ليـــــــــــــل الغربــــــــــــــــــــــــــة منتــــــــــــــــــــدى منـــــــــــــــوع موسوعــي |
لكل الكرام المسجلين في منتديات ليل الغربة ، نود اعلامكم بأن تفعيل حسابكم سيكون عبر ايميلاتكم الخاصة لذا يرجى العلم
برفقتكم الورد والجلنار |
|
| انطون تشيخوف | |
| | كاتب الموضوع | رسالة |
---|
Fati المديــــر العــام
اسم الدولة : فرنسا
| موضوع: انطون تشيخوف الثلاثاء ديسمبر 15, 2009 10:24 pm | |
| ________________________________________ مُزحَة
قصة: أنطون تشيخوف ترجمة: أحمد حسن المعيني نقلتها إلى الإنجليزية: كونستانس غارنت
كان يومًا شتويا مشرقًا، وكان صقيعٌ حاد، وكانت قطعٌ فضية منه تغطي الخصلات المتحدرة على جبين (نادينكا)، وأسفل شفتها العليا. كانت تتمسك بذراعي ونحن واقفان فوق تلةٍ عالية. ومن مكاننا حتى قاع الأرض امتد سهلٌ انعكستْ عليه الشمسُ بوضوحٍ وكأنه مرآة صافية. وإلى جانبنا كانت مزلجةٌ عليها قماشٌ أحمر اللون فاتحه.
رجوتها قائلا: "هيا بنا لنتزحلق للأسفل يا نادينكا. مرةً واحدة فقط. أؤكد لكِ أنه لن يحدث أي مكروه".
ولكن (نادينكا) كانت خائفة. فالمنحدر الذي يبدأ من تحت حذائها الطويل إلى أسفل التلة الثلجية بدا مريعًا لها كأنه هاوية سحيقة. خانتها شجاعتها وحبست أنفاسها وهي تنظر إلى الأسفل، بعد أن اكتفيتُ بأن اقترحتُ عليها امتطاء المزلجة، ولكن ماذا لو كانت هناك مخاطرة بالسقوط إلى الهاوية؟ كانت ستموت، كانت ستفقد صوابها. قلتُ لها:" من أجلي أنا، لا تخافي. لا يجدر بك الخوف، فهو مرضٌ للنفس وجبنٌ عظيم".
استسلمت (نادينكا) أخيرًا، ومن ملامح وجهها أدركتُ أنها استسلمت وهي تختنق فزعًا. أجلستها على المزلجة، وهي شاحبة مرتعدة الأوصال، ثم طوّقتها بذراعي، ودفعتها وأنا معها إلى أسفل الهوة السحيقة.
انطلقت المزلجة كالرصاصة، والهواء المندفع بفعل تحليقنا ضرب في وجوهنا بكل قوته وهديره، ثم أطلق صفيره الحاد في آذاننا، وتمزّق على أجسادنا، ثم اشتدت قرصاته في وهج غضبه وحاول أن يقتلع رأسينا من على أكتافنا. كنا بالكاد نتنفس تحت ضغط الريح. بدا الأمر وكأن الشيطان نفسه أمسك بنا بمخلبيه وأخذ يسحبنا إلى الجحيم تتبعه زمجرته. كل ما كان يحيط بنا ذاب في خطٍ رفيع طويل طويل يتسارع بشدة. لحظة أخرى وبدا أننا لا بد هالكان.
قلتُ بصوتٍ خفيض: "أحبكِ يا ناديا". بدأت المزلجة تتباطأ في حركتها أكثر فأكثر، وخَفتَ هدير الريح وطنين الهواء، وغدا التنفس أسهل، وأخيرًا وصلنا إلى الأسفل. كانت (نادينكا) أقرب للموت منها إلى الحياة. كانت شاحبة لا تكاد تتنفس، فساعدتها على النهوض.
قالت وهي تنظرُ إليّ بعينين ملؤهما الرعب: "لا شيء سيجعلني أكرر ذلك. لا شيء في هذا العالم كله. كدتُ أموت".
بعد دقائق استعادت اتزانها ونظرت إليّ بتساؤل، هل نطقتُ فعلا بتلك الكلمات الثلاث، أو أنها تخيلتْ ذلك في غمرة الإعصار؟ جلستُ بجانبها أدخّن وأنظر بإمعانٍ في قفازي.
تأبطتْ ذراعي وقضينا وقتا طويلا نمشي قرب التلة الثلجية. من الواضح أن اللغز أرهقها. هل سَمِعَتْ تلك الكلمات أم لا؟ نعم أم لا؟ نعم أم لا؟ كانت مسألة كبرياء أو شرف، مسألة حياة..كانت مسألة في غاية الأهمية، بل أهم مسألة في العالم. ظلت (نادينكا) تنظرُ في وجهي بنفاد صبرٍ وحزن نظرة حادة. كانت تجيبُ بعشوائية، تنتظر ما إذا كنت سأتكلم أم لا. ياه، يا لهذا اللعب بالمشاعر على هذا الوجه الجميل! لاحظتُ أنها كانت تصارع نفسها، وأنها كانت تريد قول شيء، تريد أن تسأل سؤالا، ولكنها لم تجد الكلام. شَعَرَتْ بأن الفرحة تسقيها حَيرةً وخوفًا وارتباكًا.
قالت من دون أن تنظر إليّ: "لدي فكرة". فسألتها: "ما هي؟" - هيا بنا..نتزحلق للأسفل مرة أخرى.
عانينا في تسلق التلة الثلجية من الدرجات مرة أخرى. أجلستُ (نادينكا)، وهي شاحبة مرتعدة الأوصال على المزلجة. مرةً أخرى طرنا نحو الهاوية الرهيبة، ومرة أخرى قابلنا هدير الريح وطنين الهواء، ومرة أخرى عندما كان انحدارنا في أصخب لحظاته وأسرعها، قلتُ بصوتٍ خفيض: "أحبكِ يا ناديا".
عندما توقفت المزلجة، رشقتْ (نادينكا) ببصرها التلة التي انزلقنا عليها، ثم تفرستني بنظرة طويلة، وأرهفت السمع لصوتي الذي لم يكن فيه مثقال ذرة من اهتمام او مشاعر. وكلّ جسمها، كل جزء منه، حتى الفراء والقبعة عليها أصدر أقصى علامات التعجب، وعلى وجهها أسئلة محيّرة: "ما معنى هذا؟ من نطق بتلك الكلمات؟ هل قالها، أو أنني تخيلتها فقط؟" أقلقها ذلك الشكُ وأفقدها صبرها. لم تجب الفتاة المسكينة على أسئلتي، وعبست، وبلغت أدمعها طرف جفنيها.
سألتها: "ألم يكن من الأفضل لو ذهبنا إلى البيت؟". قالت هائجة: "أنا..أنا أحب هذا التزحلق. هلا تزحلقنا مرة أخرى؟". لقد "أحبّت" التزحلق، ولكنها عندما ركبت على المزلجة، كما في المرتين السابقتين، كانت شاحبة مرتعدة الأوصال بالكاد تتنفس من فرط الفزع.
تزحلقنا للمرة الثالثة، ولاحظتُ أنها كانت تحدق في وجهي وتراقب شفتيّ. ولكنني وضعتُ منديلي على شفتي، وسعلتُ، وعندما وصلنا إلى منتصف التلة استطعتُ أن أتمتم بـ"أحبكِ يا ناديا".
وبقي اللغز لغزًا. كانت (نادينكا) صامتة، تتفكر في شيءٍ ما. رافقتها إلى البيت، وحاولتْ أن تمشي ببطء، تخفف سرعتها تنتظر ما إذا كنت سأقول لها تلك الكلمات أم لا، ولاحظتُ كيف أن روحها كانت تعاني، وكيف كانت تجتهد كي لا تقول لنفسها:"لا يمكن أن تكون الريح قد قالتها. ولا أريد أن تكون الريح هي التي قالتها".
في الصباح التالي تركتْ لي رسالة جاء فيها: "إن كنت ذاهبًا للتزحلق اليوم، خذني معك. ن".
ومنذئذٍ بدأتُ أذهب كل يومٍ للتزحلق مع (نادينكا)، وبينما نحن نطير بالمزلجة، كنتُ أقول في كل مرة بصوتٍ خفيض نفس الكلمات:"أحبكِ يا ناديا".
وسرعان ما اعتادت (نادينكا) على تلك العبارة وأدمنتها كالكحول أو المخدر الذي لا فرار منه. لم تستطع العيش من دونها. نعم كان التزحلق فوق التلة الثلجية يرعبها كما كان في السابق، ولكن الخوف والخطر أضفيا سحرًا غريبًا على كلمات الحب. تلك الكلمات كما كانت دومًا، لغزًا يحير النفس ويعذبها تشويقًا. وبقيَ المشتبهان كما هما، أنا والريح. لم تكن تعرف أيا منا كان يمارس الحب معها، ولكنها بالتأكيد بدأت تفقد الاهتمام بذلك. ما دام الشرابُ مُسكرًا كلُ الكؤوسِ سواءُ.
وحدث يومًا أن ذهبتُ إلى ساحة التزلج وحيدًا، وبينما أنا بين الجموعِ رأيتُ (نادينكا) تصعد التلة الثلجية وتبحث عني، ثم نزلتْ من على الدرجات في حياء. كانت تخافُ أن تذهب بمفردها. يااه كم كانت تخاف! كانت بيضاء كالثلج، ترتعد، وكأنها تسوق نفسها إلى مقصلتها. ولكنها ذهبت، ذهبت دون أن تنظر وراءها، بإصرار. من المؤكد أنها قررت وضع الأمر في محك الاختبار أخيرًا. هل كانت تلك الكلمات الجميلة ستُسمع من دون وجودي؟ رأيتها شاحبة، انفرجت شفتاها بفزع، وركبت على المزلجة، فأغمضتْ عينيها لتقول للأرضِ وداعًا إلى الأبد. تزحلقت.. لا أعرف ما إذا كانت (نادينكا) سمعت تلك الكلمات أم لا. رأيتها فقط تنهض من على المزلجة باهتة المنظر شديدة الإعياء. وكان من السهل الجزم بالنظر إلى وجهها أنها لم تكن متأكدة ما إذا سمعت شيئا أم لا. لقد حرمها فزعُها وهي تطير إلى الأسفل حاسة السمع، وتمييز الأصوات، والفهم.
وجاء شهرُ مارس، وأتى الربيع بأبهى حلله. أظلمت تلتنا الثلجية وفقدت بهاءها، وذابت. وهكذا توقفنا عن التزحلق. لم يكن هناك مكانٌ آخر تستطيع فيه المسكينة (نادينكا) سماع تلك الكلمات، وبالتأكيد لا شخص آخر يقولها، حيث لم تكن هناك ريح، وكنتُ أنا ذاهبا إلى (بيترزبيرغ) لمدة طويلة، وربما للأبد.
وحدث قبل يومين من رحيلي أن كنتُ جالسًا عند الغروب في الحديقة الصغيرة التي يفصلها عن فناء منزل (نادينكا) سورٌ عالٍ عليه مسامير. كان الجو ما يزال باردًا، وبعض الثلج ركامٌ هناك قرب كومة السماد، وبدت الأشجار ميتة، ولكن عبق الربيع كان منتشرًا، والغربان تنعق وهي تأوي إلى منامتها. صعدتُ على السور ووقفتُ هناك طويلا وأنا أختلس النظر من خلال شق. رأيتُ (نادينكا) تخرج إلى الفناء وتحدق في السماء بعينين ملؤهما اللهفة والحسرة. كانت رياح الربيع تهب في وجهها الشاحب الكئيب. ذكّرَتها بالريحِ التي كانت تهبّ علينا على التلة الثلجية عندما سَمِعَتْ تلك الكلمات الثلاث، وغدا وجهها حزينًا جدًا جدًا، وانزلقت دمعة على وجنتها، ورفعت الطفلة المسكينة ذراعيها وكأنها تتوسل إلى الرياح أن تجلب لها تلك الكلمات مرة أخرى. وفي انتظار الرياح قلت بصوتٍ خفيض:"أحبكِ يا ناديا".
وحلّت الرحمة. يا لذاكَ التغير الذي حدث لـ(نادينكا)!. اغرورقت عيناها بعبراتها، ثم ملأت وجهها ابتسامة عريضة، فبدت مرحة وسعيدة وجميلة، ورفعت ذراعيها لتستقبل الرياح.
وعدتُ أدراجي لأحزم أمتعتي.
كان هذا منذ زمنٍ بعيد. (نادينكا) الآن متزوجة. لقد تزوجت -ولا يهم ما إذا كان ذلك باختيارها أم لا- ولديها الآن ثلاثة أطفال. ولم تنسَ أننا ذهبنا ذات مرة للتزحلق، وأن الرياح حملت لها الكلمات "أحبكِ يا نادينكا". بالنسبة لها، كانت هذه هي أكثر اللحظات المؤثرة والجميلة في حياتها.
