وإذا كان الشاعر الرومانتيكي العربي التونسي أبو القاسم الشابي (1909 ـ1934) قد حذّر في مطلع قصيدته «إرادة الحياة» من إمكانية اندفاع الذات البشرية باتجاه لجّة العدم، في الحال التي لا تستجيب فيها للبواعث الجوانية، الدافعة لها للارتقاء الوجداني الذاتي نحو المثل الأعلى، فإنه انتمى إلى منظومة رومانتيكية، تدفع المرء في نهاية المطاف إلى التراخي والتكاسل، وفق بعض الدارسين. وبالرغم من تشاؤم الشاعر والمفكر الإيطالي جاكومو ليوباردي (1798ـ 1837) Giacomo Leopardi ويأسه التام من إمكانية إدراك السعادة في هذا العالم، واندفاعه باتجاه العدم، الذي عنى له الفناء والاندثار، فإن اعتقاداته بقيت بعيدة عن الاعتقادات المألوفة في أديان الخلاص، وإن أبدى إصراراً على العطف والود، فإن مسعاه الإرادي لم يكن هادفاً من الناحية المبدئية، إلى تسكين الإرادة وإطفاء مكوّناتها. وربما كان بالإمكان التحدث هنا عن وجود نوع من الوهن، يدفع الشاعر جون كيتس باتجاه الخمول التام، كمنهج وقائي وعلاجي، يدفع عنه غوائل المعاناة، لكن الاندفاع على هذه الطريق لا يمكن إنجازه، دون وجود قدر من القوة السيكولوجية، فالتخلص من الرغبات والحوافز البشرية، والسعي الدؤوب باتجاه قطع الإرادة، دون أدنى قدر من التردّد أو التحفظ، لدى الفيلسوف الهندي غوتاما بوذا (563 ـ 483 (Gautama Buddhaالذي أسس الديانة البوذية، علامة دالة على القوة النفسية. أما تخبّط شاعر كأبي العتاهية (748ـ 825م) بين الانطلاق وراء الرغبات الحسية، والمحاولات المتكررة للتزهّد، والتنكر لتلك الرغبات، فهو علامة على وجود نوع من الضعف النفسي، الذي ينظر له البعض على أنه ضعف في الإيمان الذي امتلكه في فؤاده. وبالمقارنة مع غوتاما بوذا فإنه ما من وجود للبعد الأخلاقي في الأداء الهادف لتحقيق حالة الخمول لدى الشاعر جون كيتس؛ أي أن الخمول أقرب إلى محو الذات والتنويم الذاتي، أكثر من كونه تطهّراً على ما يمكن للمرء ملاحظته لدى مؤسس الديانة البوذية، وغيره من المفكرين الذين دعوا إلى تبليد العقل، ومن ثم إلى تبليد الكيان الإنساني كله، كالمفكر والعالم الفرنسي بليز باسكال (1623ـ 1662) Blaise Pascal الذي امتلك تكوينا سيكولوجيا أخلاقيا قوياً، واعتقاداً بالإثم الذي يستبطن كيانه من الداخل، ورغبة حارة في التحرر من إساره، والتطهر الذي يعني ظفره بالسلام والطمأنينة، وربما أمكن اعتبار «التميمة» التي خلفها لدى وفاته، شأناً مشابهاً من الناحية الصورية للرؤى البديعة التي ذكرها جون كيتس في قصيدته التي تغنّى فيها بالخمول الذي أدناه كثيراً جداً من الانطفاء التام، أي من العدم. والمعروف أن بليز باسكال اندفع في بداية حياته، وراء العلم، وابتكر اختراعات دالة على ذكائه، وقوة خياله، وجموح عبقريته، وفيما بعد انخرط في تيار الحياة الاجتماعية اللاهية، واعتبر نفسه ممن تلوّثوا بالإثم، ووجب عليهم أن يتطهروا منه. وفي تلك «التميمة» يذكر عدداً من الأنبياء، ويرجو بتحرّق عارم السلام والخلاص، ويعبّر عن ظفره بالنشوة والغبطة، وربما أمكن اعتبار الطور الذي أنجز فيه كشوفه العلمية. التي استعان فيها، ليس بذكائه فقط؛ بل وبطاقة الخيال التي امتلكها، شبيها بالطور الذي بدت فيه فاعلية جون كيتس الرومانتيكية على أشدّها، وهي الفاعلية الحيوية التي تغنى بها أبو القاسم الشابي في قصيدته «إرادة الحياة».
