طارق الشيباني
الحكـــاية
أنا السٌيد هنا! … أنا الكل ٌ!..أنا الرأس والرئيس!.. أنا.. أنا الربٌ! … هل فهمتما ؟… ما أقوله يجب أن يطاع .. أن ينفذ ! .. لا.. لا ليس هذا فقط .. ان ما أفكر فيه مجرد التفكير ، وقبل حتى أن أهم بقوله يجب ان يطاع ؛ لقد قلت يجب أن ينسى هذا الأمر يعني انه يجب ان ينسى ، بل ويمحى من عقول الناس كما يمحى اسم ميت من شاهدة قبر منسي
ـ ولكن لاحديث يا سيدي الآن إلا عن هذا الأمر ، فهو حدث جلل وواقعة جسيمة لا يمكن للناس ان ينسوها بسرعة!
ـ اضف الى ذلك طبيعة رعيتكم يا سيدي ! فهو قوم يحيون حياة بسيطة فارغة لا احداث فيها … وليس كل يوم يقتل سيدهم ابن اخيه لانه عارض رغبته ..
استوى الان سيد العشيرة واقفا امام محادثيه ، فبدا اضخم من العادة … بدا اضخم من بالمكان ، بل هو اضخم من المكان نفسه …
تلبد وجهه بغيوم غضب حمراء حارقة . تقدم نحو الرجلين . اقترب بوجهه نحو الرجل الاول ، فالثاني .. احسا بلهيب أنفاسه يشوي بشرة خدودهما ورقبيتهما . كان يدور حولهما في صمت وبخطى وئيدة . يكاد يغمى على الرجلين من فرط الانفعال والخوف .
ثم قال ببرودة أعصاب : اخبراني بربكما هل جعلت منكما مستشاري لتقولا لي هذا ؟ ثم صرخ فجاة ، فاجفل الرجلان وكادا يرتطما ببعضهما ويسقطا على ارض الخيمة : افعلا ما أمرتكما به .. قلت يجب ان ينسى هذا الامر .. يعني يجب ان ينسى …
أضاف السيد بصوت اكثر هدوء : قتلت ابن اخي … اخي نفسه … قتلت عمي … ابي .. ليست هذه هي المشكلة .. المشكلة أن يتوقف الناس عن الخوض في هذا ا لامر … يتوقفوا ولمرة واحدة عن الحديث فيه … تفسير وشرح من طرفكما لن اسمع . ولست مستعدا أبدا للسماع …. هل هذا واضح؟؟
وعاد ثانية للصراخ : هيا اصرفا ولا تعودا الا ومعكما الحل !
هرول الرجلان خارجين من الخيمة في اضطراب وبلبلة.
وبعد ان اصبحا بعيدين عن خيمة السيد وخيام القبيلة كلها ، قال الاول لصاحبه : اننا هالكان هذه المرة لمحالة! الرجل قتل ابن اخيه .. فماذا تراه فاعلا بنا نحن الاثنان ؟ نحن اللذان لامت له بصلة دم او لبن ؟
ـ لا تجزع هكذا ولا ينفطرن قلبك ! دعنا نفكر ! سوف نجد الحل
ـ قال الاول وبدا كأنه يحادث نفسه اكثر مما يحادث زميله : ما الذي دفعني انا الى ان اكون مستشارا ؟ ما الذي دفعني الى هذه الحماقة ؟ ما الذي دفعني الى الجلوس بين شدقي الذئبة ، والتوسل الى الله اللطيف القدير كي لا تطبق فمها ؟؟
قال الثاني : أطبق انت الان فمك ودعنا نفكر يا هذا!
سكت الأول عن مضض ، ثم جلس فوق كثيب من الرمل ، وجعل يخط فيه بأصابعه أشكالا ودوائر لا معنى لها ، ثم يعود فيمحوها بضربة واحدة .
اما الثاني فقد رفع رأسه الى السماء فبدت له كقماشة زرقاء تستر عورة صحراء صفراء وقاتلة .