ولكن الآن وأنا أكبر سنًا أعجز عن أفهم لماذا نطقتُ بتلك الكلمات، وماذا كان هدفي من تلك المزحة.
| |
| | | Fati المديــــر العــام
اسم الدولة : فرنسا
| موضوع: رد: انطون تشيخوف الثلاثاء ديسمبر 15, 2009 10:25 pm | |
|
مسرحية الخال فانيا (ملخص) أنطون تشيكوف
نحن* في حديقة بيت ريفي جلس فيها حول مائدة الشاي طبيب يدعى "استروف" وامرأة عجوز هي "مارينا" والطبيب رجل أعزب ساخط يشكو من الشكوى من حياته، فهو يسلخ عمره بين المرضى يعالج أدواءهم ويضمد جروحهم، نهاره مشغول بالعمل وليله مقطوع بتلبية الاستغاثات، ثم إنه بعد هذه التضحيات الجسام التي يبذلها للإنسانية لا يدري إن كان سيذكره أحد ممن أفنى شعلة حياته ليضىء لهم الحياة . وقد أتى اليوم خاصة ليعود الأستاذ "سيرياكوف" والأستاذ مريض عنيد يأبى إلا أن يشخص مرضه بنفسه، ويصر على أنه مصاب بالروماتزم، في حين يؤكد الطبيب أنه مصاب بداء المفاصل! يجلس الطبيب مفكراًَ في خواطره الحزينة، فيدخل عليه "فينتساى" شقيق زوج الأستاذ المذكور القديمة، ولا نلبث حتى يظهر لنا جلياً أنه هو الآخر يشكو من حياته ومن الأستاذ؛ أما حياته فلا أنها جافة مرة لا تحفظ له ذكرى جميلة من الماضى ولا تبشره بأمل زاهر فى المستقبل . أما الأستاذ فلأنه قلب نظام الدار بتصرفاته وطرق حياته الشاذة، ولكن هذا إن أمكن أن يفسر لنا سخطه عليه فلا يمكن أن يكفى سبباً لبغض مر يدفنه له في صدره ويطفحه على لسانه، فإذا سمعناه يتحدث بلهفة عن زوج الأستاذ الجميلة "الجديدة" فهمنا بعض الفهم، وإذا سمعناه يتحدث عن الأستاذ متهماً إياه بإنه أفقده ربيع حياته وهو يخدعه بعلمه المزيف وقيمته التي كان يظنها في السماء وهي في أسفل الأرض، فهمنا كل الفهم. والأدهى من ذلك أن قربه من هيلانا – زوج الأستاذ – مع يأسه منها أصاباه بنكسة خلقية، فأضحى كسولاً مهملاً سكيراً، وكان نشيطاً مجدا مستقيماً. وإذا هو في سخطه يدخل الأستاذ "سيرياكوف" وزوجه هيلانا وابنته صونيا "ابنة أخت فينتساى"، والأستاذ حديث العهد بالقرية، وهو لم يقصد إليها غلا مضطراً بدافع الفقر، وهكذا قنع بأن يقيم في هذا البيت الذي ورثه عن زوجته القديمة المتوفاة . .. يسرع الأستاذ بالدخول إلى غرفته ويبقى الجميع يتحدثون، ويدور بينهم حوار يكشف لنا الستر عن نفوسهم. فالطبيب له مبادىء ثابتة، وهو ميال للنيات ينعى علىالإنسان كسله وجبنه، إذ يهلك الغابات ويحرقها ويحرم الوجود جمالها، ويغير على حقوق الأجيال القادمة، تلك الأجيال التي هي موضع اهتمامه وقطب آماله، أما فينتسكى "الخال فانيا" فهو على النقيض من ذلك، لا تترك غرائز السخط والهدم فراغاً في صدره لغيرها، لذا هو يسخر من الطبيب ومن الأجيال القادمة التي يعمل حسابها. فإذا تحدث إلى هيلانا أبدى لها أسفه على حياتها وأشفق بها من الكسل والملل الذين يصيبانها بسبب زوجها، وهي تضيق بحديثه ذرعا وترد عليه ساخرة: "آه! الكسل والملل! جميع الناس يرمون زوجى بكل سوء .... وجميعهم يرعونني بعطف وحنان! لها زوج عجوز! يا لها من عاطفة ويا لى من شديدة الفهم لها! وإن كل الأمر – كما قال ستروف ـ أنك نزاع لإفناء كل شيء من غير تمييز، فكما تفنى الغابات تفنى الإنسان – وبهذا لا تبقى على ظهر الأرض أمانة أو سذاجة أو تضحية، لماذا لا تستطيع أن تلحظ امرأة غريبة بهدوء؟ لأنه تستقر في قرارة نفسك عبقرية التخريب .. ليس عندك رحمة لغابة أو شجرة أو امرأة". ولكنه يزوَرّ لهذه الفلسفة ولا تحفل هي بازوراره .. وتستطرد حديثها متناولة مواضيع وملاحظات شتى .. بعضها عن الريف وبعضها عن الطبيب، والبعض الآخر عن صونيا وحبها الطاهر للطبيب .. ولكن ماله هو ملاحظتها .. فإن عنده الأهم عنده هذا الحب الملتهب فهو يصرح لها به .. إلا أن أطماع حبه ضئيلة لا تتناسب مع شدة حرارته .. فهو يقنع بأن تسمح له برؤيتها، وأن تتحمل الاصغاء إليه .. ولكنه في كلامه يعلو صوته، فتحفل هي وتهمس في أذنه: "بصوت منخفض وإلا سمعنا أحد". ويرد عليها بحرارة "دعيني احدثك عن حبي .. لا تهزئي بي .. وحسبى الحديث سعادة كبرى" إلا أنها تضيق ذرعاً حتى بالحديث، وتقول له وهي تختفي عن عينيه "حتى هذا ثقيل". في سكون الليل، وفي ساعة متأخرة منه كان "سيربرياكوف" جالساً مع زوجه لا يرمق له جفن ولا يسكن له ألم . والأستاذ لا تقتصر آلامه علىجسمه الناحل، فإن نفسه مضطربة قلقة، وخياله طائش لا يدعه يستريح، فهو يتأفف من شيخوخته، أضعاف ما يتأفف من مرضه، وأي مرض هذه الشيخوصة؟ لقد أنهكته وجعلته بغيضاً للقلوب ثقيلاً على النفوس، لا يذكره لسان إلا بالسخط عليه ولاشكوى منه، وهذه زوجة أقرب الناس إليه تجزع من شكواه المتكررة وتضيق ذرعاً بأناته وثرثرته. وهو – إلى كل ذلك – فقير يتألم من الفقر، ويتحسر على جهده العلمي الضائع، وعلى الشهرة التي نشدها فما استجابت له، فإذا دخلت ابنته لم يلق منها إلا اللوم، وهي تلومه من أجل الطبيب الذي تحبه والذي يضايقه بعناده. وبينا هو موزع بين هذه الخواطر المؤلمة بدخل الخال "فانيا" ويلح في أن تنصرف هيلانا وصونيا ليناما، على أن يسهر هو معه! ويصرخ الأستاذ فزعاً، إذ كيف يمكن أن يبقى مع من يمقته مقتاً ذريعاً؟ .. فإذا ترفقت به الأم مارينا وأظهرت له ألحانا سار معها طائعاً إلى غرفة نومه كالطفل الغرير، وتخرج كذلك صونيا. ويبقى فينتسكى مع هيلانا، ويجدها متبرمة بحياتها تتألم لحال زوجها الذى لا يأمن لها، وتشكو من ابنة زوجها التي تخاصمها لأوهى الأسباب وتتأفت من أمه التي تتكبر على الجميع لما تحبه في نفسها من قوة الفهم وسعة الثقافة، وتلومه هو على كرهه المفرط زوجها. ما هذه البغضاء القاتلة؟ حقا إن العالم لا تهدد طمأنينته الميكروبات والمجرمون، نصف ما تهدده البغضاء. ثم إنها تطلب منه أن يصلح من أمر هذا البيت المشوه! هو! ولكن كيف يفعل ذلك وهو لا يدري كيف يصلح من أمر نفسه؟ وبينما هي تحادثه ينفضح أمامها وتلاحظ أنه سكران سكراً خفيفاً، وعلىكل حال فهو لا ينكر نقائصه وعيوبه، ولكنه من جهة أخرى يعلن في غير ما حرج أن حبها هو المسئول عن كل ذلك .. وتضيق بحديث حبه فتخرج.ويجلس هو إلى نفسه يحاسبها: كيف أنها عبدت هذا الأستاذ في الماضي عبادة بطل من الأبطال؟ وكيف أنها بذلت عن رضاء خيرها فيها في سبيل خدمته وتوفير الراحة له؟ ... ويقطع الطبيب عليه حبل تفكيره9 بدخوله وهو يهذى في سكره، ويتهم الخال فانيا بحب زوج الأستاذ . وينصرم حبل الجدل بينهما إذ تقبل عليها صونيا، وتندفع الفتاة تلوم خالها على سكره وقد كان مستقيماً فاضلاً، ولكنها تخفف من غلوائها إذ ترى الدمع يلمع في عينيه .. وتسمع صوته الضعيف يقول لها، "آه لو .. لو كنت تعرفين"؟ وتسأله في لهفة: "ماذا يا خال إذا كنت أعرف"؟ ويرد عليها وهو يهم بالخروج "انه لمؤلف .. أنه لقبيح .. لا شيء .. سأقول لك فيما بعد .. لا شىء .. أني ذاهب"! وتلتفت إلى الطبيب تلومه لوماً خفيفاً على سكره .. وتقول له إذا كان يجب البناء وينعي على الإنسان تخريبه مخلوقات الله الجميلة، فكيف يسمح لنفسه بأن يفنى جمسه وهو هبة من الله بالخمر والعربدة؟ وتحنو عليه وتحدثه .. بل تلمح إلى حبها، ولكنه يصدمها صدمة قاسية، فإذا سألته ماذا يفعل لو كانت له أخت تحبه؟ أجباها بأنه ليس له في الحب مجال .. ويختفي من أمام عينيها، وهكذا تصدع قلبها بمثل ما تصدع به قلب خالها في نفس المكان، إلا أن نفسها لا يعلق بها ما يعلق بنفسه من السخط والبغض . .. وتدخل عليها هيلانا وتتصافحان وتتصافيان وينساق بينهما الحديث فتؤكد هيلانا للفتاة أنها لم تتزوج أباها طمعا في شىء وإنما حباً فيه، فقد كانت تحبه كما يحب الإنسان عالماًُ من العلماء، وظنت أن هذا الحب كفيل بتوفير السعادة لها كزوجة له فخاب أملها. وهي تعترف بأنها ليست سعيدة، وتصرح لصونيا – رداً على سؤالها – إنها تود لو كان لها زوج شاب .. ثم تتحدثان عن الطبيب في إعجاب .. والظاهر أن الحديث أهاج عواطف هيلانا بحيث أحست رغبة للعزف على البيانو، ولكن زوجها لم يسمح لها بذلك فلم تفعل.
نحن في غرفة جمعت الخال فانيا وهيلانا وصونيا .. وهيلانا لاتني عن التذمر والشكوى، وصونيا تنصح لها بالعمل فهو الدواء الشافي للملل والضجر .. وتقول إن العطلة والملل معديان وإنهما فقد انتقلا منها إلى خالها وإليها وإلى الطبيب، وهنا يخرج فانيا ليقطف لها باقة من الزهور، وفي خلوة المرأة بالفتاة تعترف لها هذه بحبها للطبيب .. ما العمل؟ إنها تشك في مبادلته لها الحب، ولولا حرصها على تعلة أمل لحاولت معرفة الحقيقة. وتقترح هيلانا عليها أن تحاول معرفة ما في صدر الرجل، فإن كان حباً لها كان بها، وإن كان جفافاً اضطرته إلى أن يعدل عن غشيان الدار بتاتاً، وتوافقها الفتاة بقلب خفاق، وتقصد هيلانا غلى الطبيب وهي تحمل هذه النية ولعلها تحمل معها عاطفة أخرى تغيها على التحدث إليه!.. وينكشف لها الأمر فإذا الطبيب لا يميل للفتاة .. فلما تقترح عليه العدول عن المجىء يرفض! ويفوه بتصريحات لعلها كانت تتوقعها جميعاً .. فهو الآخر يحبها ويريد منها أن تلتقي به في خلوة .. ولكنها ترد عليه رداً لم يدل على نفور وربما لم يدل على عدم ميل .. ويلح عليها، بينما الخال فانيا يقف بالباب يشاهد ويسمع، فإذا دخل غير الطبيب الحديث في اضطراب، وخرج لا يلوى على شىء! وتستغيث هيلانا بفانيا وتلح عليه أن يحمل زوجها على الرحيل لأنها ما عادت تطيق جو هذا البيت ولكنه لا يأبه بها ويكتفي بأن يقول لها أنه شاهد وسمع. ويدخل الأستاذ ومعه حماته القديمة "أم فينتسكى" ويعرض اقتراحاً ببيع البيت والأرض ويشتري بثمنهما "فيللا" في فنلندا، فيتصدى له الخال فانيا معترضاً ويثور عليه، ويتهمه بإفساد حياته أيام كان مخدوعاً في علمه، مثبتاً له، ويقرأ له ويعمل يومه من أجله ... والآن ها هو ذا يحاول طرده من البيت الذي كان له أكبر الفضل في وجوده، ويزداد هياجه فيحاول قتل الأستاذ ... إلا أنه لحسن الحظ لم يفلح .. وبعد كل ذلك تصرخ هيلانا وتقول إنها تؤثر الموت على مثل هذه الحياة في هذا المكان .. فيزمع الأستاذ الرحيل.
