فيما وراء إسحاق وإيفجيني أو هذيانات المبدع الكبير مطرود - حسين عجة
هناك أعمال إبداعية لا يمكن لا الحديث ولا الكتابة عنها (أعمال سامية، لكنها غير مقدسة). كما ليس بمقدور المرء فعل أو عمل أي شيء حيالها سوى تركها تغزو وجدانه بصدق وأن يوسع لها محيط ذلك الوجدان، لكي تكتنفه،
تطهره، ومن ثم تمنحه ما لم يكن قادراً من قبل على اللقاء به أو ملامسته (قد يكون ما تمنحه تلك الأعمال هو ببساطة الدهشة، السحر، الاضطراب الداخلي، غبطة مستحيلة في مرحلة كالمرحلة التي نعاصرها، أو كل هذه "الأشياء" مجتمعة وبدفعة واحدة!)، شيء كهذا لا سبيل ولا إمكانية لتبلوره، أحياناً، إلا في قلب الفاجع، وحينما يخر الكون برمته (بأرضه وسمائه) وسط الجحيم. نادرة هي تلك الأعمال. نادرة وشاذة أيضاً هي لحظات ولادتها. من ناحية أخرى، لا تحتاج هذه الأعمال أن تكون كبيرة، ضخمة ومعقدة في ملابساتها، ولا حتى في ثراء لغتها. يكفيها أن تتلقى عطاء ما يأتيها من الخارج وتعيد عطائه بنفس الوفاء الذي تلقته به. لكن بعد أن تكون قد لامسته أصابع الفن المرهفة. من هنا لا بد من الحديث والكتابة عنها، أو، بدقة أكبر، عدم الحديث والكتابة إلا عنها.
البرقي أو جنون الاختيار
أضع، دون ضجة، ولكن دون توجس أيضاً، عمل أو "هذيانات" قاسم مطرود "مواطن" ضمن تلك الأعمال النادرة، والتي قد تمر دون أن تتمكن قوى العصر المُحبطةِ والمُفلسةِ، بما فيها تلك التي تقع ضمن الميدان الفني من تلقي رسالتها الاستثنائية والإصغاء لصوتها المتفرد. لاسيما إذا ما كان ذلك العمل من صنع قلم عربي، كما هو الحال مع مسرحية "مواطن". مرد استغفال كهذا لا ينتج بالضرورة عن سوء طوية، أو إقصاء متعمد، لكنه يمكن أن ينتج عن إسقاط المرحلة التي نعيش فيها لكل "الأشياء" النبيلة، وفي مقدمتها أشياء الفن الكبرى في عمليات تسويق تجليات الفكر والفن في سوق النخاسة وتسويق البضائع المبتذلة. من ناحية أخرى، من المحتمل أن تفلت أعمال كهذه، المتطرفة في حساسيتها ورهافتها، حتى عن أعين وفطنة من يُفترض بهم تلقي ما هو نادر، استقباله ومن ثم فتح جميع آفاق الممكن أمامه، ذلك لأن إيقاع حركته ونوعية الموسيقى التي يرقص عليها تتخطى ومن بعيد الإيقاعات الثقيلة للزمن الحاضر وابتذال رقصه وموسيقاه، هذا إذا ما كان له من إيقاع أو حركات راقصة! لكن لا بد لتلك الأعمال، ومهما يكن الحصار الذي قد يطوقها ويسعى لخنقها، من ترك صداها الذي لن تخمده غيوم السماء الملبدة ولا جبال الأرض الصامتة، كذلك لن يمحو آثارها الشفافة بطبيعتها زبد ومخاط البحار الوهمية والضاجة للعصر الذي تلد فيه. سيتضح، شيئاً فشيئاً، صوت ذلك الصدى، وستتم قراءة تلك الآثار بعيون أكثر سعة وملكة إدراك أكبر انفتاحاً، إن لم يكن في الجيل الحاضر، ففي الجيل الذي يليه؛ إن لم يكن في هذه المرحلة، ففي المرحلة التي تليها، أو في الأجيال والمراحل البعيدة التي ستليهما. ذلك هو وقع هذيانات "مواطن" عليَّ شخصياً؛ لا أقول ذلك بتواضع حيال دقة وجمالية هذا العمل وحسب، بل بفرح واعتزاز أيضا إزاء تشبثه بقوة بقضية لا يمكن إلا أن تسلم نفسها، في النهاية، لعين ومخيلة المبدع.
