محمد طه.. صاحب الـ10 آلاف موال
--------------------------------------------------------------------------------
هو أحد ملوك "الأرقام القياسية"، فقد غنى نحو 10 آلاف موال كثير منها ارتجله من وحي اللحظة بدون إعداد سابق! كان يؤلف ويلحن ويغنى، كما كان صاحب فرقة موسيقية وشركة اسطوانات، لكن إنجازه الحقيقي هو أنه كان "محمد طه" الفنان التلقائي الذي لم يقلد أحداً، ولم يجسر أحد على محاولة تقليده، ليبقى "رقماً" وحده في كتاب الفن.
عندما سألوه ـ وكان في بداية الطريق ـ عن جمهوره قال: أغني للطبقة تحت المتوسطة، أنا مطرب "بلدي" لا "شعبي"، أغني للريفيين المواويل التي تسعدهم وتجعلهم مستعدين لمواصلة السماع حتى لو غنيت شهراً كاملاً.
وفي سنة 1964 كتب "محمد طه" بخط يده وثيقة تعريف محفوظة في أرشيف "دار الهلال" بالقاهرة حتى الآن، الملفت فيها أنه سجل اسم شهرته باعتباره "الأستاذ محمد طه"، فهو ـ في نظر نفسه ـ أستاذ، حتى وإن كان قد دون في الوثيقة نفسها أنه لا يحمل مؤهلاً أكثر من "إجادة القراءة والكتابة". أما بقية البيانات فتقول إن طوله 168 سنتيمتراً، ووزنه 85 كيلوجراماً!
اسمه "محمد طه مصطفى أبو دوح"، ولد في بلد أبيه "طهطا" بصعيد مصر في 24 من سبتمبر1922، ونشأ في بلدة أمه "عزبة عطا الله سليمان" بقرية "سندبيس" التابعة لمركز "قليوب"، وهو مركز ريفي بسيط يقع على مشارف القاهرة، بلدة تركت أبلغ الأثر في نفس "محمد طه" طفلاً وصبياً ورجلاً، وظل وفياً لأهلها.
في "كُتَّاب" القرية تعلم القراءة والكتابة، ولم يتح له شظف العيش الاستمرار في التعليم أكثر من ذلك، حيث اضطر وعمره 14 سنة إلى العمل في أحد مصانع النسيج بمدينة "المحلة الكبرى"، وكان أول أجر تقاضاه 23 مليماً في اليوم (الجنيه المصري يساوي 1000 مليم)، وفي المصنع ظهرت موهبته، حيث كان يغني للعمال في فترات الراحة.
وفي 1940 انتقل من العمل في "المحلة الكبرى" إلى مدينة "كفر الدوار" القريبة من الإسكندرية، كأنه يواصل مسح دلتا نهر النيل، من "قليوب" طرفها القريب من القاهرة، إلى "كفر الدوار" طرفها الآخر، مروراً بعمقها في "المحلة الكبرى. وفي "كفر الدوار" بدأ "محمد طه" يؤلف ويلحن مواويله الخاصة. ولم يطل مقامه فيها، إذ استدعاه الجيش للتجنيد الإجباري في القاهرة، وهي خطوة أدخلت السرور على قلب أبيه الذي رأى في التجنيد فرصة ليبتعد ابنه عن طريق "الغناء" والسمعة التي لحقت به، لكن التجنيد قربه أكثر من الغناء، وكان فرصة للتعرف على مسارح الفن الشعبي في القاهرة، ومنها مقاهي حي "الحسين" و"السيدة زينب" التي كان يغني فيها أثناء الاحتفال بـ"الموالد" والمناسبات الدينية، وفي سنة 1954 تصادف أن استمع إليه الإذاعيان الكبيران "طاهر أبو زيد" و"إيهاب الأزهري" وهو يغني في مقهى "المعلم علي الأعرج" بالحسين، واصطحباه إلى الإذاعة حيث قاما بتسجيل عدد من مواويله، لكن "محمد حسن الشجاعي" رئيس لجنة الاستماع قرر أن صوته لا يصلح للميكروفون.