يدخل الخال "فانيا مضطراً ويسرع خلفه الطبيب استروف، ونفهم مما يدور بينهما أن الخال اختلس منه بعضاً من المورفين ليقضي على حياته، والطبيب يقول له إذا أردت الموت فأمامك الغابات، فاقض علىنفسك بما أنت قاض، ولكن رد إلى المورفين أولاً حتى لا أتهم في قتلك" والآخر يمانع في ذلك أشد الممانعة .. وهو يحرق الأرم لأنه فشل في قتل الأستاذ ويتألم أشد الألم لأنهم لم يقدموه إلى المحاكمة اعتقاداً منهم في حماقته. .. أيحسب هو من الحمقى ولا تحسب منهم تلك المرأة التي تتزوج من عجوز وتخونه مع طبيب؟ والطبيب يسمع كل ذلك ولكنه لا يحفل به فهو غارق في اليأس إلى قمة رأسه .. وعندما يهم بانذار الخال فانيا باستعمال القوة إذا لم يرد له المورفين تدخل صونيا ولا تلبث أن تفهم ما هنالك وتراع له، وكانت إلى ذلك مجروحة الفؤاد بعد أن علمت بانصراف قلب الطبيب عنها، إلا أنها بالرغم من ذلك كله تقبل على خالها تهدىء من خواطره وتلح عليه أن يرد للطبيب المورفين وتعزيه بأنها ليست أقل شقاء ولكنها أجلد وأشد صبراً .. أمامهما العمل .. وفي العمل عزاء وسلوى فإذا اقتنع ورد السم للرجل وسحبته من يده إلى أبيها لتصلح ما بينهما من الأمر. وتدخل هيلانا على الطبيب وهو منفرد .. هي راحلة .. وينتهي كل شيء ويلحق بعالم الأحلام .. فقط توج ألا يذكرها بسوء وأن ينظر إَليها نظرة لا تعلو ولا تسفل .. عن حقيقة أمرها .. ويحدثها هو عما بثته فيهم جميعاً من حب العطلة واليأس .. ولكن الوقت لا يتسع لذلك فهي راحلة، وهنا لا يتمالك أن يهوى على خدها بشفتيه . .. ولم تمانع ولم تفكر في الممانعة، فرن ساعة الوداع كالنوم المغناطيسي تكشف الخبايا وتبطل الإرادة .. وهي تتلفت يمنة ويسرة .. ثم تمنحه قبلة .. ولو مرة في العمر! انتهى كل شيىء! ها هو ذا الأستاذ سيربرياكوف يصافح فانيا وقد تصافيا .. وها هو ذا يغيب مع زوجة الجميلة .. ويخرج بعده الطبيب .. ويخلو الحديقة من أزهارها .. وتعود الفتاة وخالها إلى العمل .. إلا أنه لا يقاوم دمعة .. فتعزيه وتهون عليه وتقول له وهي تغالب ألما أشد من ألمه: سوف تستريح وسوف نصغى إلى الملائكة .. سنشاهد السماء كلها في بهاء .. وسنرى الشر والألم يغمرهما حنان يملأ الوجود وتمشى حياتنا هادئة ناعمة رغدة .. أني أؤمن بذلك يا خال. أني أومن بذلك .. أنك لم تذق لذة في حياتك، ولكن صبرا يا خال فانيا صبرا! فسوف نستريح .. سوف نستريح".
* تلخيص للمسرحية قدمه أديبنا الكبير نجيب محفوظ بمجلة المعرفة في يونيو 1933.
| |
| | | Fati المديــــر العــام
اسم الدولة : فرنسا
| موضوع: رد: انطون تشيخوف الثلاثاء ديسمبر 15, 2009 10:26 pm | |
| زوجة الأب
أنطون تشيكوف
على كرسى كبير ذى مساند يعود إلى الأسلاف، جلست سيدة عجوز صغيرة الجسم. وجهها مجعد ذو لونٍ اصفر - رمادى وكأنه ليمونة معصورة. كانت تنظر إلى جانب واحد، بكآبة وارتياب، متململة فى كرسيها دون استقرار، وبين الحين والآخر ترفع إلى انفها الدقيق الشبيه بالمنقار، قنينة صغيرة تحوى أملاحاً ذات رائحة (سعوط)، وكانت تشعر بأنها متعكرة المزاج. والى جانبها وقف شاب بمظهر جذاب، اسمحوا لى أن أقدمه لكم: انه شاعر، وابن زوج السيدة العجوز الصغيرة الجسم، وكان يدور بين زوجة الأب وابن الزوج، الحديث التالي: قال الشاعر: جئت إليك بعملٍ يا أمى .. لقد كتبت رواية، ولقد أمرتنى أن أقرأ لك كل ما اكتبه. اسمحى لي، ها هى الرواية الآن.... - حسناً، سوف نقرأها.... ولكن لماذا يبدو عليك الحزن ؟ هل يعنى ذلك انك مستاء من تدخلى فى عملك ؟ هل تمانع ؟ هل أنت من ذلك النوع من الأشخاص ؟... - ولكن، أنا مسرور يا أمي! كيف تأتى لك أن تقولى هذا ؟. لم أفكر حتي.... اخذ الشاعر نفساً عميقاً، اغمض عينيه قليلاً وبذل جهده لإظهار ابتسامة.ثم أردف: أنا مسرور جداً.... أرجو أن تحسنى إلي.... ينبغى لنا - نحن الكتـاب - أن نكون تحت رقابة ما...... - هكذا إذاً،.... هيا.. اقرأ لى ما كتبته، سأستمع لك. بدأ الشاعر يقلب أوراقه ببطء. سعل مرتبكاً، وبدأ يقرأ: كان صباح يوم من أيام شهر آيار الرائعة، وكان بطلى مستلقياً على الشاطئ، ينظر إلى الأمواج الهادرة، وهو يتأمل.... . قاطعته زوجة أبيه: قف. قف.. اشطب كلمة "يتأمل". - ولكن لماذا ؟ - الله يعلم ماذا كان يتأمل بطلك ! ربما كان شيئاً ما يمكن.... - ولكن سأوضح لك فيما بعد، يا أمي. - يمكن للمرء أن يستنتج الكثير من الأشياء، قبل أن تكون قد وصلت إلى إيضاحاتك.... اشطبها. شطب الشاعر كلمة "يتأمل"، واستمر يقرأ: وبجانبه، على الرمل، كان يضع صندوق أصباغ وقطعة قنب تمتد على إطار.... - قف. قف.... كيف يمكنك أن تكتب مثل هذا ؟ اشطب كلمة "قنب"... - ولكن لماذا، يا أمي؟ - ألا تدل تلك الكلمة على "التصّيد" ؟ ألا يمكن أن يكون فى معنى الكلمة تلميح إلى اضطرابات فى سكك الحديد، وان تلك الاضطرابات ترتبط مباشرة بـ ..... استبدل الشاعر كلمة "القنب" بـ "قطعة قماش" واستأنف القراءة: كان مرافقه فلاح شاب يقف على حافة الشاطئ.... - أعدها. طوحت العجوز بيديها فى الهواء، وأدخلت أرنبة انفها فى قنينة أملاح الشم. أعدها... من اجل ماذا تريد فلاحاً هنا ؟ لماذا ؟ كيف دخل فى الموضوع ؟ استبدله بشيء آخر.... - سوف استبدله بـ "ولد صغير". - ينبغى أن لا تفعل ذلك... إذا كان الولد الصغير يقف صباحاً على شاطئ البحر، فهذا يعنى انه ليس فى المدرسة، وهو تلميح بوجود نقصٍ فى المدارس. مسح الشاعر حاجبه، تنهد بعمق، وواصل القراءة. ولكن كلما توغلنا فى الغابة، كلما كانت هناك أشجار كثيفة، يتوجب قطعها. بدأت مخطوطة الشاعر تدريجياً تتغطى بخطوط سوداء، وبشطب، ونقاط، وفقدت باضطراد لونها الأبيض، وتبدلت إلى اللون الأسود. جميع الكلمات تم شطبها، عدا بعض علامات التعجب، والأرقام والقليل من ظروف الزمان والمكان. كانت العجوز تقف بالضد من علامات التعجب، لان مثل هذه العلامات، ربما كان القصد منها، زواجاً غير شرعى أو غير قانوني، يؤدى إلى اختلاط الطبقات الاجتماعية. وهى ترفض ضمائر الشخص الثالث، ذلك لان كلمة "هو" للعـاقل و"هو" أو "هي" لغير العاقل، قد تعنى أى شخص أو أى شئ: رينان، لزال، موسكو تلغراف، أو شيدرين ...وهى لم ولن تسمح له بأن يستعمل "الفوارز" لأنها - حسب ظنها - تلمح إلى .... قالت العجوز: لماذا تركت هوامش فى مخطوطتك ؟ المسافة الفارغة تعني، أن لا حصاد. اقتطعها بالمقص!. استطاع الشاعر بطريقة ما أن يصل إلى نهاية روايته: أعلن الشخص المسؤول، قرار المحلفين بصوتٍ مرتعش: كلا انهم ليسوا مذنبين. صفق الحاضرون للقرار. . انتفضت السيدة العجوز واقفة على قدميها، وقد امتلأت عيناها بالرعب، ومال غطاء رأسها جانباً، لتظهر ضفيرتها التى لا ترى فى العادة. - هل جننت ؟... هل تبرئ السفلة ؟ - لكننى افعل الشيء الصحيح! انهم ليسوا مذنبين، يا أمي. - ليسوا مذنبين ؟ هل فقدت عقلك ؟!. مجرد كونهم لم يصغوا لأسيادهم، وكانوا وقحين، وقليلى الأدب مع مساعد المدعى العام، وسمحوا لأنفسهم بأن يتحذلقوا أمام المحكمة، ينبغى أن يجلدوا بالسياط. ألا تعلم بان التبرئة تفسد أخلاق المرء؟ وتتلف الناس!. تريد أن تقول إن الجرائم يمكن أن تمر دون عقاب! ابدلها، من فضلك! شطب الشاعر كلا، انهم ليسوا مذنبين وكتب: فاسيلى كلنسكي، يعاقب بالعبودية فى المناجم، لمدة غير محددة، وتعاقب زوجته، ماريا، بالعبودية فى المعامل لمدة أربعة عشر عاماً.... . السيدة العجوز منعته من شطب صفق الحاضرون للقرار . - الآن، أخذت روايتك شكلها الصحيح. - قالت زوجة الأب - يمكنك السماح لأى شخص بأن يقرأها. قَبل الشاعر يد السيدة العجوز، البارزة العظام، ورحل.
