الرواية الشابة بين مدركات الحس والتأويل - جعفر كمال
في هذا الجزء من دراستي في الرواية العربية أتناول: مدركات الحس فيما يوحي لما بلغ معه السَّعْيَ من الظاهر، أي ما توضح للكاتب من محققات الإلهام،
من وحي متناولات البعد الايعازي، بين تغذية قوة الإدراك، ووسيلة التصرف في الجملة وعناصرها، والبحث في الخلق الانسيابي للأحداث، وتسوية تنفيذ فعلية للواقع وتحويلها إلى تصميم يقرأ المتغيرات، ويفهم دلالاتها.
كل هذه الأمور جعلت من الرواية العربية محور تجديد للحبكة التحديثية في تهذيب البرمجة الذاتية. وتشذيب البرمجة العضوية الوظيفية. في مكونات الرواية الشابة، مولعة بتقنيات الأسلوب الشبابي المجدد في مؤثرات اللقطة اليومية السريعة، التي تتفاعل ايجابياً مع المشخصات الأدبية واتصالها بالمظاهر المجتمعية. والملاحظ أن الروائي العربي عبر مسيرته الروائية بّرز قوة العناصر الدالة على براعتها أو سذاجتها، من مبدأ مسيرة اتصالها ببيئتها ومحيطها، وفي هذا المجال حدد الروائي قصي الشيخ عسكر الذي أنا في صدد تناوله في هذا الجزء من دراستي: الارهاصات الواقعية التي تناولها ودرسها في عمومها، من الجوانب المعنوية ومؤثراتها النفسية. شأنه شأن المجددين أمثال: الروائي الياس خوري، وواسيني الأعرج، وأحلام مستغانمي، ومهدي علي الراضي، الذين تناولوا الكائنات بالتحليل والتفسير والموازنة والاستنباط فأبدعوا في هذا الشأن.
وكذلك هو الشأن في تناوله للعملية السياسية القائمة حينها، فقد برّزَ الصراعات الحزبية بين الحزب الشيوعي، الذي كان له وقع مؤثر وقبول الناس به، حتى أنه كان يتسيد الشارع بدون منازع، وبين حزب البعث القومي ذي النزعة الشوفينية المؤذية للنفس البشرية، وكان مرفوضاً لدن العراقيين عامة، باستثناء مجموعة صغيرة من الضباط، ذوي الميول الانقلابية على نظام ابن الشعب عبد الكريم قاسم، تلك الخلافات التي ذاع صيتها في خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي، شكلت عاملا مهماً لإنتاج ومعالجة هذا الصراع بوعي الأجناس الأدبية: شعرا، وقصة، ورواية.
ولملاءمة الاتجاه الجديد، وبلوغ الروائي مراده المرن، فقد أسس الشيخ عسكر حبكة مثيرة البناء في حداثتها الموزونة بإسقاطاتها اللغوية والبنائية، التي كرس فيها أسس محاور ذات قيمة عالية الدقة منها:
- أن الأدب فن ذكي، وهو يتقدم كل الفنون الأخرى، عبر طرق وأشكال الوحي الذاتي.
- وهو فن يعتمد على الجمال في التعبير عن العواطف والمشاعر الإنسانية.
- وهو فن ينير السبيل إلى أن تكون الآثار اللغوية مفيدة ومؤثرة وممتعة تغذي العقل والشعور والأذواق.
