قراءة في ترجمتين لقصيدة أليوت "نحن الجوف"
--------------------------------------------------------------------------------
ناطق فرج: ليس من باب المبالغة أن نقول أنَّ الشاعر تي اس أليوت Thomas Stearns Eliot هو مّنْ كسر الحواجز التقليدية التي كانت تحيط بالشعر وهو مَنْ غيّر وجه الشعر الحديث. فقصيدته“The Hollow Men” تُعد احدى القصائد التي أثَّرت في الشعر الحديث.. وهي عبارة عن رحلة نحو الخلاص الروحي وهذا ما سنركز عليه هنا من خلال قراءة للمقطع الأول منها عبر ترجمتين مختلفتين. الاولى للدكتور شريف بُقنه الشهراني، أما الثانية فهي ترجمة الدكتور عادل صالح الزبيدي.
مما يُعرف عن أليوت استخدامه وتوظيفه لصور شعرية وأدبية متنوعة. وقد دأب النُّقاد والباحثون كثيراً على معرفة مصادرها المتنوعة ومدلولاتها الأدبية. وتحدّث هو نفسه عن هذا الموضوع في مقالة له بعنوان Philip Massinger عام 1920 قائلاً: غير الناضجين من الشعراء "يقلّدون" غيرهم، أما الشعراء الناضجون فهم "يسرقون" الشعر؛ الشعراء السيئون "يشوِّهون" ما يقتبسون، أما الشعراء الجيدون فإنهم يجعلون منه "أحسن" مما كان عليه أصلاً، إن لم أقل يجعلونه "مختلفاً".
ولعله من الطبيعي أن يتأثر الشاعر، أي شاعر، بالأحداث التي يُعاصرها. ولكن من المفيد أيضاً أن يستقرئ المترجم الأحداث التي أثّرت بالشاعر كيما تسهل عليه عملية فهمه للنصوص الشعرية وترجمتها على نحو سليم ومفهوم.
نرى في مستهل قصيدة أليوت اقتباسين Two epigraphs. الأول، ميستا كِرتز- الذي مات، ولم "يُقتل". وهو ما اقتبسه أليوت من رواية قلب الظلام لـ جوزيف كونراد. وميستا كِرتز Mistah Kurtiz هو مثال واضح على ضياع وعنف وبربرية "الرجل الأجوف". وقد ورد في ترجمة الدكتور شريف بُقنه الشهراني أن كِرتز كان "بين عداد القتلى" وكأن الأخير خاض حرباً فسقط صريعاً. وهذا دليل على أن المترجم لم يقرأ "قلب الظلام". أو أنه لم يُكلّف نفسه عناء البحث عن ما كُتب من نقد وتحليل حول القصيدة منذ عام 1925 وحتى يومنا هذا. الحقيقة هي أن ميستا كِرتز مات متأثراً بمرض الملاريا Jungle fever. مات كِرتز وهو يُردِّد: الرعب! الرعب! “The horror! The horror!”.
أما الاقتباس الثاني، "بنساً، فلساً أو قرشاً من أجل غاي العجوز" A penny for the Old Guy، هو ما يردده الأطفال الانجليز في ذكرى اعدام غاي فوكس Guy Fawkes Day. وفوكس هو مَنْ تآمر وخطّط لتفجير مجلس اللوردات في قصر ويست منستر خلال الجلسة الافتتاحية للبرلمان عام 1605. وقد اعدم واحرقت جثته. وفي ذكرى اليوم الذي اعدم فيه- الخامس من نوفمبر- يقوم الأطفال بصناعة دمى Effigies تشبه غاي فوكس، يتجولون بها في الشوارع بحثاً عمّن يتبرّع لهم بالمال ليشتروا به ألعاباً نارية ليحرقوا بها تلك الدمى. ومَنْ يزور أنفاق لندن يرى اعلانات كثيرة موزعة على جدرانها ولسان حالها يقول: تذكّر، تذكّر الخامس من نوفمبر Remember, remember the fifth of November. الغريب أن الدكتور شريف الشهراني أهمل الاقتباس الثاني ولم يترجمه! علماً أن أليوت بنى قصيدته على هذين الاقتباسين. أما الدكتور عادل الزبيدي فقد وفِّق في ترجمة الاقتباسين.
لنتناول "ترجمة" الدكتور شريف بُقنه الشهراني لقصيدة The Hollow Men المنشورة في صحيفة إيلاف يوم 24 ديسمبر 2008 ولنبدأ بمطلعها. أقول، إما أن نحذف الـ الألف واللام من كلمة "الرجال" أو نحذف كلمة "الرجال" من البيتين تفادياً للتكرار ولأسباب اخرى سنأتي على شرحها بعد قليل. فتكون ترجمة البيت على هذه الشاكلة:
نحن رجالٌ جُوّفٌ.. أو.. نحن الجُوّفُ..