| |
| | | Fati المديــــر العــام
اسم الدولة : فرنسا
| موضوع: رد: انطون تشيخوف الثلاثاء ديسمبر 15, 2009 10:27 pm | |
|
نشوة
منتصف الليل بعينين متوحشتين وشعر أشعث ، اقتحم ميتيا كلداروف شقة والديه ودخل جميع الغرف بعنف كان والده و على وشك أن يأويا إلى فراشهما وكانت أخته قد آوت فعلا الى فراشها وهى فى الصفحة الأخيرة من روايتها وكان إخوانه التلاميذ نائمين - من أين أتيت؟ - سأله والداه متعجبين … هل أصابك مكروه ؟ آه , لا أدرى أين ابدأ , أنا منذهل , منذهل تماما! انه شئ لا يصدق بتاتا انفجر ميتيا ضاحكا وتهاوى على كرسى ذى ذراعين وقد غلبة السرور شئ لا يصدق ! لن تصدقوه أبدا . انظر الى هذا قفزت أخته من فراشها وهرعت إليه وقد لفت نفسها بالبطانية . واستيقظ التلاميذ هل حدث مكروه ؟ تبدو فظيعا أنا سعيد جدا يا أمي . هذا هو السبب . الان كل الناس فى روسيا يعرفون عنى . كلهم . حتى الان , كنت تعرفون بوجود كاهن من الدرجة الرابعة عشرة ديميترى كلداروف , أما الان فالكل فى روسيا يعرفوننى . يا إلهي , . يا أماه قفز ميتيا وقفا وجال راكضا فى كل غرفة ثم عاد فجلس ثانية - ألن تخبرنا بماذا حدث , بربك - آه ، إنكم تعيشون هنا كالبهائم إنكم لا تقرأون الصحف، ليس عندكم اى فكرة عما يحدث ، والصحف مليئة بمثل هذه الأشياء الجديرة بالاهتمام . حال حدوث أي شئ ، يعلنونه للناس جميعا ، تجدونه مكتوب هناك بوضوح . يا الهى أنا سعيد جدا المشاهير من الناس فقط تظهر أسماؤهم فى الصحف ، ثم فجاءة يذهبون ويطبعون قصة عنى - ماذا ؟ أين شحب لون الأب . رفعت الأم بصرها الى الأيقونة ورسمت علامة الصليب على نفسها . قفز التلاميذ خارجين من أسرتهم وركضوا الى أخيهم الأكبر ولم يكن يغطى أجسامهم سوى قمصان نومهم الصغيرة والقصيرة - لقد فعلوا ذلك عنى . أنا الان معروف فى كل أنحاء روسيا . احتفظوا بهذه النسخة ، يا أمي ، ونستطيع الان أن نخرجها بين وقت واخر ونقرأها . انظروا سحب ميتيا الصحيفة من جيبه وسلمها الى والده وغرز إصبعه على عبارة محاطة بقلم ازرق – اقرأها بصوت عال وضع الأب نظارته على عينيه - هيا اقرأ رفعت الأم نظرها الى الأيقونة ورسمت علامة الصليب على نفسها تنحنح الأب ثم بدأ - فى التاسع والعشرين من كانون الأول ، وفى الساعة الحادية عشر مساء ، كان الكاهن من الدرجة الرابعة عشر ديميترى كلداروف -رأيتم؟ رأيتم؟ استمر يا أبى - … كاهن من الدرجة الرابعة عشر ، ديميترى كلداروف ، وهو خارج من الحانة الواقعة فى الطابق الأرضي من عمارات كوسخين فى شارع برونايا الصغيرة وفى حالة من السكر ــ - كنا أنا وسيميون بتروفيتش . لقد ذكروا كل التفاصيل استمر والان استمعوا الى هذا الجزء من القصة ولما كان فى حالة من السكر زلت قدمه وسقط أمام حصان العربة الذى يعود الى ايفان كنوتوف وهو فلاح من قرية بميكينو فى مقاطعة ينوف ، الذى كان واقفا فى تلك البقعة . إن الحصان الخائف بعد أن داس على كلداروف وجر فوقه الزلاقة التى كان يجلس فيها ايفان لوكوف وهو تاجر من الصنف الثانى فى موسكو اندفع نازلا الى الشارع ، الا ان بعض مستخدمى الزريبة امسكوا به قبل فراره . ولما كان كلداورف لأول وهلة فى حالة من فقدان الوعى اخذ الى مركز الشرطة وقام الطبيب بفحصه . إن الضربة التى تلقاها كانت على مؤخرة رأسه ــ - لقد ارتطمت رأسي بعريش العربة ، يا أبى استمر ، اقرأ الباقى _ …… التى تلقاها على مؤخرة رأسه ، اعتبرت على انها سطحية . وقد كتبت الشرطة تقريرا بخصوص هذا الحادث. وأعطيت الإسعافات الطبية للمصاب ــ - لقد مسحوا مؤخرة رأسى بالماء البارد انتهى؟ والان ماذا تقولون فى ذلك ، ها ؟ سينتشر هذا فى كل أنحاء روسيا ، الان . أعطني إياها يختطف ميتيا الصحيفة ويدسها فى جيبه - يجب أن أسرع واريها لآل ماكروف . ثم لآل ايفانتسكى ونتاليا ايفانوفا ، وانيسيم فاسيليتش لا استطيع الانتظار . وداعا لبس ميتيا قلنسوته الرسمية مع عقدة شريطها ، وركض خارجا إلى الشارع وقد غمره الشعور بالثقة والسعادة والانتصار..
| |
| | | Fati المديــــر العــام
اسم الدولة : فرنسا
| موضوع: رد: انطون تشيخوف الثلاثاء ديسمبر 15, 2009 10:28 pm | |
| الكلب تأليـف : إنطـون تشيكوف
بمعطفه الجديد ؛ وبشيء ما يتأبطه يلجُ العريف " آخميلوف " باحةَ السوق يتبعه شرطيٌّ ذو شعر أحمر ، حاملاً ما صادراه من فاكهة .. الصمت يشيع في الأرجاء ، وليست ثمّة حركة جلّية .. أبوابُ المحلات ونوافذها مواربةٌ علىَ سعتها مثل أفواه جائعة تحدّق بأسى لدنيا الله .
علىَ نحوٍ مباغت تٌمزّق أستار الصمت صرخةُ : " هكذا تريد أن تعضّني أيها الكلب الملعون . هذا زمان ما عاد للكلاب حرّية عضّ الآخرين .. آه !.. آه أوقفوه !.
يندلع نباحٌ متواصل .. تتوجّه أنظار " آخميلوف " ناحيةَ الصوت .. هناك كلبٌ برجلٍ عرجاء يفرٌّ هارباً من ناحية " مخزن أخشاب بنجوجن " ملاحَقاً مِن قبل رجلٍ ذي قميص أبيض يحاول الإمساك به فيتعثّر ساقطاً .. غير أنّه يفلح في القبض عليه من قائمتيه الخلفيّتين .. يعوي الكلبُ ومعه تستمرُ صيحاتُ الرجل .
وجوهُ بعيونٍ ناعسةٍ تطلُّ من نوافذ المحلات ؛ تُطالع حشداً بشرياً التأم سريعاً كأنّه انبثقَ من ثنايا الأرض .
- " أتعتقد أنّ من الضروري توجيه اللوم والتوبيخ لتجمّع ٍغير مسموح به كهذا ؟ ".. يحاور آخميلوف شرطيَّهُ .
يستديرُ يساراً ويخطو باتجاه الحشد جوار الباب الرئيس لمخزن الأخشاب ، يشاهد الرجلَ ذا القميص الأبيض يرفع يداً عارضاً على العيون المُبحلِقة إصبعاً مُدمّىَ فيما وجهه يشي بتعابيرِ رجلٍ شبه مخمور : " إنتظر ! .. سأجعلك تدفع الكثير مقابل هذا ، أيها الشيطان " .
وسرعان ما يتعرّف أخميلوف على الرجل : إنّه " كريوكين " ؛ مثلما يشاهد الكلب خالقَ الجلبةِ يرتجفُ وسط الحشد وقائمتاه الأماميتان ممدودتان ..كلبٌ أبيض تُبقّع ظهرَه بقعةٌ صفراء ، عيناه تمتلئان بتعابير الخشية والقلق .
- " ما الخَطب ؟ ! " .. يروح أخميلوف يتساءل ، صانعاً طريقاً له وسط الحشد " . لماذا تقف هنا ؟ وما الذي جرىَ لإصبعك ؟ ومن كان يصرخ ؟ "
- أنا .. لم أمَسَ أحداً .. ينطقُ "كريوكين" ثم يواصل "كنت أتجول في غابة ديمتري ديمتريفتش ، هناك عندما هاجمني هذا الكلب المتوحش وعضّ اصبعي .. ليس لديَّ يا سيدي غير هاتين اليدين أعمل بهما ، وعضّةُ هذا الكلب ستوقفني عن العمل لفترةٍ لا تقل عن سبعة أيام ، لهذا على صاحبه أن يدفع لي تعويضاً ؛ ألا يوجد في القانون ما ينبغي تحمله من تبِعات مخاطر الحيوانات ، لانّه لو تُرِك لكلِّ حيوان حريةَ العضّ والفتك بالآخرين فلن يبقَ أحدٌ علىَ قيدِ الحياة في هـذا العالم"
بصرامةٍ ظاهرة يرتفعُ حاجبا العريف أخميلوف ويهبطان :
- مَن هو صاحب هذا الكلب ؟ .. لن أسمح لمثلَ هكذا خروقات أن تحدث وتستمر . إنَّ على الجميع أن لا يتركوا كلابَهم طلقيةً كما تشاء ، لقد ولّىَ الزمن الذي يُترك فيه مَنْ لا يُطيع القوانين سأعاقب مالكَ هذا الكلب ، وسأعُلِّمه من أنا . يستدير إلى الشرطي المرافق :
- يا يلديرين ، تحرَّ عمّن يكون صاحب هذا الكلب .. هذا الكلب يجب أن يُقتل .. إفعل ذلك سريعاً ، فقد يكون مسعوراً .. على أي حال لمن هذا الكلب ؟
- يبدو أنّه كلبٌ الجنرال ييجالوف .. ينطُقُ أحدٌ من الحشد .
- للجنرال ييجالوف ؟ ها !.. يالديرين ، إخلع معطفي ! .. ما هذا الحر الشديد ! من المحتمل أن تمطر هذا اليوم .. يوجد ثمة شيء لا أفهمه كيف عضّك هذا الكلب ؟ يتوجه العريف أخميلوف إلى "كريوكين" متساءلاً . "وكيف طال أصبعك ، إنّه كلبٌ صغير بينما أنتَ رجلٌ كبير ؟ .. ربّما فعلت ذلك بنفسك وأدّعيت جرحك من فعل هذا الكلب المسكين سعياً للحصول على مال .. أعرفكم أيها الشياطين !!
- " أطفأ السيجارة في وجه الكلب لكن الكلب ليس غبياً فعضّه ، ياسيدي . " يتفوه الشرطي يلديرين .
- تكَذٌب ! .. ما شاهد مثل هذا ، يا سيدي ما شاهد مطلقاً .. ولكنْ دعْ الحاكم يقررّ ، القانون يؤكد بسواسية الجميع في هذا العهد ؛ ولي أخٌ يعمل في قسم الشرطة فإنْ لم ..
- توقف !
- " كلاّ ! هذا ليس كلب الجنرال "يقول الشرطي يلديرين مُظهراً إهتماماً ، " لا يملك الجنرال كلباً كهذا ، هذا كلبٌ لا يمُت إلى كلابه بشيء ".
- أمتأكد من ذلك ؟ " يسأل العريف أخميلوف .
- نعم ، كلّ التأكيد .
- وأنا متأكد أيضا .. كلابٌ الجنرال غالية الثمن ، أما هذا الكلب فليس له شعر مقبول ولا شكل يُعتَد به لماذا يقتني الناس كلاباً قميئة .. لو كان في بطرسبورج أو موسكو مثل هذه الكلاب هل تخمن ما يحدث ؟ لن يجهدوا أنفسهم في البحث في فقرات القانون للتخلّص منها ، بل يصنعون لها نهاية سريعة .. " ياكريوكين " لا شكّ أنك تعاني من ألم الجرح لذلك سوف لا أترك الأمرَ يجري عادياً ، سألقّن مالكي هذه الكلاب درساً .. ولكن يبتسم أخميلوف مفكِّراً ! أعتقد أنني شاهدتُ هذا الكلب في باحة الجنرال .
- "طبعاً ؛ إنه كلب الجنرال " يأتي صوت من عمق الحشد .
- يالديرين ؛ ساعدني .. ألبسني معطفي وخذ الكلب إلى الجنرال تأكد إن كان له أم لا. قل وجدته في الطريق فأتيت به ؛ قدم لهم رجاءً ؛ إرجوهم أن لا يتركوا الكلب في الشارع ، لأنه كلب ثمين وقد يرتكب أحدهم حماقة فيطفئ سيجارة في خطمه فيتسبب في إيذائه ، الكلب مخلوق رقيق .. وانت أيها الغبي .. أخفضْ يدك فلا ضرورة لعرض إصبعك السخيف ، إنها حماقتك .
- ها هو طباخ الجنرال ، دعونا نستفهم منه .. مرحباً بروخور تعال هنا للحظة ، إنظر هل هذا كلبكم ؟ !
- هذا ! .. لم نقتن مثل هذه الكلاب في حياتنا أبداً .
- هذا كلب لا يستحق السؤال عنه .. يتمتم أخميلوف .. متشردٌّ وينبغي قتله .
- كلا .. ليس لنا مطلقاً ، بل هو عائد لأخ الجنرال الذي وصل إلى المدينة توّاً . سيدي لا يفضِّل هذه الأنواع ، إنما أخوه من يرغبها .
- هكذا إذاً أخوه فلاديمير إيفانوفيتش وصل إلى هنا " يتساءل أخميلوف بمحّياً مُشرق وابتسامة تغمر وجهه : " حسناً ، حسناً ، لم أكن أعرف ذلك . " إذاً هو في زيارة لمدينتنا !
- نعم ، ياسيدي في زيارة ،
- حسناً ، حسناً وهذا هو كلبه ، أنا مسرور جداً خذه ! يا لهُ من كلب صغير وبارع ، سريعاً أمسك باصبع هذا الرجل ها .. ها .. ها ، لماذا ترتجف أيها الكلب الصغير .. لم تفعل شيئاً يستحق الخوف ؛ وهذا الرجل وغدٌ وشرير..