فالسرد في رواياته وخاصة في رواية :"نهر جاسم" جاء متنقلاً في دائرة المعاني حول موضوعاتها، منشطا محاور الوصف، والجدل، ومشخصاً قوة الإدراك المستقل في المكون الروائي، مستفيداً من معالجات الروائي الذكي غائب طعمه فرمان، والروائي المعروف عالميا ماركيز، اللذين اشتغلا على تشخيص المجرد الحداثي، وسبر أغوار الجملة، وتكثيف إرهاصاتها، وجعلها تتبني أسلوب الحوار السريع. والتأثر ليس عيباً، كون التأثر يعتبر من المسائل الفطرية التلقائية، إذا توقف عند الإعجاب فقط، ولكن المأزق أن يبقى هذا الأديب أو ذاك متأثرا طول حياته، وتابعاً مطيعا لنصوص الآخرين، إذا لم يتحرر كلياً ويصنع له أسلوبه الخاص، معتمداً على التجديد العلمي والفني المفتوح على قريتنا العالمية الصغيرة، الذي أصبح الممول والمحرك الدائم لحركة التنشيط والتهذيب للنص الأدبي، ولكي لا يكون الكاتب تابعا مطيعا ومتأثراً بالتلقائية المباشرة، عليه أن ينفصل بذاته الإبداعية، كونه يمتلك نواصي المعرفة بهذه الأمور المتصلة بالمسؤولية اتجاه أدبه وسمعته وشخصيته الأدبية، كما هو الحال في روايته "نهر جاسم"، لما لهذا التوجه من ايجابيات تنعكس على ترتيب نصوصه وثقافته ولغته، لأنه القادر على تفعيل إحساسه ومشاعره، وتدبير هذه القيمة الفنية أو تلك بالخلق والموازنة، لما يكتسب أسلوبه من تميز عن الآخرين، وقول القرآن: " أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت" وإن أختلف مفهوم الآية القرآنية بمضمونها التوحيدي الفقهي، بين الحق والباطل، إلا أن إيعاز مضمونها الذاتي الذي اخترناه جاء مطابقاً لتحليلنا، هذا إذا اعتبرنا النفس وما كسبت، أي الملكية الذاتية في محاور تفكيره وإعداداته البيانية للعقل، هي ملائمة لمقتضى الحال الإبداعي لأنه مردود إيجابي، فمسألة النية في تحييد الكاتب بشخصه عن المغريات ووسائلها الكتابية الأخرى، وإبقائه في ما اكتسب، هي حالة يجب أن تكون صافية ونقية فيما يؤرخ لإبداعه.
والوارد الذي حققته وكشفته الرواية الموسومة ب "المكتب" للروائي قصي الشيخ عسكر، التي اقتضت طرح أهواء الطلبة ومزاجهم، تلك التي تضع الشاب في مثل هكذا عمر، يبحث عن الجديد والمتغير، في الثقافة والعلوم وشغف المراهقة العاطفية. وفي ذات السياق زاوج الكاتب تأثير إرهاصات الثورة اليسارية الطاغية على الشارع العراقي آنذاك، التي كانت تتصدر الأفكار والسياسات المختلفة قومية وأممية. خاصة من خلال معالجات محاور القوة المحركة، في الأدوات والمفردات التي تشكل القدر الموضوعي للمجتمع. كان هذا ومازال مبدأ التصالح والتلاقي في الرواية العربية عامة، التي تبحث عميقا في العادات والتقاليد بلغة شعبية، متبنية الأعراف الدينية المتخلفة بقوة، وحتى الخرافية، فهي أي الرواية العربية لم تنتقد هذا الأيمان بالشئ ومثيله المتخلف، بل العكس من هذا تجدها ترسخه بقوة في العقل العربي الموغل في الجهل، غير المؤهل وعيا وثقافة، والمؤمن بالغيب والشعوذة. في حال تجد الرواية الأوربية عند جيمس جويس، الايرلندي أحد أبرز مجددي الرواية الأوروبية، كما في روايته الشهيرة "يقظة فينيجان" وروايته الأخرى "أوليس" التي تناولت مفهوم ما سميّ في حينها "بتيار الوعي" الذي عمد الأسلوب المتمثل في سرد الشخصية للأحداث والأفكار بشكل عفوي، في حين شخص الجوانب التجديدية الإيحائية التي تقوم على مفهوم توارد الأفكار وترابطها، بتراتبية تتخذ من البنية الثقافية طابعا معلنا في وحدة السرد، مطابقا بين اللفظ والمعنى في الحدودية اللغوية وكما يقول أبن رشيق: "اللفظ جسم وروحه المعنى".