لكن لماذا؟ ما الذي جرى، وما هي ضربة الواقعة؟ أولاً، لأن هذيانات "مواطن" ، أو التحفة النثرية/الشعرية/الموسيقية بالأحرى، التي تمت كتابتها بزمن برقي قد يصعب تخيله : ساعة واحدة، قد ولدت في صميم فاجعة واقعية، وضمن عالم عبثي وجحيمي، ربما لم يسبقه في ضراوة عنفه وبربرية الاختيارات التي يطرحها علينا عالم من قبل. لكن، ولكي لا أتحدث مباشرة عن الدوافع التي جعلتني أستخدم لهجة كهذه، أو حماس أفتخر به كهذا، دعونا نتساءل عما حدث، وما هي الشرارة الأولى التي أولعت النار في هشيم الروح ووهبت ملكة التفكير بما لم تكن تثق بتملكها له. هنا، علينا أن نصغي أولاً لما يقوله مؤلف هذه المسرحية، المُذهلة في كثافتها؛ صاحب هذه "الهذيانات" التي قلما صادفتنا براعة وحنكة عملية في طريقة صياغتها، كتلك التي نعثر عليها في "مواطن". لنصغي إذاً لما يقوله ذلك الذي أقتلعه خبر قرأه صدفة من مجرى ووتيرة حياته اليومية، لكي يدفع به نحو أكوان العزلة وطاقات الفن الغريبة القادرة على تحويل فاجعة الخبر ذاته إلى ما يشبه المعجزة، يقول المؤلف : "بعد أن قرأتُ الخبر التالي، وهو يحدد تاريخه القريب منا، في عام 2007، "مجموعة من القتلة طلبوا من رجل أن يقتل أبنه وإن لم يفعل ذلك يُقتل هو". كان وقع الخبر، كما يمكننا تخيل ذلك، صاعقاً على ذهن وروح المؤلف إلى حد شُلت بسببه كل طاقاته المفكرة، أو سبل مخيلته الواسعة. وكردة فعل أخلاقية أولية، كتلك التي يمكن لأي واحد منا معايشتها، حينما تهزنا وتقتلعنا من ذواتنا حوادث كهذه، هي غياب أية معرفة أو دراية بما ينبغي علينا فعله، لذا نلجأ إلى أنفسنا، نستنطقها، نحاورها، نلتمسها، لكي توفر لنا إجابة ما حيال مأزق كهذا. ولأننا قد وجدنا أنفسنا في رعب وعراء كهذا الرعب والعراء الضاري والعبثي، نحاول تخيلنا في مكان آخر، نضع أو نأخذ مكان من تلقى ضربة الكارثة، مثلاً. لكن عبثاً، فالتأملات، أو التطلع في الفراغ لن يجلب أية ثمرة ولن يدفع على القيام بأي فعل. وذلك ما حدث بالدقة للمؤلف، لنصغي له ثانية، وهو يروي لنا ما قام به مباشرة بعد صدمته الأولى : "وضعت نفسي مكانه، لكني لم أعثر على حل ولم أتوصل إلى أي قرار". لماذا؟ ذلك لأن القرار كقوة، كما سنبين ذلك بعد قليل، يقاومنا، ولا يمنحنا أبداً إمكانية اتخاذه إلا عندما نتخذه، وليس قبل لحظة اتخاذه. ما الذي يمكن فعله ؟ يقول أندرية مالرو : "ثمة رجل في بؤس، ينبغي إنقاذ ذلك الرجل". لكن لندع ماليرو هنا جانباً، فهو يتحدث عن موقف عام، تجريدي، وعن بؤس مُفترض، لا يقل تجريدية عن الموقف ذاته. الأجدر بنا التساؤل عما فعله مؤلف "مواطن"، بعد اكتشافه لا جدوى تأمله وتمزقه لفهم حقيقة الأمر وحسب. يقول التالي : "في حالات كهذه أهرب إلى المساحات البيضاء على الورق والقدر المتاح لي بالبوح، عسى أن أتخلص من العذاب الذي يكتنفني، وبعد ساعة جاءت هذه الهذيانات التي أسميتها مواطن".