ينادي "بروخور" على الكــلب ويذهب به بينما يوجه أخميلوف تهديداتــــه إلى "كريوكين" . يحكم شدّ معطفه على جسده ثم يتخذ طريقه إلى داخل السوق يتبعه الشرطي يلدرين حاملاً الفاكهة المصادرة ..
| |
| | | Fati المديــــر العــام
اسم الدولة : فرنسا
| موضوع: رد: انطون تشيخوف الثلاثاء ديسمبر 15, 2009 10:28 pm | |
| قصاصة
عندما تقاعد المستشار "كوزيروجوف" من عمله ابتاع بيتا في الريف واستقر فيه، هناك – وتقليدا لأستاذ التاريخ الطبيعي ذائع الصيت كايجرودوف – راح يكدح في الأرض التي تتمثل في حديقة البيت. حيث أدرك الموت عزيزنا كوزيروجوف صارت مذكراته وممتلكاته من نصيب مديرة منزله "مارفاييفلامميفنا" وكما يعلم الكل فإن هذه المرأة العجوز الجديرة بكل تقدير سارعت بهدم البيت لتشيد على أنقاظه فندقا يقدم لعملائه المشروبات الروحية، وخصصت إلى جانب بار الفندق حجرة لملاك الأراضي وأصحاب الأعمال الذين يأتون في الغالب بحثا عن المتعة ..
كانت مذكرات كوزيروجوف على طاولة بتلك الحجرة وفي خدمة أي عميل يرغب في نزع ورقة من الدفتر ليقضي بها مصلحة وبالمصادفة البحتة وقعت في يدي صفحة من المذكرات .. كانت تلك القصاصة تتحدث عن بعض الأنشطة التي مارسها الفقيد .. وإليكم بيانها : 3 مارس : بدأت الهجرة الربيعية للطيور. بالأمس شاهدت العصافير .. مرحى يا صغار الجنوب ذوات الريش .. إنني من تغريدك العذب أتخيل أنني أسمع من يقول لي : - كن سعيدا يا صاحب الفخامة! 14مارس : سألت مارفا اليوم : - لماذا لا يكف الطاهي عن الصياح والنرفزة؟! أجابتني : إنه يعاني من حنجرته .. قلت معارضا : إنني أعاني من حنجرتي بيد أنني لا أصرخ ..! آه، لكم تخفى الطبيعة من أسرار! لقد تناولت – إبان خدمتي في مدينة سان بطرسبرج – لحم الرومي بإسراف، لكنني لم أشاهد ذلك الديك الرومي إلا بالأمس .. إنه طائر مميز للغاية .. 22 مارس : ناداني ضابط شرطة المنطقة وتناقشنا في الفضيلة.كنت جالسا وهو واقف. سألني : - ألا ترغب يا صاحب الفخامة أن تعود شابا؟! - مستحيل أن أفعل، فلو بدأت من جديد لما استطعت الوصول إلى مكانتي الرفيعة الحالية فغمز لي بعينه وانصرف دون تعقيب! 16إبريل : بيدي حفرت حوضين في حديقة البيت وزرعت الحنطة. لم أبح بالسر لمخلوق لأفاجيء مارفا التي أدين لها بالسعادة في شطر كبير من حياتي. بالأمس ونحن نشرب الشاي جأرت مارفا بالشكوى من بدانتها المفرطة التي تحول دون ولوجها من باب المخزن. قلت لها : - على العكس يا عزيزتي فإن حجمك البديع يضفي عليك جاذبية لا يمكنني أن أقاومها. احمر وجهها فنهضت أطوقها بكلتا زراعي إذ لا تكفي لذلك ذراع واحدة! 28 مايو : شاهدني رجل معمر جالسا قريباً من الحمامات المخصصة للسيدات على ضفة النهر فسألني عن السبب فأجبته : إنني هنا لأمنع الشباب من التطفل والتسكع .. قال في لاتو : - فلتكن هذه مهمتنا معا! وجلس إلى جانبي وبدأن نتحدث عن الفضيلة! | |
| | | Fati المديــــر العــام
اسم الدولة : فرنسا
| موضوع: رد: انطون تشيخوف الثلاثاء ديسمبر 15, 2009 10:30 pm | |
| بطاقة اليانصيب
السيد إيفان ديمتريش يجلس إلى طاولة الطعام يتناول عشاءه بعد يوم عمل شاق، وبعد أن يفرغ منه وقبل أن يهم بقراءة الصحيفة، كعادته وعادة كل الأزواج تقريبا، كل يوم تذكره أم العيال السيدة الفاضلة ماشا، التي تشاركه شظف العيش، تذكره أن اليوم هو إعلان نتيجة اليانصيب الأخير الذي اشترت ماشا واحدة من بطاقاته .العزيز إيفان رجل جاد لا يؤمن بالحظ، وبالأحرى يرى أن الحظ ليس من نصيبه وإلا لماذا حاله هكذا؟ غير أن الرجل، على ضيق حاله قنوع راض بدخله المتواضع. إيفان يسأل، في غير اكتراث واضح، زوجته عن رقم البطاقة ويبدأ في التفتيش عن الرقم الفائز المنشور في الصحيفة التي بين يديه. تناوله ماشا البطاقة فيقرأ الرقم بطرف عين، وقد رأى أن الرقم الفائز هو رقم بطاقة ماشا. وفي لحظات تتغير نفسية الرجل ويغوص فجأة في أحلامه وينسى نفسه.. كيف سينفق هذه الثروة التي هبطت عليه.. يغير البيت؟ طبعا. وكل الأثاث؟ بالتأكيد. ويسدد الديون المتراكمة عليه؟ لا بأس. ولكن الباقي ما مصيره؟ في البنك يا عزيزي ليضمن عائدا يتلاءم مع متطلبات المرحلة الجدية التي ولجها. فجأة يتحول العزيز ديمتريش من رجل قانع إلى شخص طامع لديه نهم إلى الإسراف والتبذير، فهذه الورقة التي بين يديه ستنقله من عالم إلى عالم آخر، ليس هو وحده وإنما معه الأولاد وأم الأولاد الحصيفة التي اشترت البطاقة. يتوقف إيفان ديمتريش عن الاسترسال في أحلامه برهة وينظر إلى ماشا ليخبرها أنه سيسافر إلى خارج البلاد في رحلة سياحية. العزيزة ماشا يبدو أن أحلامها هي الأخرى كانت اختمرت في مؤخرة جمجمتها، حيث تبادره قائلة .. أنا أيضا أود السفر إلى الخارج، على طريقة "رجلي على رجلك" المعروفة بين الزوجات. للكلام وقع صاعقة على الرجل الذي كان، حتى لحظات قليلة، وقورا. لم يكن يتخيل أن تطلب أم العيال السفر للخارج، ويتساءل- في نفسه طبعا- ماذا تريد ماشا؟ أتريد ملازمتي فلا أسافر وحيدا واستمتع بسفرتي حتى النهاية؟ وفي ثواني معدودات تتحول صورة المرأة التي رافقته رحلة الحياة إلى شبح مزعج؛ عجوز لا تعرف إلا الشكوى، ولا تشم منها إلا رائحة المطبخ؛ في جسدها وفي ملابسها. لم يعد فيها شيء يجذبه إليها. أما هو فمازال شابا وسيما- هكذا تخيل- ولا يخلو من جاذبية، فلماذا لا يتزوج من أخرى؟ نعم لماذا لا يتزوج من أخرى؟
| |
| | | Fati المديــــر العــام
اسم الدولة : فرنسا
| موضوع: رد: انطون تشيخوف الثلاثاء ديسمبر 15, 2009 10:30 pm | |
| الكبش والآنسة
كانت سِحنة السيد المحترم الشبعانة اللامعة تنطق بالملل القاتل.. كان قد غادر لتوه أحضان مورفيوس* بعد الظهر ولا يدري ماذا يفعل.. لم تكن له رغبة في التفكير أو التثاؤب، أما القراءة فملّها منذ زمن سحيق، وكان الوقت لايزال مبكرا للذهاب إلى المسرح، ومنعه الكسل من الذهاب إلى التزحلق فما العمل؟ بما يسلي نفسه؟ وأبغله الخادم يجور: - هناك آنسة ما .. جاءت تسأل عنكم . - آنسة؟ ممم تُرى من هي؟ على العموم سيان .. ادعها . ودخلت غرفة المكتب بهدوء فتاة وسيمة سوداء الشعر ترتدي ملابس بسيطة، بل وبسيطة جداً، وعندما دخلت حَيّت بانحناءة .. وأخذت تقول بصوت مرتعش:- ـ ارجو المعذرة ... أنا.....قالوا لي إن حضرتكم............ إنه من الممكن أن أجدكم في الساعة السادسة فقط.....أنا....أنا.....ابنة مستشار القصر** بالتسيف.... - تشرفنا تفضلي اجلسي اية خدمة؟ اجلسي لا تخجلي. - لقد جئتكم في طلب.......
مضت الآنسة تقول وهي تجلس في ارتباك وتعبث بأزرارها بيدين مرتعشتين. - لقد جئت.. لكي أطلب منكم بطاقة سفر مجانية إلى موطني سمعت أنكم تعطون.. وأنا أريد أن أسافر وليس معي..... أنا لست غنية... بطاقة من بطرسبرج إلى كورسك . - ممممم....هكذا....ولماذا تريدين السفر إلى كورسك ؟ ألا يعجبك الحال هنا - لا هنا يعجبني ولكن...أهلي أريد ان أسافر إلى أهلي لم أرهم منذ مدة طويلة كتبوا لي أن أمي مريضة . - ممم....وأنت موظفة ام طالبة . وأخبرته الآنسة بالمكان الذي تعمل فيه وعند مَن وكَم كانت تتقاضى وبحجم العمل الذي كانت تؤديه. ـ هكذا...... كنت تعملين..... لا يمكن القول أن مرتبك كان كبيرا.....لايمكن القول....ليس من الإنسانية إلا أن تصرف لك بطاقة مجانية......مم.......إذن فأنت مسافرة إلى أهلك، حسنا وربما كان لديك في كورسك حبيب هه؟ .. حبوب؟ هىء هىء هىء... خطيب؟ آه تخجلين؟ آه لا داعي هذا شيء جيد .....فلتسافري ..... حان الوقت لكي تتزوجي.. ومن هو.. موظف .. شيء جيد .. سافري إلى كورسك يقال إنه على بعد مائة فرسخ من كورسك تنتشر رائحة حساء الكرنب وتزحف الصراصير.....هىء هىءهىء لا بد أن الحياة مملة في كورسك هذه؟ لا تخجلي انزعي القبعة. - يا يجور هات الشاي. لم تكن الأنسة تتوقع مثل هذا الاستقبال الرقيق فشع وجهها بالسرور ووصفت للسيد المحترم كل ما في كورسك من ألوان التسلية.......وأخبرته أن لديها أخا موظفا وعمها مدرس وأبناء أخيها تلاميذ... وقدم يجور الشاي وتناولت الآنسة الكوب بوجل وراحت ترتشفه دون صوت، وهي تخشى أن تصدرعنها مصمصة.. وكان السيد المحترم يتطلع إليها وهو يضحك بسخرية.... لقد بدأ يشعر بالملل. ـ هل خطيبك وسيم؟ وكيف تعرفت عليه؟ وأجابت الآنسة بخجل على هذين السؤالين واقتربت بمجلسها من السيد المحترم في ثقة وروت له وهي تبتسم كيف تقدم الخطاب هنا في بطرسبرج لخطبتها فرفضتهم ...... تحدثت طويلاً، وأنهت حديثها بأن أخرجت من جيبها رسالة من والديها وقرأتها على السيد المحترم.... ودقت الساعة الثامنة. - والدك خطه لا بأس به ....... بأية زخارف ينمق الحروف ..هىء هىء.. حسنا لقد حان وقت انصرافي ...لابد أن المسرح بدأ عرضه ......وداعا يا ماريا سيميونوفنا. فسألت الآنسة وهي تنهض : - إذن أستطيع أن آمل. - بماذا؟ - بأن تعطوني بطاقة مجانية...... - بطاقة؟ مممممم....... ليس لدي بطاقات يبدو أنك أخطأتِ يا سيدتي..هىءهىءهىءهىء .. أخطأتِ العنوان .. دخلتِ غير المدخل ...بالقرب مني يسكن حقا أحد العاملين في السكك الحديدية، أما أنا فأعمل في البنك .. يا يجور؛ قل لهم أن يعدوا العربة.. وداعا يا آنسة ماريا سيميونوفنا .. سعيد جدا .... سعيد جدا بلقائك . ارتدت الآنسة معطفها وخرجت .....وعند مدخل الباب الآخر قيل لها أنه سافر إلى موسكو في السابعة والنصف.
* إله الأحلام عند الإغريق .