والرجل الأجوف hollow man A هو الرجل الذي لا قيم له. هو رجل فاسد.. هو الذي لا إيمان له.. ولا شخصية له.. هو الفارغ من كل مضمون.. إلخ. ولكن مَنْ هو the stuffed man؟ لقد أخفق الدكتور الشهراني في ترجمة البيت الثاني من قصيدة أليوت. وقد ذهب الدكتور الزبيدي إلى أبعد من ذلك ليترجم men إلى "بشر" وهذا ما عنيتُ به حين قلت: نحن الجوف، أي نحن (بنو البشر) جوف. وقد قلت هذا، فإني لا أميل إلى ما ذهب إليه الدكتور الزبيدي في ترجمة البيتين الأول والثاني. لأن "نحن" تحمل في طياتها معنى "الرجال" أو/ و "البشر" والمعنى واضح دونهما وضوحاً لا لبس فيه. ناهيك عن سهولة اللفظ إذا ما أدركنا أننا نترجم شعراً. لذا فالترجمة التي أقترحها للبيت الأول هي:
نحن الجوف.. أو نحنُ جُوَّفٌ
ولكن ماذا قصد أليوت بـ stuffed men The؟ هل قصد بهم الرجال الذين امتلئت عقولهم بالافتراضات الخاطئة Stuffed with false assumptions؟ هل قصد بهم الرجال الذين يهتمون بالترهات وتوافه الأمور؟ هل هم دمى تحرِّكها أيادٍ اخرى؟ هل هم مَنْ ينعق مع كل ناعق؟ والجواب، هم كل ذلك وربما أكثر! وإذا نظرنا إلى الملامح الأساسية والدلالية المشتركة The semantic core في القصيدة سيتضح لنا معنى Stuffed men وهو "الأرجوزات" marionette أو ما يُعرف بـ القرقوز في بعض الثقافات (= الدمية التي تتحرّك بالأيدي أو الاسلاك). وهذا ما ذكرته فاليري Valerie زوجة أليوت ومحرّرة أعماله حين سُئلت عمّا عناه الشاعر بـ Stuffed men، قالت: بتروشكا Petrushka الدمية الروسية هي ما كان يدور في ذهن أليوت وهو يكتب قصيدته. ورأس الدمية بتروشكا من القش وجسمها عبارة عن كيس مملوء بنشارة الخشب. وربما الوصف الأقرب إلى ما كان يدور في ذهن الشاعر وهو يكتب قصيدته هو تلك الدمى Effigies التي تمثل غاي فوكس. وبذلك يكون معنى البيت الأول والثاني كالآتي:
نحن الجُوَّفٌ
نحن الأرجوزات
وكأن الشاعر يريد أن يقول لنا أننا "جوف" كـ ميستا كِرتز. ونحن أيضاً "أرجوزات" أو "دمى" كـ دمى غاي فوكس التي تُحرق في الخامس من نوفمبر من كل عام. ولا بدّ من الاشارة إلى أنَّ الدمى Effigies غالباً ما تكون رؤوسها محشوّة بالقش. وعليه أرى أن تترجم الابيات التالية على هذه الشاكلة:
نتمايل سوية
كدمى محشوة رؤوسها بالقش
وقد جاءت ترجمة الدكتور الشهراني للأبيات أعلاه على هذه الشاكلة:
نحن الرجال الجوف
نحن الرجال المحشورون
نترنّح سويّة
مثل رؤوس من القش.
واحسرتاه
أما ترجمة الدكتور الزبيدي فقد جاءت على هذه الشاكلة:
نحن البشرُ الجوّف
نحن البشرُ المحشوون
نميلُ معا
والرأسُ مليءٌ بالقشِّ. فيا للحسرة!
ماذا يُقابل The stuffed men في اللغة العربية؟ هذه هي احدى المشاكل التي واجهها كلا المترجمين. فعكس الأجوف هو الممتلئ. إلا أنَّ الأخير صفة حسنة كقولنا فلان "رجل ممتلئ" أي على درجة كبيرة من الثقافة والوعي..إلخ. أو نقول فلانة ممتلئة أي مكتنزة. إذن فما هو قولنا في The stuffed men؟ هل هم محشورون كما ورد في ترجمة الشهراني؟! أم هم محشوون كما ورد في ترجمة الزبيدي؟! وماذا يفهم المتلقي إن قلنا له فلان محشور؟ أو قلنا له أن فلان محشو؟! بل ماذا يفهم المتلقي من قولنا، فلان المحشور يترنح مثل رأس من القش؟ بل ماذا يفهم المتلقي من قولنا أن فلان المحشو يميل مع الآخرين والرأس مليءٌ بالقش؟ رأس مَنْ مليء بالقش؟ وهل يُعقل أن يمتلئ رأس الانسان بالقش؟ وإن قلنا نحن بشر محشوون.. فبماذا نحن محشوون؟ ثمة خلل في الترجمتين، ولكن هل الخلل في فهم المترجم للنص أم هو قصور في اللغة؟
***
أجدني أميل إلى الفعل "نتمايل" أكثر من "نترنّح". فالفعل يترنّح، الذي ورد في ترجمة الدكتور الشهراني، يتصاحب لفظياً مع السُّكر أو يأتي نتيجة لضربة قوية تسدد إلى رأس الانسان أو جسمه مما يفقده توازنه "فيترنّح". أما الدمى فهي تتحرّك أو تتمايل (يمنة ويسرى). ولأننا جُوّفٌ.. ولأننا أرجوزات أو دمى، فالشاعر يشعر بالأسى والأسف على حالنا، وقد عبّر عن أسفه بتنهيدة لم نسمعها.. ما سمعناه هو:
واحسرتاه.