وأعاد "زكريا الحجاوي" فتح باب الأمل حين ضم "محمد طه" إلى "فرقة الفلاحين للفنون الشعبية" التي كلفته "وزارة الثقافة" بتشكيلها.
بعد ذلك كان الإذاعي الكبير "جلال معوض" يستعد للسفر إلى غزة لإقامة إحدى حفلات "أضواء المدينة، وطلب من "محمد طه" أن ينضم إلى الفريق المسافر لإحياء الحفل. كانت الرحلة اختباراً حقيقياً نجح فيه بتفوق، فما إن اعتلى المسرح حتى استحوذ على مشاعر الجماهير التي راحت تعبر عن إعجابها، وكعادته في الوفاء للأماكن ظلت "غزة" بنداً ثابتاً على سجل رحلات "محمد طه"، وقد ذهب إليها للمشاركة في احتفالات الإفراج عن "الفريق أول يوسف العجرودي" حاكم غزة الذي أسره الصهاينة، وغنى له من تأليفه موالين، يقول الأول:
يا رايح فلسطين حود على أهل غزة
تقعد مع أهل الكمال تكسب وتتغذى
وسلم على يوسف حاكم قطاع غزة
وقل له إحنا البواسل
سيوفنا في قلب اليهود غازة
والموال الثاني يربط بين الرئيس جمال عبد الناصر ويوسف العجرودي:
الشعب كله جمال.. وجمال مع يوسف
ودخلت كرم الحبايب فيه رمان مش يوسف
وكنت مأسور عليك ميت (مائة) سور يا يوسف
والرب نجاك وشفنا رؤاك يا يوسف
وهو موال رباعي ـ أي من أربع شطرات ـ يستعرض فيه "محمد طه" قدرته على الارتجال، مع التورية والجناس ـ وهما من لوازم الموال ـ فـ"جمال" تعني جمال الصورة والأخلاق، كما تعني "جمال عبد الناصر"، وأيضا الجمال الذي اشتهر به يوسف عليه السلام، و"يوسف" من معانيها كذلك البرتقال اليوسفي، ويوسف العجرودي المحتفى به.
ومع نجاحه في غزة كان طبيعياً أن يكرر "جلال معوض" الاستعانة به، وهكذا اصطحبه إلى حفل أضواء المدينة بالإسكندرية، وفي الحفل رأى "محمد حسن الشجاعي" تجاوب الجمهور معه، فلم يملك إلا أن قال له: "الآن اقتنعت بك"، وأجازه للغناء في الإذاعة وأعطاه أغنية تقول كلماتها:
فلاح فالح في زراعتي
شهد المحصول بفلاحتي
وحكومتي رفعت قيمتي
وادتني الأرض بتاعتي
فلاح.. فلاح
ولمزيد من التحدي، لم يكتف "محمد طه" بغناء الكلمات بل لحنها بنفسه، ومعها سمع الجمهور صوته للمرة الأولى عبر أثير الإذاعة سنة 1956.
لكن عقد الخمسينيات حمل مزيداً من التحديات للفنان الذي رأيناه يعرف نفسه بأنه "الأستاذ محمد طه"، والذي توجه إلى نقابة الموسيقيين طالباً القيد في سجلاتها، لكنه فوجئ بالنقابة ترفض طلبه لأنه لا يحمل مؤهلاً دراسياً، ولم يستسلم "الأستاذ"، كان يدرك أنه يخوض معركة إثبات الوجود، لهذا تظلم من قرار الرفض، وحسب اللوائح شكلت النقابة لجنة لاختباره رأسها عازف الكمان الراحل "أنور منسي" الذي سأله: ما الذي يثبت لنا أنك فنان؟ فغنى ـ مرتجلاً ـ:
أنا في محكمة العدل أصل العدل للعادل
واسمع يا منسي أنا مش منسي وفي الكلام عادل
وإذا حكمتم يكون الحكم بـ"العادل"
أنا اسمي عدل الكرام محمد أبو طه
أبو نفس عالية ما عمره في يوم وطاها
وعلى الفور وافقت اللجنة على قيده في النقابة.