** رتبة عسكرية من الدرجة السابعة في روسيا القيصرية
| |
| | | Fati المديــــر العــام
اسم الدولة : فرنسا
| موضوع: رد: انطون تشيخوف الثلاثاء ديسمبر 15, 2009 10:31 pm | |
| لمن أشكو كآبتي
غسق المساء.. ندف الثلج الكبيرة الرطبة تدور بكسل حول مصابيح الشارع التي أضيئت لتوها، وتترسب طبقة رقيقة لينة على أسطح المنازل وظهور الخيل, وعلى الأكتاف والقبعات.. والحَوذي (ايونا بوتابوف) أبيض تماماً كالشبح.. انحنى متقوسا، بقدر ما يستطيع الجسد الحي أن يتقوس وهو جالس على المقعد بلا حراك.. ويبدو أنه لو سقط عليه كوم كامل من الثلج فربما ما وجد ضرورة لنفضه....... وفرسه أيضاً بيضاء تقف بلا حراك وتبدو بوقفتها الجامدة وعدم تناسق بدنها وقوائمها المستقيمة كالعصي حتى عن قرب أشبه بحصان الحلوى الرخيص، وهى على الأرجح مستغرقة في التفكير؛ فمن أُنتزع من المحراث من المشاهد الريفية المألوفة وأُلقي به هنا في هذه الدوامة المليئة بالأضواء الخرافية و الصخب المتواصل والناس الراكضين لا يمكن ألا أن يفكر..... لم يتحرك ايونا وفرسه من مكانهما منذ وقت طويل. كانا قد خرجا من الدار قبل الغداء ولكنهما لم يستفتحا حتى الأن، وها هو ظلام المساء يهبط على المدينة، ويتراجع شحوب أضواء المصابيح مفسحا مكانه للالوان الحية, وتعلو ضوضاء الشارع . ويسمع ايونا : يا حوذي! إلى فيبورجسكا ! يا حوذي! يتنفض ايونا ويرى، من خلال رموشه المكللة بالثلج، رجلا عسكريا في معطفه بقلنسوة. ويردد العسكري : إلى فيبورجسكايا, ماذا هل أنت نائم؟ إلى فيبورجسكايا! ويشد أيونا اللجام؛ علامة الموافقة، فتتساقط إثر ذلك طبقات الثلج من على ظهر الفرس ومن على كتفيه.....ويجلس العسكري في الزحافة، ويطقطق الحوذي بشفتيه ويمد عنقه كالبجعة وينهض قليلا ويلوح بالسوط بحكم العادة اكثر مما هو بدافع الحاجة وتمد الفرس ايضاً عنقها, وتعوج سيقانها وتتحرك من مكانها بتردد..... وما إن يمضي ايونا بالزحافة حتى يسمع صيحات من الحشد المظلم المتحرك جيئة وذهاباً: إلى أين تندفع أيها الأحمق! أي شيطان ألقى بك؟ الزم يمينك! .. ويقول العسكري بانزعاج: أنت لاتجيد القيادة! الزم يمينك! ويسبه حوذي عربة حنطور، ويحدق أحد المارة بغضب وكان يعبر الطريق فاصطدمت كتفه بعنق الفرس وينفض الثلج عن كمه، ويتملل ايونا فوق المقعد وكأنه جالس على جمر ويضرب بمرفقيه في كلا الجانبين ويدور بنظراته كالممسوس وكأنما لا يفهم أين هو ولماذا هو هنا. ويسخر العسكري : يا لهم جميعا من أوغاد! كلهم يسعون إلى الاصطدام بك أو الوقوع تحت أرجل الفرس.. إنهم متآمرون ضدك.. يتطلع ايونا إلى الراكب ويحرك شفتيه....يبدو أنه يريد أن يقول شيئا ما ولكن لا يخرج من حلقه سو الفحيح. فيسأله العسكري: ماذا؟ يلوي ايونا فمه بابتسامة ويوتر حنجرته ويفح : - أنا يا سيدي.. هذا الأسبوع ..ابني مات . - ممم!.. مات أذن؟ يستدير ايونا بجسده كله نحو الراكب ويقول: - ومن يدري؟ .. يبدو أنها الحمى .. رقد في المستشفى ثلاثة أيام ومات... مشيئة الله. ويتردد في الظلام: - حاسب يا ملعون ! هل عَميت أيها الكلب العجوز؟ افتح عينيك! ويقول الراكب:هيا, هيا سر، بهذه الطريقة لن نصل ولا غدا. عجّل! ويمد الحوذي عنقه من جديد، وينهض قليلا ويلوح بالسوط بحركة رشيقة متثاقلة، ويلتفت إلى الراكب عدة مرات ولكن الأخير كان قد أغمض عينيه ويبدو غير راغب في الإنصات. وبعد أن أنزله في فيبورجسكايا توقف عند إحدى الحانات، وانحني متقوسا وهو جالس على مقعد الحوذي, وجَمُد بلا حراك مرة أخرى.. ومن جديد يصبغه الثلج الرطب؛ هو وفرسه باللون الابيض، وتمر ساعة وأخرى. على الرصيف يسير ثلاثة شبان وهم يطرقعون بأحذيتهم في صخب ويتبادلون السباب؛ اثنان منهم طويلان نحفيان والثالث قصير أحدب .. ويصيح الأحدب بصوت مرتعش: - يا حوذي إلى جسر الشرطة! ثلاثة ركاب....بعشرين كوبيكا. يشد ايونا اللجام ويطقطق بشفتيه ليست العشرون كوبيكا بسعر مناسب ولكنه في شغل عن السعر.... فسواء لديه روبل ام خمسة كوبيات...المهم أن يكون هناك ركاب...يقترب الشبان من الزحافة وهم يتدافعون بألفاظ نابية ويرتمي ثلاثتهم على المقعد دفعة واحدة. وتبدأ مناقشة حادة من الاثنين اللذين سيجلسان ومن الثالث الذي سيقف؟، وبعد سباب طويل ونزق وعتاب يصلون إلى حل : الأحدب هو الذي ينبغي أن يقف باعتباره الأصغر.. فيقول الأحدب بصوته المرتعش وهو يثبت أقدامه ويتنفس في قفا ايونا: هيا عجل! اضربها بالسوط! يا لها من قبعة لديك يا أخي! لن تجد في بطرسبرج كلها أسوأ منها..... فيقهقه ايونا : هذا هو الموجود.... - اسمع أنت أيها الموجود عَجّل، هل تسير هكذا طول الطريق؟ ألا تريد صفعة على قفاك؟ ويقول أحد الطويلين: رأسي يكاد ينفجر؛ شربت بالأمس أنا وفاسكا عند آل دوكماسوف أربع زجاجات كونياك نحن الاثنين.. ويقول الطويل الأخر بغضب: لا أدري ما الداعي للكذب ! يكذب كالحيوان . - عليّ اللعنة إن لم تكن حقيقة... - إنها حقيقة مثلما هي حقيقة أن القملة تعسل. فيضحك ايونا: هىء هىء هىء .. سادة ظرفاء . ـ فلتخطفك الشياطين! هل ستعجل ايها الوباء العجوز أم لا! ـ هل هذا سير؟ ناولها بالسوط ! هيا ايها الشيطان! هيا! ناولها جيدا ! ويحس ايونا خلف ظهره بجسد الأحدب المتململ ورعشة صوته ويسمع السبابا الموجه إليه ويرى الناس فيبدأ الشعور بالوحدة ينزاح عن صدره شيئا فشيئا. ويظل الأحدب يسب حتى يغص بسباب منتقى فاحش وينفجر في السعال. ويشرع الطويلان في الحديث عمن تدعى ناديجدا بتروفنا. ويتطلع ايونا نحوهم وينتهز فرصة الصمت فيتطلع نحوهم ثانية ويدمم: - اصلاً أنا..هذا الأسبوع..ابني مات! فيتنهد الأحدب وهو يمسح شفتيه بعد السعال : - كلنا سنموت..هيا عجل عجل.. يا سادة أنا لا يمكن أن أمضي بهذه الطريقة متى سيوصلنا؟ - حسنا فلتشجعه قليلا... في قفاه ! ـ هل سمعت ايها الوباء العجوز؟ سأكسر لك عنقك! التلطف مع جماعتكم معناه السير على الأقدام....هل تسمع ايها الثعبان الشرير؟ أم أنك تبصق على كلماتنا؟ ويسمع ايونا أكثر مما يحس بصوت الصفعة على قفاه. فيضحك هىءهىءهىء سادة ظرفاء..... ربنا يعطيكم الصحة ويسأل أحد الطويلين: يا حوذي هل أنت متزوج؟ - أنا .. هىءهىء.... سادة ظرفاء ! لم يعد لدي الأن إلا زوجة واحدة : الأرض الرطبة؛ أي القبر ! ..ها هو ابني قد مات وانا أعيش..... شيءغريب؛ الموت أخطأ بوابته..... بدلا من أن يأتيني ذهب إلى ابني .... ويتلفت أيونا لكي يروي كيف مات ابنه ولكن الأحدب يتنهد بارتياح ويعلن أنهم أخيرا، والحمد لله، وصلوا.. ويحصل ايونا على العشرين كوبيكا، ويظل طويلا في أثر العابثين وهم يختفون في ظلام المدخل وها هو وحيد ثانية ومن جديد يشمله السكون.... والوحشة التي هدأت قليلا تعود تطبق على صدره بأقوى مما كان وتدور عينا ايونا بقلق وعذاب على الجموع المهرولة على جانبي الشارع : ألن يجد في هذه الآلاف واحدا يصغي إليه ؟ .. ولكن الجموع تُسرع دون أن تلاحظه أو تلاحظ وحشته؛ وحشة هائلة لا حدود لها.. لو أن صدر ايونا انفجر وسالت منه الوحشة فربما أغرقت الدنيا كلها، ومع ذلك لا أحد يراها. لقد استطاعت أن تختبئ في صَدفة ضئيلة؛ فلن تُرى حتى في وَضَح النهار....... يلمح ايونا بوابا يحمل قرطاسا فينوي أن يتحدث إليه ويساله : كم الساعة الآن يا ولدي؟ - التاسعة.. لماذا تقف هنا .. امشِ. يتحرك عدة أمتار ثم ينحني متقوسا ويستسلم للوحشة.... ويرى أنه لا فائدة بعد من مخاطبة الناس ولكن ما إن تمر بضع دقائق حتى يتعدل وينفض رأسه كأنما أحس بوخزة ألم حادة ويشد اللجام ... لم يعد قادرا على التحمل. ويخاطب نفسه : إلى البيت .. إلى البيت وكأنما فهمت الفرس أفكاره فتبدأ في الركض بحماس، وبعد حوالي ساعة ونصف يكون ايونا جالسا بجوار فرن كبير قذر، وفوق الفرن وعلى الأرض وعلى الأرائك يتمدد أناس يشخرون، والجو مكتوم خانق.... يتطلع ايونا إلى النائمين، ويحك جلده ويأسف لعودته المبكرة إلى البيت ويقول لنفسه : لم أكسب حتى حق الشعير ولهذا أشعر بالوحشة، الرجل الذي يعرف عمله، الشابع هو وفرسه؛ دائما مطمئن البال.. في أحد الزوايا ينهض حوذي شاب، ويكح بصوت ناعس ويمد يديه إلى الدلو.. فيسأله ايونا: - أتريد أن تشرب؟ - كما ترى . - بالهناء والشفاء... أما أنا يا أخي فقد مات ابني هل سمعت؟ هذا الأسبوع في المستشفى...... حكاية! ويتطلع ايونا ليرى أي تأثير تركته كلماته ولكنه لا يرى شيئا؛ فقط تَغطًى الحَوذي الشاب حتى رأسه وغط في النوم، ويتنهد العجوز ويحك جلده....فمثلما رغب الحوذي الشاب في الشرب يرغب هو في الحديث.. عما قريب يمر أسبوع منذ أن مات ابنه، بينما لم يتمكن حتى الآن من الحديث عن ذلك مع أحد كما يجب......... ضروري أن يتحدث بوضوح على مهل.... ينبغي أن يروى كيف مرض ابنه وكيف تعذب وماذا قال قبل وفاته وكيف مات، ينبغي أن يصف جنازته وذهابه إلى المستشفى ليتسلم ثياب الفقيد، وفي القرية بقيت ابنته أنيسيا....ينبغي أن يتحدث عنها أيضا.... وعوما فما أكثر ما يستطيع أن يروي الآن؛ ولا بد أن يتأوه السامع ويتنهد ويرثى... والأفضل أن يتحدث مع النساء، فهؤلاء وإن كن حمقاوات يوَلونْ من كلمتين. ويقول ايونا لنفسه : فلأذهب لأتفقد الفرس.....وفيما بعد سأشبع نوماً .. يرتدي الملابس ويذهب إلى الاصطبل حيث تقف الفرس ويفكر في الشعير والدريس و الجو فعندما يكون وحده لا يستطيع أن يفكر في ابنه....يستطيع أن يتحدث عنه مع أحد، وأما أن يفكر فيه ويرسم لنفسه صورته فشيء رهيب لا يطاق.... ويسأل أيونا فرسه عندما يرى عينيها البراقيتين - تمضغين؟ حسنا امضغي أمضغي .. ما دمنا لم نكسب حق الشعير فسنأكل الدريس...نعم أنا كبرت على القيادة، كان المفروض أن يسوق ابني لا أنا، كان حوذيا أصيلا لو أنه فقط عاش...... ويصمت ايونا بعض الوقت ثم يواصل : - هكذا يا أخي الفرس، لم يعد كوزما أيونيتش موجودا... رحل عنا....فجأة .. خسارة.. فلنفرض مثلا أن عندك مهرا وأنت أم لهذا المهر...... ولنفرض أن هذا المهر رحل فجأة، أليس مؤسفا؟. وتمضغ الفرس وتنصت وتزفر على يدي صاحبها، ويندمج ايونا فيحكي لها كل شيء....... تمت