والمراد من هذا الاختلاف إضافة الخلق والتجديد، وتقديره أن النص المجدد مؤثراً في الوجود لذاته، وهذا يقودنا إلى مفهوم هادي العلوي: "كل ما هو مؤثر بأحداثه، ومبدع في خلقه فهو حداثوي"، وهذا يؤدي بالنتيجة إلى أن يجعل من الكاتب يبحث في التخيل أقصاه، ويأخذ بمعطيات البحث عن الغرابة من واقعه المحيط به، حتى يكتشف ما أراده من نحو بليغ في تركيبة الصورة التي تبوح للمعنى دقته وإخراجه وتباينه. وفي هذا الخصوص ظهرت تيارات فكرية ثقافية مناهضة للجيل الروائي الأول، الذي وضع الرواية العربية على مسار الشهرة، خاصة عند توفيق الحكيم، والتكرلي، وحنا مينا، والطيب صالح، وسميرة عزام، فأدت هذه الرواية إلى نتيجة ظهرت آثارها على القارئ العربي في تجلياتها بعيدة المدى، فخلقت تجديداً متطوراً ملحوظاً في الوعي الشبابي، في فوران الرؤية المثالية والمادية معاً في عصر النهضة العربي.
أما الرواية الشابة فقد حققت في مسارها الحداثي توسعا دراماتيكيا، مما ترتب عليه نشوء مصطلحات جديدة ومتغيرات فكرية، تبعا للأحداث السياسية والاجتماعية، فتباينت الأحداث على ضوء ما انعكس عليها الأسلوب الحياتي المتغير، وهذه الضغوط التحديثية شكلت عاملا ايجابيا، لأن تخلق نصاً روائياً مختلفاً، ذا نكهة سريعة الإيقاع، في تبسيط الحدث وشروع متانته اللغوية، في اطر سردية تأخذ باستمرارية النص مشبعاً بأحداثٍ متوازية في الخلق الإبداعي، وعالية النفس في تزيين وتحسين مضامينها الروحية، من خلال عملية التناقض والربط المجرد، كونها مقنعة الهدف بشيئية بيئتها، كما هو الحال عند الطاهر بن وطار، وجيلي خلاصي، وحنان الشيخ، وقاسم قاسم.
أي أن الهدف الأصلي من خلق منظومة سردية بلغة رصينة، توصل المعاني خفيفة وسهلة إلى القارئ، هو سر النجاح والتحديث، الذي يأخذ بفاعلية عناصر التمييز الإبلاغية التي تمثل الانشغال بمدلولات النص، والتأكيد على أنها أصيلة صافية الجنس الأدبي لكاتبها، فتعني وتمثل الجانب الحيوي الإلهامي منه، أي أن هذا الكاتب يدلنا إلى المزايا الإيجابية والسلبية في ما يدور في مسالك مجتمعه، عبر منظور فني مقارب تحدده القيمة السردية، من خلال انسجامه الروحي والمعنوي مع الحدث، ليبرزه لنا بأحداث تستقطب المتلقي وتأسره في معانيها وألفاظها البينة، التي تؤسس للعمل الروائي تباينه الفكري والفني في لغة الإخصاب والاختصار والتكثيف، عبر الحوارات السريعة المفيدة في توصيل معانيها، لكي تؤسس لسلطة أقناع القارئ بأهمية وفحوى طبيعة الأحداث ومبتغياتها. كما هو الحال في رواية "خلف السدة" للكاتب: القاص والروائي عبد الله صخي. الصادرة حديثا عن دار المدى. ورواية "هوركي أرض آشور" للروائي صبري هاشم الصادرة عن دار كنعان. بعكس ما يظنه البعض من الكتاب، أن كثرة الرموز والتهويم والتعقيد، هي نصوص متينة وحديثة الأسلوب، وحصيفة المعاني، وبليغة الألفاظ. أما السر الحقيقي في هذا التوجه الكتابي إنما يدلنا هذا المؤلف أو ذاك إلى حضوره الشخصوي الذاتوي المغلق لا غير.
