تدفع بكرم وسخاء ثمن مسلسلات للإمارتين (الفونس دو لإمارتين شاعر فرنسي (1790-1869) وشاتوبريان (فرانسوا رينيه دوشاتويران كاتب فرنسي 1768-1848) وفيني (الفرد دوفيني كاتب فرنسي (1797-1863) مسلسلات تسنموا بها قمة المجد. اغتاظ بودلير من كل هذا وحتى من نفسه، وبدأ العيش بانحراف كبير، ورفضت حتى الصحف البسيطة الصغيرة نشر مقالاته وقصصه. وأصبح دون مأوى ولا مكتبة، ولا يعترف عليه أحد من الكتاب. فغير مأواه أربع عشرة مرة بين عامي 1842-1858 وخلال شهر آذار فقط عام 1855 غير الفندق ست مرات.
كان مولعاً بالرسوم. فاشترى منها الكثير وبأوقات متفاوتة. وأخذ يرتاد المتاحف ويجرؤ على مديح من يعتقد أنهم فنانون حقاً.
باريس في الليل
كان الرسال أوجين دلاكروا Delacrwx (رسام فرنسي، زعيم المدرسة الرومنسية 1798-1863) ينتقد بودلير، لكن هذا كان يحترمه وقد قال عنه: دولاكروا هو الرسام الأصيل في الأزمنة القديمة والحديثة. وكتب في إحدى مجلات دولاكروا عام 1845 نصاً أدبياً، وقعه باسم بودلير دوقايي، لكن هذا النص لم يدر بقرش واحد على مؤلفه. وها هو بودلير يجري في شوارع باريس ويدرج على أرصفتها، ساعياً وراء كمال الشكل نحو طبيعة مجهولة. فقيل عنه أنه ماهر في الفن، وبخاصة في عزف الموسيقى. ونظم السونيتة، التي هي قصيدة من أربعة عشر بيتاً، وصقل وبالدقة نفسها قصائد نثرية. ومنها: "من منا في أوقات طموحة، لم يحلم بمعجزة نثر شعرية وموسيقية دون قافية أو وزن، عادية يمكن أن تحرك خلجات النفس الشعرية، وتموجات الخيال وانتفاضات الضمير".
هاهو يتجول وبعناد ليلاً ونهاراً. إنه يحب عاصمة بلاده التي أخذ البارون جورج أوجين هوسمان (رجل سياسة فرنسي 1809-1891 أعطى باريس جمالها الحالي) بتبديل معالمها عام 1859، فكان يرتاد الممرات المسقوفة والحوانيت التي تغلق متأخرة، يشترك بجلسات مطولة في المقاهي، ويناقش دون حدود الفن والسياسة، مع ابتسامة ساخرة، تصدر أحياناً عن شفتيه.
بندقية في يده
كان يقرأ أمام كأس من الشراب قصائده لجلسائه. وكانت الصحف الكبيرة تتردد بل تبخل عليه في نشر أزاهير الشر. لذا كان يعوض عن الصحف، ويقصها هنا وهناك.
وأعطي في شهر تشرين الثاني عام 1848 لمجلة كان يقال لها "صدى بائعي الخمور، قصيدة ألفها بعنوان "خمر القاتل".
سماعه بالثورات بفرحه، وهي بالنسبة إليه مسارح صغيرة ومجال لبيان حقده على الجنرال أوبيك زوج والدته. ووجد مساء يوم 24 شباط 1848 في أحد شوارع باريس وبيده بندقية صارخاً ومهدداً: يجب إطلاق النار وقتل الجنرال أوبيك.