ربى الجمّال... الملاك الحزين
أربع سنوات على رحيل المطربة السوريّة «المجهولة»
كان الحزن يرتسم في عينيها عندما تغني. وحيدة على الخشبة، وحيدة في دفاعها عن الفنّ الأصيل، وحيدة في الحياة وفي الموت أيضاً. لم يمشِ خلف نعشها، قبل ثلاث سنوات، سوى حفنة من الأصدقاء. هل تعرفون ربى الجمّال؟
اسمها قد لا يعني الكثير للجمهور العريض. مطربة سورية أرمنيّة الأصل، لبنانيّة الأم، توفيت في ظروف مؤلمة وهي لم تتجاوز الـ39 ربيعاً. ظلت هذه الفنانة مغمورةً في حياتها بسبب التهميش الإعلامي لها، بعدما أبت أن تركب موجة الفيديو كليب وفن الرواج الرخيص. بعد رحيلها، لم تأت على ذكرها سوى مقالات قليلة، متضاربة المعلومات... وخصوصاً تلك التي روت أحداث حفلتها الأخيرة في الشام، ذات مساء مشؤوم من آذار/ مارس 2005. إذ اتهم بعضهم السلطات، ونقابة الفنّانين، بإهمال ربى ومعاملتها بشكل غير لائق، ما سبّب لها جلطة دماغية أودت بحياتها. كما قيل إنّ ثلّة صغيرة من الأصدقاء المقرّبين حضرت دفنها، مثل موزار الذي لم يمشِ أحد وراء نعشه سوى كلب شريد، ثم دُفن ــــ هو الآخر ــــ في مقبرة جماعية.
ولدت دزوفينار قره بيتيان في مدينة حلب السورية عام 1966، وأظهرت في سنٍ مبكرة تعلّقاً بالفن الأصيل وموهبةً في أداء أصعب الأغنيات الطربية. بدأت الغناء في المدرسة ثم اختارت طريق الفنّ بعدما اتضح أنّها تملك صوتاً وحضوراً استثنائيَّين. أحيت تحت اسمها الفني، أي ربى الجمال، العديد من الحفلات في الوطن العربي. وكانت تختار أصعب الأغنيات من فئة الطرب الأصيل. مالت خصوصاً إلى روائع أم كلثوم، ولا نبالغ إذا قلنا إن تلك الأغنيات اكتسبت إضافةً جماليةً مع ربى، بفضل تمكّنها المطلق من التطريب والخروج عن اللحن الأساسي، بغية تلوينه وتحميله بأحاسيس خاصة تعطي العمل أبعاداً جديدة. وفي الفترة الأخيرة من حياتها كتب ولحّن لها الفنان ماجد زين العابدين أربع أغنيات هي: «لأ يا قلبي»، «أودعك»، «صبرني يا قلبي» و«ليالي العمر».
ليس لربى الجمّال أي تسجيل صادر رسمياً، وليس أمام مَن يريد اكتشافها أو استعادتها سوى أن ينبش بعض التسجيلات القليلة بالصوت، أو بالصوت والصورة، لإطلالات قليلة لها عبر قنوات تلفزيونية عربية أو تم رصدها مصادفةً على أثير الإذاعات (وهي مدعوة الآن إلى نشر ما تملك في أرشيفها للجمال، علّنا ننصفها ولو بالحد الأدنى المتاح). وما يمكن الحصول عليه من أداء ربى لأغنيات أم كلثوم، هو تسجيل جزئي لـ«الأولة في الغرام» (زكريا أحمد/ بيرم التونسي) حيث تبدع في أداء يعكس شخصيتها الكئيبة (كالتطريب المبكي لعبارة «اسعفيني يا عين»). وآخر لـ«عودت عيني على رؤياك» (رياض السنباطي/ بيرم التونسي) وذلك في إطلالتين عبر برنامج «ليلة حظ» (المؤسسة اللبنانية للإرسال). وهناك تسجيل يفوق الوصف لأغنية «افرح يا قلبي» (رياض السنباطي/ أحمد رامي، من فيلم «نشيد الأمل») في دار الأوبرا المصريّة، حيث ترافق ربى الجمّال الفرقة القومية العربية للموسيقى بقيادة سليم سحّاب. هذا إضافة إلى تسجيلات مصوَّرة قليلة لأغنيات كـ«اسأل روحك» و«ليلة العيد» وديالوغ «مجنون ليلى» الذي تؤديه مع الفنان وديع الصافي (يؤديه عبد الوهاب وأسمهان في فيلم «يوم سعيد» ــــ 1939)، وأخرى صوتية («انت عمري»، «أنا في انتظارك»...)