مضى وقت طويل والرجلان يفكران و لا يجدان حلا . فجأة ابصرا سحابة من الغبار ركض فارس لاح قادما من البعيد .
نهض الرجلان وجعل ينتظرانه حتى يتعرفاه ، ولكن الفرس غيرت مسارها واتجهت صوب نقطة اخرى في الافق .
قال الاول هذا افضل .. ثم عاد الى الجلوس و جعل يخربش كعادته في الرمل، فيصنع الخطوط والأشكال ثم يبيدها .
انتبه الثاني لما يفعله صديقه فقال بصوت حمله نبرة الحكمة : الا تعتقد معي يا صديقي ! ان خطوب الدهر وتصاريفه اشبه بما ترسمه انت الان فوق الرمل ثم تبيده ، ثم تعود فترسم فتبيد .. يا صديقي ان حياة الانسان لهي بالفعل خربشات قدر لعوب . هازئ . لا يعبأ بدمع ولا دم ، بفرح او حزن لا يعبأ بحل او ترحال … انه فقط يلهو ويسلو كما تفعل انت بالضبط مع الرمل …
وهنا انتفض الأول واقفا كان به مس من الجن وقد احمر وجهه من الغضب ؛ ثم اخذ قبضة من الرمل وضرب بها الأرض ، ثم قال : اللعن ! اللعنة ! أنا رأسي تكاد تنفجر منذ ساعات لاجد لنا مخرجا من هذه المصيبة التي حلت بنا وهو يقول لي قدر لعوب وخربشات ولا ادري ماذا ؟! خطا بعض الخطوات هاما بالانصراف ، ثم عاد وصرخ في وجه زميله الذي ضل مشدوها مسمرا في مكانه : السيد سيذبحنا كالنعاج .. وذلك صباح الغد على أقصى تقدير ، فارجو ان تحدثه عن خطوط الرمل و حياة الإنسان بين السفر و القدر ؛ لعل ذلك يشفع لنا امام حد السيف … احمق و معتوه!!!
لاح الان الفارس وقد عاد ليركض باتجاههما . توقف الرجل بعد ان ادار ظهره لصديقه هاما بالانصراف … وصل الفارس ، ترجل عن فرسه وقال : طاب يومكما ايها السادة !
أجاب الرجلان : طاب يومك !
بادره الاول بالسؤال : هل انت على سفر ؟
أجاب الفارس : نعم لقد نزلت البارحة عند قبيلة في الجوار ، وها انا الان أغادرها مع تباشير الصبح قاصدا المدينة … ولكن يبدو ان الشمس قد ارهقت الجواد ففكرت في الاستراحة قليلا ؛ ثم العودة الى المسير
قال الثاني : فلتقم عندنا على الرحب والسعة … فترتاح وتريح الجواد حتى المساء فتكمل طريقك .
قال الرجل : اشكر لك لطفك وكرمك !….. هذا ليس غريبا عن العرب !
سال الاول مرة اخرى : ان هيأتك ولون بشرتك لا يدلان على انك عربي ؛ مع ان عربيتك طليقة وسليمة ..
فقال الرجل : نعم هذا صحيح ، فانا رومي من صقلية ، ولكن ربيت منذ صغري في بيت عربي ، كان صاحبه بمثابة الأب لي وهو نحوي بارع .. علمني اللغة والعروض …
فقال الثاني بفرح طفولي : فأنت اذن شاعر !
ابتسم الفارس وقال : لا.. لا.. انا لست شاعرا .. انا كاتب قصص واخبار .. منذ صغري ولعت ولعا شديدا بسماع الحكايا وتدوينها ، فبي شغف الى اخبار الناس وفضول لمعرفة حياتهم وكتابتها .عملي الان هو الطواف بين القبائل وجمع مادة لقصصي .
نظر الاول اليه وقد ارتسمت على زاوية فمه ابتسامة ذات مغزى : اذن فانت مؤلف قصص ؟
قال الفارس : نعم
قال الاول : وهل تستطيع ا تؤلف قصة من خيالك وتبتدع خبرا ل تسمعه ولم يروى لك ؟
قال الفارس : طبعا ولكني في الغالب الاعم ، اسمع الخبر فانقص منه او اضيف له فيتحول من القصة العادية الى رواية تشد الناس و تأسرهم ..