وعلى الرغم من قبوله في الإذاعة وقيده في نقابة الموسيقيين ظل "محمد طه" يحتفظ بعمله في مصنع النسيج، باعتباره مصدراً مضموناً لدخل ثابت، لكن غيابه عن العمل تجاوز الحدود مع انخراطه في عالم الفن وتحوله إلى فقرة ثابتة من فقرات أي حفل عام يقام في مصر، منذ اختاره "وجيه أباظة" ـ وكان مشرفاً على حفلات القاعة الشرفية لأرض المعارض (دار الأوبرا حالياً) ـ مع الفنانة "نجاة" والمونولوجست "عمر الجيزاوي ليغني في الاحتفال بعيد الثورة أمام جمهور يتقدمه جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وكمال الدين حسين وغيرهم من القادة، وغنى "محمد طه" موالاً من تأليفه يقول:
هيا بنا يا شباب الجيش طالبنا
أحمد عرابي زارع شجرة مطالبنا
ومحمد نجيب وجمال حقق مطالبنا
يا نموت يا نعيش بس ننول مطالبنا
استمرت الاحتفالات 10 أيام، وكان أجره عن المشاركة فيها 60 جنيهاً بالتمام والكمال، تبرع بها كلها لصالح تسليح الجيش، وفي الوقت نفسه تلقى خطاباً من المصنع يستدعيه لأنه تغيب 93 يوماً بدون وجه حق، وفي المصنع خيروه بين الانتظام في العمل وبين الاستقالة، فاستقال وحصل على 23 جنيهاً قيمة مكافأة نهاية خدمة عامل النسيج "محمد طه مصطفى أبو دوح".
لم يتوقف طموح "محمد طه" عند حد، فقد كون فرقته الموسيقية الخاصة "الفرقة الذهبية للفنون الشعبية" وضم إليها أخاه "شعبان طه" الذي يشبهه تماماً، والذي كان يلعب دور "البديل" له في الغناء، حيث يغني بدلاً منه إذا كان مطلوباً للغناء في مكانين في الوقت نفسه، كما ضمت الفرقة عازفين للناي والأرغول والكمان والعود والطبلة، وهي الفرقة التي ظلت تلازمه في كل حفلاته وأسفاره وأيضاً في الأفلام التي شارك فيها.
سمى الشقة البسيطة التي كان يسكنها في حي شبرا "بيت الفن الشعبي"، وكون شركة لطباعة اسطواناته سماها شركة "ابن البلد"، مؤمناً بأن الموهبة التي يتمتع بها هي منحة من الله عليه أن يؤدي شكرها بتكريس حياته من أجلها، وهو ما ظل يفعله ـ بدأب عامل وصبر فلاح ـ منتقلاً من نجاح إلى آخر، حيث شارك بالغناء في 30 فيلما، منها: ابن الحتة، بنات بحري، أشجع رجل في العالم، خلخال حبيبي، شقاوة رجالة، السفيرة عزيزة، الزوج العازب، دعاء الكروان، المراهق الكبير، ملك البترول، زوجة ليوم واحد، رحلة العجائب، دستة مجانين.
وليست مصادفة أن أول فيلم شارك فيه كان "حسن ونعيمة" ـ 1958 ـ المأخوذ عن موال "حسن ونعيمة"، وهو موال طويل يحكي قصة حقيقية وقعت أحداثها في "بني مزار" بمحافظة المنيا سنة 1905، حيث كان حسن شاباً من أسرة كريمة تعلق بالغناء واشتهر به، وكان الغناء عاراً تأنف منه العائلات، لهذا رفضت عائلة "نعيمة" الفتاة الحسناء التي أحبها أن تزوجها له، وعندما أصر قامت العائلة باستدراجه وذبحه نفوراً من عار مصاهرة مغنٍ.
القصة ـ التي تحمل تفاصيل ثرية ـ صاغها "الحاج مصطفى مرسي" أفضل وأشهر من كتب المواويل، في كلمات آسرة، وصور خلابة، منها قوله عن ليلة غنى فيها "حسن":
غنى الكروان وألحان الغرام شبابيك
طلعوا البنات في العلالي (الأعالي) وفَتَّحوا الشبابيك
قالت نعيمة غرامي يا حسن شبابيك
ولاحظ أن "شبابيك" الأولى تشير إلى التشبيب، والثانية تعني النوافذ، أما الثالثة فهي تعني شبَّ بك (أي نما بواسطتك أو بسببك).