| |
| | | Fati المديــــر العــام
اسم الدولة : فرنسا
| موضوع: رد: انطون تشيخوف الثلاثاء ديسمبر 15, 2009 10:32 pm | |
| الصبي الشرير
هبط إيفان إيفانيتش لابكين، الشاب اللطيف الهيئة وأنا سيميونوفنا زامبليسكايا، الشابة ذات الأنف الصغير المقعي، على الشاطئ المنحدر، وجلسا على أريكة . وكانت هذه الأريكة تقوم قرب الماء تماما، وسط خمائل الصفصاف اليافعة الكثيفة . مكان ساحر ! ما إن تجلس هنا حتى تختفي عن العالم، فلا تراك إلا الأسماك والعناكب المائية الراكضة كالبرق فوق صفحة المياه . وكان الشاب والشابة مزودين بالسنانير والشباك وعلب ديدان الطعم وغيرها من أدوات الصيد . وما إن جلسا حتى شرعا على الفور في صيد السمك . وبدأ لابكين يقول وهو يتلفت : - كم أنا سعيد بأننا أخيرا أصبحنا وحدنا..أريد ان أقول لك الكثير يا آنا سيميونوفنا..الكثير جدا..عندما رأيتك أول مرة..سنارتك تغمز..أدركت عندها لأري غرض أحيا، أدركت أين معبودي الذي ينبغي أن أكرس له كل حياتي الكادحة الشريفة .. يبدو أنها سمكة كبيرة تغمز .. ما إن رأيتك حتى أحببتك، لأول مرة، أحببتك حبا جارفا ! انتظري لا تجذبي، دعيها تغمز.. خبريني يا عزيزتي، استحلفك، هل أستطيع أن آمل – لا بأن تبادليني الحب، كلا فأنا لا استحق، أنا حتى لا أجرؤ على التفكير في ذلك، هل أستطيع أن أطمع في...اسحبي! رفعت آنا سيميونوفنا يدها عاليا بالسنارة وشدتها وصرخت . ولمعت في الهواء سمكة فضية خضراء . - يا إلهي ، فرخ ! آي ، آه .. أسرع ! أفلتت ! أفلتت السمكة من السنارة، وتلوت على العشب قافزة نحو محيطها و .. غاصت في الماء ! . وبينما كان لابكين يطارد السمكة أمسك عفوا بذراع آنا سيميونوفيا بدلا من السمكة، عفوا ضمها إلى شفتيه ...وشدت هي ذراعها، ولكن بعد فوات الآوان : فقد انطبقت الشفتان عفوا في قبلة. حدث ذلك عفوا . وتلت القبلة قبلة أخرى، ثم الإيمان والتأكيدات .. يا لها من لحظات سعيدة ! ولكن ليس هناك شيء سعيد بصورة مطلقة في هذه الحياة الدنيوية، فالشيء السعيد عادة يحمل في طياته السم، أو يسممه شيء ما خارجي . وهذا ما كان في هذه المرة أيضا . فبينما كان الشاب والشابة يتبادلان القبلات سمعا فجأة ضحكا . نظرا إلى النهر وأصابهما الذهول : فقد كان هناك صبي يقف في الماء عاريا مغمورا حتى وسطه . كان ذاك هو التلميذ كوليا شقيق آنا سيميونوفنا، كان واقفا في الماء ينظر إلى الشاب والشابة وهو يبتسم بخبث، وقال : -أه .. تتبادلان القبل ؟ طيب ! سأقول لماما. فدمدم لابكين وهو يتضرج بالحمرة . - آمل بأنك إنسان شريف .. إن التلصص شيء وضيع، والوشاية شيء منحط، كريه .. أعتقد أنك إنسان شريف ونبيل. فقال الإنسان النبيل : - هات روبلا وعندئذ لن أقول ! وإلا فسأقول. وأخرج لابكين من جيبه روبلا وأعطاه لكوليا، وضم هذا قبضته المبللة على الروبل، وصفر ثم سبح مبتعدا. ولم يعد العاشقان الشابان إلى تبادل القبلات بعد ذلك في هذا اليوم . وفي اليوم التالي جلب لابكين أصباغا وكرة من المدينة لكوليا، وأهدته أخته كل علب الأدوية الفارغة التي كانت تمتلكها . ثم اضطرا إلى إهدائه أزرار أكمام قميص بوجوه كلاب . ويبدو أن هذا كله أعجب الصبي الشرير، ولكي يحصل على المزيد مضى يراقبهما . وأينما ذهب لابكين وآنا سيميونوفيا كان يذهب . ولم يتركها دقيقة واحدة . وصر لابكين على أسنانه وقال : - وغد ! ما أصغره ومع ذلك فياله من وغد كبير ! - ترى كيف سيصبح فيما بعد ؟! وطوال شهر يونيو نغص كوليا على العاشقين المسكينين حياتهما . كان يهددهما بالوشاية، ويراقبهما ويطالب بالهدايا. ولم يكن يكفيه ما يحصل عليه، وفي آخر الأمر بدأ يتحدث عن ساعة جيب .. فماذا ؟.. اضطرا أن يعداه بساعة . وذات مرة ، أثناء الغداء عندما قدموا البسكوت المحشو بالحلوى قهقه كوليا فجأة وغمز بعينه وسأل لابكين : - أقول ؟ هه؟ واحمر لابكين بشدة؛ وبدلا من البسكوت راح يمضغ الفوطة، وهبت آمنا سيميونوفيا واقفة من أمام المائدة وركضت إلى غرفة أخرى . وظل العاشقان في هذا الوضع حتى آخر أغسطس، حتى ذلك اليوم الذي طلب فيه لابكين، أخيرا، يد آنا سيميونوفنا . أوه كم كان يوما سعيدا فبعد أن تحدث لابكين مع والدي العروس وحصل على موافقتهما، كان أول ما فعله أن انطلق إلى الحديقة ومضى يبحث عن كوليا، وعندما وجده كاد يبكي من الفرحة وأمسك بهذا الولد الشرير من أذنه . وجاءت آنا سيميونوفنا ركضا . فقد كانت هي الأخرى تبحث عن كوليا، وأمسكت بأذنه الثانية .. كان ينبغي أن تروا أية متعة ارتسمت على وجهي العاشقين عندما راح كوليا يبكي ويضرع إليهما : - يا أحبائي، يا أعزائي، لن أعود إلى ذلك . آي، آي، سامحاني . وبعد ذلك اعترافا بأنهما لم يشعرا أبدا طوال فترة حبهما بمثل هذه السعادة، بمثل هذه المتعة الغامرة، التي أحسا بها عندما كانا يشدان أذني هذا الولد الشرير .
ترجمة الدكتور أبو بكر يوسف
| |
| | | Fati المديــــر العــام
اسم الدولة : فرنسا
| موضوع: رد: انطون تشيخوف الثلاثاء ديسمبر 15, 2009 10:33 pm | |
| وشـــايـــة أنطون تشيكوف
( سيرجى كابيتونيتش أهينيف ) , أستاذ الخط , كان يزوج ابنته إلى أستاذ التاريخ والجغرافيا . مهرجانات الزفاف كانت تسلك السبيل المتوقع بنجاح تام . بداخل غرفة الرسم كانوا يغنون , ويلعبون , ويرقصون . النُدَّل المأجورون من النادى كانوا يهرعون بحيرة وذهول هنا وهناك حول الغرف , لابسين سترات سوداء مشقوق ذيلها وأربطة عنق بيضاء بياضاً باهتاً . كان هناك صخب مستمر وضجيج حديث , كان أستاذ الرياضيات وأستاذ اللغة الفرنسية ومخمن الضرائب الأدنى يتكلمون بسرعة جالسين جنباً إلى جنب على الأريكة , وغير ذلك يعترضون على من حولهم , بوصفهم لأحوال الضيوف بأنهم أشخاص يُدفنون أحياءاً ! , ويقدمون آراءهم فى الروحانية , لا واحد منهم كان يؤمن بالروحانية , ولكنهم وافقوا جميعاً على أن هناك العديد من الأشياء فى هذا العالم التى دائماً ما تكون وراء العقل البشرى . بداخل الحجرة الأخرى كان أستاذ الأدب يشرح للزائرين الأحوال والظروف فى مسألة حق الحارس فى التعدى على عابرين السبيل . الموضوعات المطروحة على حد الفهم والإدراك كانت موضوعات شائكة ومثيرة للهجوم , إلا أنها كانت مقبولة للغاية لدى الجميع .
فى تمام منتصف الليل اتجه مالك البيت إلى المطبخ ليرى هل كل شىء قد جهز للعشاء . المطبخ كان مليئاً من الأرض وحتى السقف بأدخنة ناشئة من إوزة وبطة , وكثير من الأشياء المطبوخة الأخرى . وعلى منضدتين كانت الكماليات .. المشروبات , أضواء منعشة موضوعة فى مظهر فوضوى فنى . الطباخة ( مارفا ) , امرأة ذات وجه أحمر اللون , بنية جسمها كان كالبرميل بحزام من حوله , كانت مسرعة باهتياج بشأن المناضد .
قال ( أهينيف ) وهو يحك يديه ببعضهما البعض , ويلعق شفتيه : " أرينى السمكة الكبيرة ذات الكافيار يا ( مارفا ) " واستطرد : " يالها من رائحة ! , أنا بهذا يمكننى أن أأكل المطبخ بأكمله . هيا , أرينى السمكة "
ذهبت ( مارفا ) إلى أحد الموائد , وبحذر , رفعت قطعة من جريدة مشحمة . تحت الورقة وعلى صحن هائل , كانت ترقد سمكة ضخمة , مطلية بالهُلام ومُزينة ببراعم ( الكَبَر ) الخضراء المخللة , والزيتون , والجزر . ( أهينيف ) حدق النظر إلى السمكة ولهث . أشع وجهه بابتسامة بهيجة . وأعاد نظره إلى فوق . فانحنى لأسفل , وبشفتيه أصدر صوت كصوت عجلة غير مزيتة تدور . وقبل أن يقف بدقيقة , طقطق أصابعه , ومرة أخرى لَمَظ شفتيه .
فجأة جاء صوت من الغرفة المجاورة : " أها ! صوت قبلة عاطفية حارة ... من ذا الذى تقبلينة بالخارج , يا ( مارفا ) الصغيرة ؟ " وظهر من مدخل الباب المدرس المساعد ( فانكن ) " من هو ؟ .. آه ! ... إنى سعيد لمقابلتك ! يا ( سيرجى كابيتونيتش ) ! , يجب على أن أقول أنك جد رائع رفيع ! "
قال ( أهينيف ) بارتباك : - " أنا لا أُقَبِّل , من قال لك ذلك يا أحمق ؟ , إنى فقط كنت ألمظ شفتاى .. بشأن .. إظهار وتبيين دلالة عن ... ابتهاجي بلذة .. النظر إلى السمكة "
- " قل هذا لأحد غيرى " , وتلاشى الوجه الفضولى لـ (فانكن ) , وتبدل بابتسامة عريضة ساخرة .
شاع الدم فى وجه ( أهينيف ) وقال فى نفسه : " توقف ! , هذا الحقير سيذهب الآن ويصطنع فضيحة . سيلحق بى خزياً وعاراً أمام كل المدينة , هذا الحيوان "
ذهب ( أهينيف ) بجبن داخل غرفة الرسم ونظر بخلسة حول المكان ليرى ( فانكن ) . ( فانكن ) كان يقف بقرب من البيانو , وينحنى لأسفل بتفاخر ومرح , ويهمس بشىء ما لأخت زوجة المراقب , والتى كانت تضحك .
قال ( أهينيف ) فى نفسه : " يتكلم عنى ! , اللعنة عليه ! , وهى تصدق هذا .. تصدقه ! إنها تضحك ! .. الرحمة ! لا , لا يمكن أن أدع هذا يمر .. أنا لا أستطيع , يجب أن أفعل شيئاً يمنع تصديق الناس له .. سأكلمهم كلهم , وسيظهر لهم على أنه أحمق وناشر للإشاعات "
حك ( أهينيف ) رأسه بيده , ولا زال متعصباً فى ارتباك , وذهب إلى أستاذ اللغة الفرنسية .