هذه الـ "واحسرتاه" تأتي بعد البيت الثاني مباشرة:
نحن جوّفٌ
نحن أرجوزات
واحسرتاه!
نتمايل سوية
كدمى محشوة رؤوسها بالقش.
Leaning together
Headpiece filled with straw. Alas!
***
ثمَّ ينتقل أليوت إلى وصف أصواتنا بـ "البرود" Our dried voices. كيف يكون ذلك؟ أقول: هل تحمل المفردة، أياً كانت وفي أية لغة، في طياتها وبمفردها معنى ما؟ وهل يُعتبر "المعنى" meaning مُلكية هذه المفردة ومقتصراً عليها أينما حلّت؟ نقاش كهذا سيقودنا إلى معنى المعنى the meaning of meaning ويدخلنا في متاهات علم الدلالة Semantics ولكنه سيساعدنا في حلِّ لغز التعبير أعلاه. وليكن كذلك.. لنأخذ المفردة الانجليزية Dry لنرى كيف أن معنى هذه المفردة تحددها المفردات التي تتصاحب معها لفظياً Words that collocate with it. فإذا قلنا Dry cloths فذلك يُفيد معنى الجفاف. وإذا قلنا Dry weather فذلك يُفيد معنى الجفاف أيضاً، ولكن بمعنى شحّة الأمطار أو قلّة / انعدام المياه. ولكن ما أن ابتعدنا عن المصاحبات اللفظية "المألوفة" لكلمة Dry يصبح جلياً أن ما يُحدّد معناها هو أنماط المصاحبات اللفطية وليس ما تملكه أو تنطوي عليه المفردة من معنى بـ "مفردها" (أي بمعزل عن المفردات الاخرى). ولنسال أنفسنا، ما معنى الاصطلاحات التالية:
Dry country / Dry book / Dry wine / Dry sound / Dry run / Dry hummer / Dry bread / Dry cow..etc
إنَّ معظم المصاحبات اللفظية Collocations أعلاه لها معانٍ فريدة وهي توحي أنَّ معنى الكلمات غالباً ما تحدده "المفردات التي تتصاحب معها لفظياً". لنرى كيف ترجم الشهراني والزبيدي Our dried voices حين وردت في نص أليوت:
Our dried voices, when
We whisper together
Are quiet and meaningless
ترجمة الشهراني:
عندما نهسهس لبعضنا
بأصوات جذابه
نبدو بلا جدوى مدججين بالصمت
وترجمها الزبيدي إلى:
حناجرُنا المتيبسةُ إذا ما
نهمسُ
هادئةٌ وبلا معنى
لنسطِّر الأبيات الشعرية دون مراعات للشكل ولنرى ما إذا تنطوي على شيء يمكن للمتلقي أن يفهمه:
عندما نهسهس لبعضنا ((باصوات جذابه)) نبدو بلا جدوى مدججين بالصمت. (الشهراني). أو بعبارة اخرى: ((حناجرُنا المتيبسةُ)) إذا ما نهمسُ ((هادئةٌ وبلا معنى)). (الزبيدي). إذن فهي أصوات جذابه (لا أعرف لماذا كتبها المترجم بالهاء المربوطة وليس بالتاء المربوطة) حسب ترجمة الشهراني؛ وهي "حناجر يابسة" وهذه الحناجر "هادئة وبلا معنى" إذا ما نهمس.. كما ترجمها الزبيدي. ولو أنَّ الدكتور الشهراني قرأ الأبيات أدناه على هذه الشاكلة:
Our dried voices are quiet and meaningless (when we whisper..). لما وقع فيما وقع فيه حين ترجمها. إذ لسنا الذين "نبدو" إنما أصواتنا هي التي.. حين نهمس..إلخ.
عود على Our dried voices والعود أحمد.. أقول: إنَّvoice Dry تعني نبرة "باردة"cold خالية من أية عاطفة not expressing emotion. وهذا ما نعبِّر عنه حين نمتعض من ردِّ البعض لنا على الهاتف أو وجهاً لوجه فنقول: كان ردّه (= من خلال نبرة صوته) بارداً! أو كلّمني ببرود!
Our dried voices, when
We whisper together
Are quiet and meaningless
وأرى أن تترجم quiet إلى "خافت" أما meaningless فتترجم إلى "بلا جدوى". والترجمة التي اقترحها هي:
وحين نهمس سوية
فإنَّ نبرة صوتنا الباردة
تكون خافتة وبلا جدوى
وقد شبّه أليوت صوتنا..
كريح تهبٌّ على عشب يابس
أو كأرجل جرذٍ وهو يمشي فوق زجاج مكسور
داخل قبونا اليابس.