فقاطعه الاول : ولكنك كذلك قادر ان تبتدع حكاية كاملة من محض خيالك وتجعلها كما قلت تشد الناس وتأسرهم ..
احس الفارس وكان في الامر تحد : فقال هذا اكيد ! … ولكن ماذا تروم من وراء سؤالك هذا ؟
تبسم المستشار في خبث ـ في حين زفر صديقه زفرة قوية وقد فهم مقصده ـ وقال : انا لا أروم شيئا .. انت الان ضيف علينا وحق علينا اكرامك واحسان وفادتك … ثم اردف في شيء من التباهي : نحن مستشارا سيد هذه القبيلة وقد حللت اهلا ونزلت سهلا ، ولك علينا ان تكون الطاعم الكاسي .. هيا هات الفرس وتعالى لتستريح !
وصل الجميع الى الخيمة ، فوضع الطعام وقدم الشراب وتمت تدابير الضيافة على اكمل وجه .الى ان قال المستشار الاول : ايها الفارس الصقلي ان تمتعنا بقصة ؟
انبرى الرجل ـ وكانه لم ينتظر غير ذلك ـ يسرد حكاية مليئة بالجان والعفاريت ؛ تتصارع فيها غيلان ووحوش وينهزم فيها اقوياء قساة وينتصر ابطال شجعان فينشدها الشعراء ويحفظها الرواة وتتداولها ذاكرة الاجيال .
اثناء ذلك كان المستشار الثاني يستمع اليه في انتباه شديد ويكاد اللعاب يسيل من طرف شفته لفرط التاثر والانفعال .
في حين كان المستشار الثاني بالكاد ينتبه الى تفاصيل الحكاية ، بل بدا عليه انه يكاد ينتظر الرجل حتى ينهي حديثه .
حل المساء ، فخرج الجماعة للتمتع ببعض البرودة التي حملها نسيم عذب الى المكان . وحين هم الفارس بإسراج راحلته قصد السفر ، انقض عليه المستشار الاول شاهرا سيفه وقال : اترك الفرس واتبعني دون كلمة !
دهش الرجل ، ولكنه أذعن للأمر فاخذ يسير والمستشار يدفعه من الخلف حتى وصلا الى خيمة على مشارف القبيلة . كان هناك عبدان أسودان ضخمان يحملان سيفين بتارين يقفان امام الخيمة . دخل الفارس الى الصقلي الى الخيمة ومن وراءه المستشار الذي قال له : ابقى هنا ولا تتحرك حتى اعود … لاتنسى في الخارج عبدان قادران على الفتك بعشرة من امثالك!
وفجأة دخل المستشار الثاني وفي يده مجموعة من الأوراق و داة وقلما ، فقال المستشار الاول : حسنا ها قد اتيت … فلنربح الوقت !
قال المستشار الثاني في غضب: انا لست موافقا عما تفعله .. كان يمكن ان تطلب ذلك منه عن طيب خاطر .
قال الاول :هذه امور لا يطيب فيها الخاطر… سيف السيد مسلط على رقابنا و لابد لنا من حل قبل طلوع الشمس ..
فقال الفارس : انا لا افهم شيئا مما يحصل هنا … اخبراني ما الامر !
نظر اليه المستشاران دون ان يجيباه ، ثم تقدم نحوه الاول ومد له حزمة الورق و القلم وقال له : هيا اكتب !
قال الفارس وهو ينظر تارة الى الورق وتارة الى وجهه : ماذا اكتب ؟
قال : اكتب ! ألف ! نعم ألف حكاية !… حكاية تشغل الناس وتشدهم وتصبح حديث صباحهم و مساءهم… ألف ما ينسيهم حتى التفكير في جوع البطن وجفاف الحلق… هيا ألف قلت لك !