لقد قيل كل شيء عبر هذه المصارحة الأشد ألماً، فهذه الجملة التي على بساطة صياغتها قد وضعتنا سلفاً في قلب وصميم الفاجع/الكارثي، أي قبل الدخول في ساحة أو جحيم الموقف الذي ستكشف "مواطن" عن توالي حالات فزعه المدمرة دون تردد، وبحركات لا يماثل شجاعتها سوى شجاعة الشعر المقاوم . إذ منْ يتكلم هنا هو إنسان "المساحات البيضاء"، رجل "الورق"، الفنان، لكن أي فنان؟ ذلك الذي يرفض كل أشكال وخدع الفصل التي تحاول جعله يقف كمتفرج فيما تذبح الحياة نفسها أمام عينيه وفي وضح النهار. لنصغي له، أو لنسمع عارنا وفضيحة عالمنا عبر صرخته : لكي "أتخلص من العذاب الذي يكتنفني". و"بعد ساعة جاءت هذه الهذيانات التي أسميتها مواطن". علينا إذاً دخول المشهد، لنمتلك الجرأة على الاقتراب من خشبة مسرحية "هذيانات/ مواطن"، لكن كلا، علينا إعادة قراءة الخبر أولاً : "مجموعة من القتلة طلبوا من رجل أن يقتل أبنه وإن لم يفعل ذلك يُقتل هو". وهكذا، تكون بنية "الهذيانات" قد اتضحت تدريجياً أمام أعيننا : من جانب، هناك هذا الرجل الذي ألقي به ضمن مأزق الاختيار المستحيل ذاك، وهناك، من الجانب الآخر، الفنان المُنفعل عن حق، الفنان غير المتخاذل والذي يعرف، وإن بطريقة غامضة، بأنه ينبغي عليه هو بالذات، ومهما كلف الثمن، القيام بردة الفعل الواجبة، الأقدام على أخذ المبادرة، مواجهة الموقف، ابتداع ما يمكن بفضله قلبه، تحويله، إحالته على مقام آخر، لا يكتفي بالحكم على تجربة المعاش وكأنها لا تمسه هو في كينونته. كلا. فصاحب "المساحات البيضاء" لا يضع من فوق عينيه عدسات الموقف الدموي والمغلق معاً، ولا يرتضي بالخيارات المستحيلة والعبثية التي يطرحها عليه، بل يخلق، بدلاً عنها، إمكانيات لا يعرفها الموقف ذاته، ولا يريد أن يعرفها، ما دامت رؤية إراقة الدم هي متعته الأولى والأخيرة. لهذا لن نندهش من ترديد رجال ذلك الموقف، جميعهم (رجل السكين، رجل الحصان، رجل القنبلة، ورجل المثقب الكهربائي أو المدفع) عبارة لا أعرف، حين يواجههم ببساطة الرجل الذي يطلبون منه قتل أبنه وإلا سيقتل هو نفسه؛ حينما يسألهم بسذاجته الرائعة لماذا يريدون منه قتل أبنه والتضحية بنفسه هو؛ لا نندهش حين يرددون كالببغاء "لا أعرف". نعم، أنهم لا يعرفون ولا يريدون أن يعرفوا، فالقتل، الذبح، التفجير، الجريمة والموت هي وحدها من يحكم عالمهم. أما مؤلف "الهذيانات"، فيدرك، بحدسه الفني المتميز، بأنه من المستحيل فك مأزق الموقف، وبالتالي إنقاذ الطفل والرجل من قبل القوى التي خلقت وما زالت تتحكم بالموقف. لا شيء في المسرحية يشير أو يوحي من بعيد بأن"مواطن"، كمسرحية، قد وضعت في حسابها، أو مخيلتها إمكانية زائفة كهذه. أن تعيّين النقطة التي تقفُ عندها، إن كانت على صعيد المكاني، الأخلاقي، والجمالي تجعلها في موقع أكثر نبالة بما لا يُقاس عن خسة والتباسات الموقف ذاك، حتى وإن كان حاضرة في صميمه والأقرب له من أي شخص آخر. نحن هنا أمام ولادة ما يمكن تسميته "الفنان صاحب القضية"، أي المبدع وهو داخل المحنة، وليس خارجها، الفنان الذي لا يكتب عن مأساة، أو كارثة هي ليست مأساته أو كارثته الشخصية. ولادة جديدة "لصاحب قضية"، حتى وإن سبقت ولادته عشرات أو مئات الولادات من قبل. ولادة فجر آخر، ما زال ينازع بشجاعة ودقة ضد غيوم الموقف السوداء والعبثية. في هذه النقطة، تكمن أصالة، قوة وعنفوان المبدع الكبير قاسم مطرود.