وهكذا فإن الخطاب في حالتي غوتاما بوذا وبليز باسكال يبدو أخلاقياً تماماً، وثمة ربط بين أفعال الإرادة والإثم، وما يترتب على ذلك من عقاب أو ثواب، ومن احتياج إلى التطهر، لا يمكن القفز فوق متطلباته على الإطلاق. وإذا كان الخلاص الناجم عن قطع الإرادة لدى غوتاما بوذا يدعى السعادة القصوى، والاستنارة التامة أو النيرفانا Nirvana فإنه لدى جون كيتس يعني الخمول، والتلاشي في العدم. ومما يقال لدى التطرق إلى الإنجاز الذي حققه الفيلسوف الهندي، أنه بقي جامداً دون حراك، وأباد في ذاته أدنى الرغبات وأبسطها، وأن الخفافيش ابتنت أعشاشا لها على راحتي يديه الممدودتين، فقد ظنته صخرة جاثمة على الأرض، وعندما هجرته أخيرا، طفرت الدموع من عينيه، في إشارة إلى أن شطب الإرادة كلية، غير واقع في حدود الإمكان، وأن عواطف القلب البشري، التي تتربع الشفقة على قمتها، في هذه المنظومة المعرفية، تظل باقية ومعبّرة عن أفضل ما في الكائن البشري من مشاعر إنسانية، أما جون كيتس في قصيدته «أغنية إلى الخمول» فإنه يكون في حالة أقرب إلى العدم الكلي، وعندما تحاول الإرادة التعبير عن مكنوناتها في ذاته، من خلال الحب والطموح وشيطانة الشعر، فإنه يتمنى اللحاق بها في البداية، وأخيراً يتخلى عنها، ويطالبها بأن تتلاشى ولا تعاود الظهور ثانية؛ أي أنه يودّ الالتصاق بالعدم، ويرفض العودة إلى الحياة، وبالطبع فإنه لا يعترض بهذا النهج الذي لا يكترث بما في داخل الذات أو خارجها، على عاطفة الشفقة والحنو، التي حيّاها في مواضع أخرى من أشعاره.
وفي فرنسا تعاطف الأسقف فينلون (1651ـ 1715) Fenelon مع مدام جويون Madame Guyon التي جاهرت باعتقادها بالصوفية المسماة «السكينة Quietism» أو «التسليم» والتي أنشأها الراهب الصوفي الإسباني مولينوس Molinos ودعا فيها إلى العبادة والتأمل في الله، والتلاشي فيه، وتجاوز الأحاسيس البشرية المعروفة، إلى الدرجة التي تصبح فيها النفس غير مسؤولة عن أفعال الجسم. ومدام جويون تنقلت في حياتها كأبي العتاهية، بين مطالب الأحاسيس ونزعات العبادة والتصوف، وفي النهاية انطلقت بإصرار عظيم، وراء الاتحاد الصوفي بالله، دون أن تكون دوافعها قائمة على خوف العقاب، أو رجاء الثواب؛ أي أنها أقرب ما تكون إلى الشاعرة الصوفية رابعة العدوية (713ـ 801) التي أجبرت في البداية على احتراف الغناء، ومالت إلى الحياة الزهدية، دون أن تعبأ بأي نوع من الإغراءات أو العراقيل، والمعلوم أن فينلون اشتهر بكتابه «تيليماك Telemachus» الذي اعتمد فيه على الأساطير اليونانية، بهدف إعلان المبادئ الأخلاقية الدينية، وإظهار ما تنطوي عليه من حكمة، لولي العهد لويس دوق بورجونيو Louis, Duc de Bourgogne الذي أشرف على تعليمه وتربيته، والكتاب يتضمّن وصفا للمغامرات التي قام بها البطل، والتي تحفل بالقتال والمعارك والأحداث الدرامية، إلى أن يلتقي والده أوليس، ويعاونه في قهر خصومه الذين حاولوا التقرب من زوجته بينيلوب، وبالرغم من هذا كله فإن اتجاه الإرادة لدى الكاتب، ولدى تيليماك، يذهب باتجاه «السكينة» أو «التسليم» وهو ما دعاه إلى الدفاع عن مدام جويون، وبالطبع فإن هذه الحالة تقابل حالة «الخمول» التي دافع عنها جون كيتس. ومن ناحية أخرى فإن عودة هذا الشاعر الرومانتيكي إلى الأساطير اليونانية، ترافقت مع استغنائه عن الأخلاقيات العرفية، وليس مع اتخاذها وسيلة برانية للدفاع عن تلك الأخلاقيات. ويبقى أن أهم ما في نظام معرفي ما، إنما هو اتجاه الإرادة التي تميّزه، فالأفراد الذين ينتمون إليه، نادراً ما يمثلون كل ما فيه، وهو أكثر اتساعاً بما ينطوي عليه من إمكانيات جزئية، مما ينطوي عليه أي ممن يؤمنون به. ولدى الحكم على الأفراد، وما إذا كانوا أخياراً أم أشراراً، فإنه لمن الضروري التعرف إلى طبيعة اتجاه الإرادة في ذواتهم، فإن كان ذاهباً باتجاه الحياة الزاهدة، فهم أخيار في النهاية. وهكذا فإن أدباء كأبي نواس وأوسكار وايلد هم أفراد أخيار، بالرغم من أدائهم الذي ينتمي إلى حيّز الرذيلة، ما دام اتجاه إرادتهم الهادف إلى التخلي عن الدنيويات، قد أوصلهم إلى الحياة الزاهدة، وهو ما يعني أنهم كانوا أخياراً، في أثناء ظهورهم كأشرار، وأن رذائلهم أوهى من أن تنال من بنيانهم الأخلاقي الفاضل، وأكثر من هذا فإنها ضرورية لمن يحاول إبراز حقائق ذلك البنيان الذي يتصف به.