يقال إنّ ربى الجمال كانت مزاجية وعصبية، تتناول المهدئات. والمؤكّد أنها كانت شديدة الكآبة، يرتسم الحزن في عينيها عندما تغني. وهي «الملاك الحزين» (كما لقبها أحد الباحثين في الموسيقى) الذي يثور إذا صدر تشويش من الجمهور أو إذا وقع خطأ في المرافقة الموسيقية. كانت هذه المغنّية تتمتّع بإحساس موسيقي عالٍ، يخوّلها التقاط أدنى ضعفٍ في أداء الفرقة. ومن هنا كبرياؤها الشديد ــــ إنما غير النافر، ــــ الذي كان بمثابة لمسة أخيرة على جمالها الخارجي وعظمتها الفنية... وكان يقع الخلاف دائماً مع الموسيقيين، كلما عجز هؤلاء عن مرافقتها في خروجها الدقيق عن اللحن، فينغّصون عليها سعيها إلى السلطنة. بل كان بعضهم يرى في هذه الدقة شيئاً من المبالغة. ربما! لكنّ فنانة من هذه الخامة النادرة، وقعت في بلدها ضحيّة الإهمال، إذ حُرمت من الموسيقيين الذين تستحقّهم، من ذوي الخبرة والمهارة، ليرافقوها في حفلاتها. وهذا الأمر سبّب لها مشاكل تقنية مشينة فعلاً. وقد ولّد ذلك لديها حالة عصبية، وهستيرية مرضيّة، تعدّ من الأسباب الرئيسة لرحيلها المبكر. في أحد التسجيلات الصوتية لأغنية «أنا في انتظارك» (زكريا أحمد/ بيرم التونسي)، تبدأ الفرقة الموسيقية بعزف المقدمة بحسب مقام الأغنية الرئيسي (حجاز). وعند الإعادة «يشرد» عازف الأورغ، وينخفض صوتاً كاملاً فيخرج عن المقام، ولو أنه يلعب الجملة بشكل صحيح من حيث علاقة النوتات وبعد بعضها عن البعض الآخر (ما يُعرف بالـ«ترانسبوزيسيون» Transposition إذا كان مقصوداً في اللحن، لكنّه هنا محض نشاز!). نفور الصوت يرغم الفرقة على التوقف بعد بعض البلبلة. لكن الأسوأ من ذلك، أنها تعاود العزف، وتنقاد إلى الموضع الخاطئ الذي فرضه الأورغ، ما يؤدّي إلى نسف روح مقام الحجاز المحمّل بالشجون!
تلك الأمسية غنّت ربى بصعوبة، هي الحريصة على روح فنها، وكذلك فعلت في معظم حفلاتها. تركت للقهر أن يفترسها من الداخل. لم تقل كلمة. لم ترض على نفسها أن تسبّب إهانة للموسيقي الرديء. صمتت. توقفت عن الغناء والتجأت إلى الكواليس. عندما عادت كان الموسيقيون قد جمعوا عدّتهم، والجمهور قد أخلى الصالة... لم يعد أمامها إلا الرحيل! من يردّ للطرب العربي رسولته الحزينة؟
-------------------
«جمع صوتها بين مدرستي أم كلثوم وأسمهان»، هكذا يقول إلياس سحاب عن ربى الجمّال. من الإرث النادر والقيم الذي تركته المطربة الكبيرة الراحلة، تسجيل مصوّر للقاء جمعها بالفرقة القومية العربية للموسيقى بقيادة مؤسسها، الموسيقي اللبناني سليم سحّاب. كان ذلك مطلع التسعينيات. يومها أدت ربى أغنية «إفرح يا قلبي». ظهورها العابر واليتيم مع الفرقة، ما زالت أصداؤه تتردد لغاية اليوم، وأثره الفريد انطبع في سجل الفرقة التي قدمت مئات الأعمال من روائع الموسيقى الشرقية، ورافقت عشرات المطربين والمطربات. تلك الليلة، كان الباحث الموسيقي إلياس سحّاب (الشقيق الأكبر لسليم) جالساً بين الجمهور. يستعيد سحّاب الحدث من دون أي جهد، لأنّ صوت ربى الجمال، وحضورها القويّ، حفرا التفاصيل في ذهن هذا المستمع العارف بأصوات الشرق الأصيلة منذ عصر النهضة العربية لغاية اليوم.
«اعتدت حضور الحفلات التي كانت تقدمها الفرقة منذ تأسيسها أواخر الثمانينيات، حيث كان برنامجها يطال روائع الموسيقى العربية، وخصوصاً من مصر ولبنان. وكانت الفرقة تستقطب بفضل السمعة الجيدة التي حققها نجاحها، الأصوات الجميلة من الوطن العربي. هكذا أتت ربى إلى القاهرة للمشاركة في مهرجان الأغنية العربية، والتقيناها، سليم وأنا، بداية في جلسة خاصة، غنّت خلالها مقتطفات من أغاني أم كلثوم. في العادة لكلّ منّا رأيه المختلف في عمل موسيقي أو صوت معين. وكنا نعرف أنّنا إذا اجتمعنا على رأي معيّن، فمعناه أننا أمام حالة خاصة! يومذاك اتفقنا مندهشَيْن على أنّ صوت ربى يجمع بين أكبر مدرستين في الغناء العربي: أم كلثوم وأسمهان. في حين يمكن أن ننسب معظم الأصوات النسائية الكبيرة، إما إلى هذه المدرسة أو تلك، باستثناء نجاة الصغيرة التي كانت تجمع بينهما أيضاً. لكن الفرق كبير ــــ من جهة قوة الصوت ــــ لصالح ربى الجمال. في الحفلة، عندما استهلت مطلع «إفرح يا قلبي»، ذهل الجمهور الحاضر (حوالى 1500 شخص) وأتذكر كيف سيطر صوتها على القاعة والحضور. بل إنّ سليم كان على شفير البكاء من شدّة التأثر. وأذكر أن أمجد العطافي، صاحب الصوت الأبرز في كورال الفرقة الذي كان يتوّلى الغناء المنفرد، قال له: «يا مايسترو، كلنا لازم نعمل كورال وراء الصوت الرائع ده».