ومن المواويل القصصية التي اشتهر بها "محمد طه"، موال "ياسين وبهية" وهو موال كتبه مؤلفه المجهول في 1927 بعد حادث مصرع "السير لي ستاك" قائد قوات احتلال السودان، وإصرار بريطانيا على أن تسحب مصر قواتها من السودان، وكانت "أسوان" هي نقطة تجمع القوات المصرية العائدة في معسكر يقوده "اللواء صالح حرب باشا"، وشاء سوء حظ "ياسين" الفلاح الثائر أن يضعه في طريق "اللواء صالح" الذي كان يبحث عن بطولة فقتل "ياسين" بحجة أنه "مطرود" أي هارب من العدالة.
وقد بلغت حصيلة المواويل التي غناها "محمد طه" 10 آلاف موال، منها 350 موالاً سجلتها الإذاعة، وبعضها مسجل على اسطوانات وشرائط. مواويل معظمها من تأليفه، ومنها ما هو "مرتجل"، مثل ذلك الموال الذي غناه أمام عميد الأدب العربي "د.طه حسين" فأعجبه، وسأله عن مؤهلاته الدراسية، فقال "محمد طه بخفة ظله التي اشتهر بها: لا أحمل إلا شهادة الميلاد وشهادة الخدمة العسكرية. وعقب العميد: لكنك تحمل شهادة ربانية أكبر من الليسانس في المواويل!
في صباح اليوم الذي توفي فيه ـ 12 من نوفمبر (تشرين الثاني) 1996 ـ خرج محمد طه من بيته، في حي شبرا الشعبي، لشراء أغراض للمنزل، وفي الشارع داهمته أزمة قلبية نقل بسببها إلى مستشفى "معهد ناصر" حيث توفي بعد ساعات، تاركاً سيرة طيبة، وتراثاً فنياً عريضاً، وبعض العقارات والأملاك، و8 أبناء، أكبرهم "صالح" وهو الوحيد الذي ورث جمال الصوت عن أبيه، وغني في برنامج تليفزيوني مرة واحدة وعمره 16 سنة ثم منعه أبوه.
وهكذا استطاع "محمد طه" أن يحتفظ ببساطته حتى اللحظة الأخيرة من حياته، ولم تفلح النجاحات المتصلة التي حققها في أن تجعل الغرور يتسرب إلى قلبه، فقد ظل فلاحاً يحيا حياة أولاد البلد الذين ينتمي إليهم، وعلى المستوى الشخصي كانت أحلامه ـ كما كتب في وثيقة التعريف التي أشرنا إليها من قبل ـ تنحصر في أن "يعيش مستوراً ويموت مستورا". كان يحلم بأن يبني مسجداً في قريته، وهو ما حققه في السبعينيات، كما حلم بامتلاك أرض يزرعها في قريته، وحقق الحلم، ولو سألت كل الفلاحين في مصر عن أحلامهم لما خلت إجابة واحدة من حلم بناء المسجد وحلم امتلاك قطعة أرض، وهكذا كان فناننا وجدانه هو وجدان جمهوره، أو كما قال عن نفسه "أنا نبت من طين الأرض".
وفي 3 من سبتمبر 1961 كتب الأستاذ "جليل البنداري" في "أخبار اليوم" مقالاً عن "محمد طه" عنوانه "براندو بالطربوش والجلباب البلدي" قال فيه:
"استيقظت من النوم على مظاهرة في شوارع بيروت، وفتحت نافذة غرفتي بالفندق لأرى المطرب الشعبي المشهور محمد طه وهو يمشي في الشارع بجلبابه البلدي وطربوشه التقليدي، وكان يوزع مواويله على المعجبين والمعجبات، كما توزع ملكات جمال العرب ابتساماتهن على الجمهور وعلى لجنة التحكيم....... ففي كل خطوة كان المعجبون والمعجبات يلتفون من حوله ليوقع بإمضائه على أوتوجرافاتهم كروبرت تايلور وأحمد مظهر ومارلون براندو تماماً".