أما الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشة (1844ـ 1900) Friedrich Nietzsche فقد اعتبر أن تعبيرات الاتحاد بالحقيقة الكونية، والنيرفانا، لا تعني شيئاً آخر غير العدم، ووفق هذا الرأي فإن تعبير جون كيتس يبدو الأكثر مباشرة وصدقاً، وتعبيراً عن الحال السيكولوجية القائمة في داخله، وفي مقابل الأنوار الداخلية والغبطة الشاملة، يذكر في قصيدته، إحساسه بأن روحه أشبه ما تكون بالمرج السندسي، الذي تتماوج عليه الظلال، وفي نهاية القصيدة يفخر بامتلاكه لكم وافر من الرؤى، تكفيه ليلاً نهاراً, وهو لا يتجاوز هذه الحدود، أي أنه لا يتحدث عن انطلاق النفس خارج الجسد، وما إلى ذلك من اختبارات روحية تقدّم المسوغات الهامة التي يحتاج إليها مشروع الانطلاق باتجاه النيرفانا، أو الاتحاد الصوفي بالله. وبالرغم من أن الفيلسوف اليوناني أبيقور (270 ـ 341 ق.م Epicurus) قد أشاد باللذة، واعتبرها الخير الأسمى، فإن أداءه العام الذي يمتدح اللذة العقلية، وغياب الألم، أكثر من انقطاعه، والأسلوب البسيط في الحياة الذي يعني تراجعاً متصلاً في الإرادة وإملاءاتها، يقرّبه من الناحية السيكولوجية إلى حدّ كبير من تلك النماذج التي آمنت بمبدأ متعال على الواقع المحسوس. والمعلوم أن جون كيتس قد سعى إلى تحقيق حالة الخدر والسكون، قبل أن يسعى باتجاه الخمول التام، وقبل حالتي الخدر والخمول، سعى إلى إراحة الجسم والنفس، عبر اجتناء اللذة اللطيفة المعتدلة، وكان غرامه المترافق مع عواطف جامحة تجاه فاني براون، قد ملأ قلبه بالمعاناة، ودفعه إلى التحرّر من اتقاد عواطفه باجتهاد واطراد، والتنكر لثنائية الألم واللذة Pain and Pleasure عبر الخمول واللااكتراث التام، وهو شأن يذكّر بتلك الدعوة التي أطلقها الشاعر الروماني لوكريتيوس (55 ـ 96 Lucretius الذي سار على خطا الفيلسوف أبيقور، والتي دعا فيها إلى اجتناب عاطفة الحب، وعدم التعلق بالمحبوب، والاكتفاء بالشهوة، التي لا تترافق مع الحب كعاطفة، والنتيجة التي سيكون بالإمكان اكتشافها، تتمثل في وجود طائفة من البشر، تتبنى مناهج متفاوتة في كيفياتها، وإن كانت كلها تسعى إلى كف المعاناة، والبقاء في حالة من الخدر والسكون، وثمة ربط بين السعادة وحالة التراخي والخمول؛ أما فريدريك نيتشة فإنه يربط بينها وبين النزوع الأرستقراطي الإرادي، وبالفعل فإن الشاعر الإرادي أبا الطيب المتنبي (965 ـ 915) يشعر بالسعادة أكثر ما يشعر، لدى إقدامه على الأداء الذي يمثل النقيض الجذري لتلك الحالة الساكنة والخاملة، وهو ما يبدو بوضوح كبير في قصيدته التي كتبها في مصر، لدى إصابته بالحمّى، واضطراره للبقاء في الفراش:
ملومكما يجلّ عن الكلام
ووقع فعاله فوق الكلام
ذراني والفلاة بلا دليل
ووجهي والهجير بلا لثام
فإني أستريح بذي وهذا
وأتعب بالإناخة والمقام
عيون رواحلي إن حرت عيني
وكل بغام رازحة بغامي
فقد أرد المياه بغير هاد
سوى عدّي لها برق الغمام