وما يفسر رغبة القارئ وانجذابه للرواية الناجحة هو تميز الكتابة وإثراء النص بفكر معاصر يأخذ باللغة إلى الإحاطة بدراسة جوانب الشخصية: أن تكون بالمستوى المطلوب في تكوينها وترابط لغتها العاطفية منها والعملية، وغرابة الفهم في الأسلوب وعناصر تكوينه، كما هو الحال عند الطاهر بن جلون وغائب طعمه فرمان. وبهذا يستحق النص الروائي التأمل في قراءته ودراسته، لما ينقله هذا السرد من تحول في الرؤية الايجابية بطريقة النقلة الحداثوية السريعة، ومفهوم التحديث هنا هو التميز الإبداعي في بلاغة السرد من خلال الخصائص والمستلزمات التجديدية، وتلازم العناصر العقلية والانفعالية والسلوكية، والمهم هنا الأخذ بنظر الاعتبار الابتعاد عن السرد الروائي الخاضع لأسلوب السلف التقليدي الصارم.
ولهذا فالدخول إلى عالم القاص والروائي قصي الشيخ عسكر يجب أن يعتمد على التركيز في المحصلة الأولى، على المنهج المعتمد في تحليلاته لجوانب غامضة في الشخصية مثل:
- الميول إلى الصمت بدون هدف مسبق يعنيه.
- الصوت غير المنطوق، ودلالات منطوق الإيماءة.
- أشكال السماع التي أراد لها الكاتب أن تتوزع في ثلاثة مقاصد: من يستمع بعقله، ومن يستمع بقلبه، ومن لا يرغب أن يستمع بالاثنين معاً.
بمعنى أن الكاتب استحدث تحليلاً فسيولوجيا للحواس التي تتعاطى مع طبيعة الخواص العاطفية في الضمير غير المعلن:
المتمردة على الأسلوب الحياتي اليومي:
أيجاب = لأنها تأتي بخواص حياتية جديدة، الأمر الذي يجعل هذه الشخصية في مرتبة فكرية رفيعة.
أو المتحدة معه:
سلب = لأنها تتطابق مع الخواص الروتينية للحياة. وهذه الخاصة تجعل من الإنسان مطيعاً وخاملاً وغير فاعل.
هذه الخواص التي تنتجها الأحداث والتطورات الاجتماعية والعائلية منها، وما يحيط بها من منعطفات نفسية غير مستقرة تستعرض حالة الشخصيات بقوانينها الملزمة عنوة.
ولكي أوصل القارئ إلى ما أنا قاصده ندخل إلى أحداث الرواية " المكتب " الصادرة عن "مطبعة أبن حيان" في أيلول من عام 1989، صمم غلاف الرواية أحمد معله.
وفي هذا العمل أستطاع الروائي أن يلزمنا بتجانس رؤيته التحليلية في بلاغة وأهمية الرواية الشابة، وتطابقها مع نظرته التجديدية التي تعلن عن تجانسها مع دراستي هذه،
والمقطع التالي يجعلني أنا القارئ منسجماً مع النص الروائي حيت يطلعني الكاتب على:
" معدله العام دون شروط الجامعة.
علق سلمان العلي على كلام زوجته، موجها سؤاله لكريم:
ماذا تنوي أن تفعل؟
لم يكن ينتظر الوقت ليفكر. قال على الفور:
أعمل في محل أهلي. وظيفة الحكومة لا تنفع. أشتغل مدة واجمع مالاً، ثم أرحل لأكمل دراستي.
قالت خديجة، وقد عادت علامات الفرح ترتسم على وجنتيها:
أنت وحيد لن يأخذوك إلى خدمة العلم.
قال الزوج كأنه يطمئن امرأته:
لو كنا نسكن البصرة لوجد عملا في شركة أجنبية.
ثم عقبت بعد فترة صمت:
سأحاول اتصل بمعارفي عسى ولعل. "