قال ( أهينيف ) للرجل الفرنسى : " لقد كنت للتو فى المطبخ لأرى تجهيز طعام العشاء , أنا أعلم بأنك مولع بالسمك , وأنا عندى سمكة كبيرة ذات كافيار شهى , وفجأة يا رفيقى العزيز , وبدون أية مقدمات , وعلى بعد يارة ونصف , قال ’ ها , ها , ها ’ , و .. , بالمناسبة ... لقد نسيت ... فى المطبخ منذ قليل , ومع تلك السمكة الكبيرة .. هناك قصة صغيرة ! لقد ذهبت إلى المطبخ قبل الآن بالضبط , وأردت أن أنظر إلى أطباق العشاء . نظرت إلى السمكة ولمظت شفتاى فى تلذذ .. ولحدة الصوت , جاء فى تلك الدقيقة هذا الأحمق ( فانكن ) وقال ...’ ها , ها , ها ... إذن أنت تقبل ( مارفا ) ’ , أقبل ( مارفا ) , الطباخة ! يا له من شىء للتخيل , الساذج الأحمق ! تلك المرأة مكتملة السمنة بشكل غريب , وكأنها مجموعة بهائم تجمعوا فى تكتل معاً , وهو يتكلم عن التقبيل ! هذا الشخص الشاذ ! "
" من هو هذا الشخص الشاذ ؟ " سأل هذا أستاذ الرياضيات وهو آت .
قال ( أهينيف ) : " ها هو ذا , هناك , ( فانكن ) ! لقد ذهبت إلى المطبخ ... " وقال قصة ( فانكن ) .. واستطرد : " ... لقد أضحكنى هذا الشخص الشاذ ! إنى لأفضل أن أُقَبِّل كلب عن أن أفعل هذا بـ (مارفا ) لو خيرتنى " نظر ( أهينيف ) حوله ووجد مخمن الضرائب الأدنى .
قال له (أهينيف ) : " كنا نتكلم عن ( فانكن ) , هذا الشخص الشاذ , لقد ذهب إلى المطبخ , و وجدنى بجانب ( مارفا ) , وبدأ يخترع كل أنواع القصص السخيفة , ويقول ’ لماذا تُقَبِّل ؟ ’ , يجب أن عقله قد سقط منه كثيراً , وقد قلت ’ إنى لأفضل أن أُقَبِّل ديكاً رومياً عن ( مارفا ) .. ثم إن لدى زوجتى الخاصة بى أيها الأحمق ’ , لقد أضحكنى ! "
- " من الذى أضحكك ؟ " سأل هذا القسيس الذى درَّس الكتاب المقدس بالمدرسة , وهو ذاهب تجاه ( أهينيف )
-" ( فانكن ) . لقد كنت واقفاً داخل المطبخ , حسناً , وأنظر إلى تلك السمكة الكبيرة .... "
وهكذا وبعد نصف ساعة تقريباً كان كل المعزومون يعلمون حادثة السمكة و ( فانكن ) .
قال ( أهينيف ) فى نفسه وهو يحك يده باليد الأخرى : " دعه يلغو الآن , دعه .. , سيبدأ فى قول قصته لهم , وسيقولون له فى الحال , ’ كفاك هراءاً بعيد الاحتمال , أيها الأحمق , نحن نعلم كل شىء عن ذلك ! ’ "
وهنا كان ( أهينيف ) مرتاح البال للغاية , وكنتيجة لسعادته الشديدة , شرب أربعة كؤوس مملوئين عن آخرهم . وبعد مرافقة الصغار إلى غرفهم , ذهب إلى السرير ونام كالطفل البرىء , وفى اليوم التالى لم يعد يفكر بشأن حادثة السمكة الكبيرة . ولكن , وا حسرتاه ! .. أنت تريد , وأنا أريد , والله يفعل ما يريد . لسان شرير فعل فعله الشرير , وكانت خطة ( أهينيف ) بلا فائدة . فقط بعد أسبوع واحد – وللدقة , فى يوم الأربعاء بعد المحاضرة الثالثة – عندما كان ( أهينيف ) يقف عند منتصف حجرة الأساتذة , حاملاً لتقرير عن ميل للمشاغبة لولد يُدعى ( فيسيكين ) , ذهب مدير المدرسة لـ ( أهينيف ) وسحبه جانباً وقال له :
" أنظر , يا ( سيرجى كابيتونيتش ) , يجب أن تعذرنى ... إنه ليس من شأنى , ولكن عموماً يجب أن أجعلك تدرك الموقف , إنه من واجبى , أنظر , هناك إشاعات أنك على علاقة رومانسية مع ال ... طباخة .. , هذا لن يضرنى شخصياً فى شىء , .. لك الحرية فى أن تغازلها , تقبلها , كما تشاء , ولكن لا تجعل هذه الأمور عامة وتنشرها للجميع , من فضلك , إنى أتوسل إليك ! لا تنسى أنك مدرس مدرسى "
( أهينيف ) تحول إلى شخص بارد ضربه دوار عنيف . رجع البيت كرجل ملدوغ من سِرب نحل بالكامل . كرجل محروق بماء مغلى . وأثناء مشيه إلى المنزل , شعر بأن كل من فى المدينة ينظر إليه على أساس أنه سىء السمعة . وفى المنزل كانت تنتظرة مشكلة طازجة .
سألته زوجته على العشاء : " لماذا لا تلتهم طعامك كعادتك ؟ " , واستطردت : " ما الذى يشغل تأملك هكذا ؟ هل تفكر فى شأن علاقاتك الغرامية ؟ تعلق آمالك بمحبوبتك ( مارفا ) ؟ إنى أعلم كل ما هو بشأن هذا , أيها المسلم ! أصدقاء أخيار قد نبهونى من غفلتى ! آ ه ه ... أيها الهمجى ! "
وصفعته على وجهه . خرج من جلسة المنضدة , وهو لا يشعر بالأرض تحت قدميه , وبدون أن يرتدى قَلَنْسُوَّته أو معطفه , جعل طريقه إلى ( فانكن ) . و وجده بالبيت .
وجه ( أهينيف ) كلامه لـ ( فانكن ) : - " أيها الوغد ! لماذا لطخت وجهى بالطين أمام كل المدينة ؟ لماذا جعلت تلك الوشاية تنتشر عنى ؟ "
- " أية وشاية ؟ عن ماذا تتكلم ؟ "
-"من الذى نشر إشاعة تقبيلى لـ ( مارفا ) ؟ أليس هو أنت ؟ قل لى . ألم يكن أنت ؟ , أيها اللص ! "
( فانكن ) نظر بدهشة بعينين طارفتين , ونزع من نفسه كل رمز دال على العنف والثورة , وبدا رزيناً , وأعاد عينيه لتنظر إلى التمثال الذى يعبده , وقال بألفاظ واضحة ومتسقة : " يلعننى إلهى ! يجعلنى أعمى ويقتلنى , إذا كنت قد قلت كلمة مفردة عنك ! من الممكن أن أُشَرَّد , أو أُصاب بمرض أسوأ من الكوليرا لو قلت ذلك عنك ! "
إخلاص وصدق ( فانكن ) كان غير قابل للارتياب , لقد كان من البين أنه ليس هو مخترع الوشاية .
تساءل ( أهينيف ) فى تعجب : ولكن من إذن ؟ , من ؟! " , وظل يسترجع بعقله ويمر على كل معارفه الشخصية , ويضرب نفسه على صدره ويقول : " من إذن ؟! "
*** تمت
ترجمه : أحمد الصادق 15 \ 6 \ 2006
| |
| | | Fati المديــــر العــام
اسم الدولة : فرنسا
| موضوع: رد: انطون تشيخوف الثلاثاء ديسمبر 15, 2009 10:35 pm | |
| فولوديا الكبير وفولوديا الصغير ـــ بقلم: أنطون تشيخوف ـ ترجمة: ليندا خليل
ـ أريد أن أقود بنفسي، أرجوك اسمح لي، سأجلس بقرب الحوذي ـ قالت صوفيا لفوفنا بصوت عالٍ. ـ انتظر لحظة أيها الحوذي، سأجلس بجانبك في المقعد. كانت تقف في العربة، بينما كان زوجها فلاديمير نيكيتش، وصديق طفولتها فلاديمير ميخايليتش يمسكان بها من ذراعيها كي لا تقع. انطلقت الترويكا(1) مسرعة. ـ قلت لك ألا تعطيها الكونياك. همس فلاديمير نيكيتش لرفيقه بانزعاج. كان الكولونيل يعرف من تجربة سابقة أن حالة الابتهاج الصاخب أو بالأحرى الثمل بالنسبة لامرأة مثل زوجته صوفيا لفوفنا عادة ما يعقبها ضحك هستيري ومن ثم بكاء. وقد كان قلقاً الآن لأنه حال وصولهم إلى البيت سيتوجب عليه الانشغال بالكمادات وجرعات الدواء بدلاً من الذهاب إلى السرير. ـ هِشْ! ـ صرخت صوفيا لفوفنا ـ أريد أن أقود. كانت فرحة ومسرورة حقاً، فطوال شهرين، ومنذ يوم زفافها بالذات، كان يعذبها التفكير بأنها تزوجت الكولونيل لمصلحة، أو كما يقال Par depit(2). واليوم على أية حالة، أدركت أخيراً في مطعم خارج البلدة أنها تحبّه بشغف. فعلى الرغم من أعوامه الأربعة والخمسين، كان متين البنية، رشيقاً، مرن الأعطاف، يحسن التلاعب بالألفاظ والمشاركة في أغاني الفتيات الغجريات. حقاً، في أيامنا هذه، يعدّ الرجال الأكبر سناً أكثر جاذبية من الشباب اليافعين بألف مرّة، حتى ليخيّل للمرء أن الشيخوخة والصبا قد تبادلا الأدوار. كان الكولونيل يكبر أباها بسنتين، ولكن، أكان من الممكن أن يكون لهذا معنىً، إن كان يقيناً يفوقها هي نفسها حيوية ونشاطاً وغضارة، ودون أن يكون هناك أي مجال للمقارنة بينهما، على الرغم من أنها كانت ما تزال في الثالثة والعشرين من عمرها بعد؟ آه يا عزيزي ـ فكرت ـ أنت رائع. في المطعم أدركت أيضاً أنه لم يتبق في قلبها حتى مجرد ومضة من شعورها السابق، والآن كانت تشعر بلا مبالاة تامة تجاه فلاديمير ميخايليتش صديق طفولتها، أو فولوديا كما كان يدعى، والذي كانت ما تزال حتى البارحة تحبه إلى حد الجنون واليأس. فقد بدا لها طوال الأمسية فاتراً، ناعساً، مملاً وعديم الشأن. على أن لا مبالاته التي كانت تصحب تهربه المألوف من دفع فواتير المطعم، جعلتها الآن تشعر بالاشمئزاز، وبالكاد تمالكت نفسها من القول "إن كنت لا تملك نقوداً، فعليك البقاء في المنزل". دفع الكولونيل. وربما لأن الأشجار وأعمدة التلغراف والثلوج المتراكمة مرّت مروراً خاطفاً أمام عينيها، كانت تخطر على بالها أفكار مختلفة: بلغت فاتورة المطعم مائة وعشرين روبلاً، والغجر ـــ مئة، وبإمكانها غداً إلقاء ألف روبل في الهواء إن أرادت، ولكنها قبل شهرين من زواجها لم تكن تملك حتى ثلاثة روبلات، وكان يتوجب عليها مراجعة أبيها بشأن أتفه الأمور. يا لهذا التحوّل الكامل في حياتها! كانت أفكارها مشوشة للغاية، وتذكرت أيضاً أن الكولونيل ياغيتش، الذي هو زوجها الآن، كان قد تودد إلى خالتها، عندما كانت هي في العاشرة من عمرها. وكان جميع أهل المنزل يقولون آنذاك أنه دمرها. كما تذكرت كيف أن خالتها غالباً ما كانت تنزل لتناول الغداء دامعة العينين، وكيف كانت تغادر المنزل بين الحين والحين، حتى قيل إنه ليس في وسع هذه المخلوقة البائسة أن تجد راحة في أي مكان. آنذاك كان وسيماً جداً، وكان نجاحه الباهر مع النساء قد أكسبه شهرة في البلدة كلها، حتى راحت تُحكى عنه الحكايات. ويقال إنه كان يتردد على المعجبات به كما يعود الطبيب مرضاه. وبالرغم من شعره الأشيب وتجاعيده ونظّارته، وبالرغم من نحول وجهه، فإنه حتى الآن يبدو بهي الطلعة، لاسيّما إذا نظرنا إليه من الجانب. كان والد صوفيا لفوفنا طبيباً عسكرياً، وقدّر لـه في وقت مضى أن يخدم مع ياغيتش في الفوج نفسه. وكان والد فولوديا طبيباً عسكرياً أيضاً، وخدم في الماضي مع والد صوفيا وياغيتش في الفوج ذاته. وبغض النظر عن المغامرات العاطفية التي غالباً ما كانت معقدة وعاصفة، كان فولوديا طالباً ممتازاً، أنهى دراسته الجامعية بتفوق، ثم قرر التخصص في مجال الأدب الأجنبي، وقيل إنه يكتب أطروحة. كان يقيم حالياً في الثكنات مع والده الطبيب العسكري دون أي نقود يملكها، مع أنه قد بلغ الثلاثين. في طفولتهما، عاش فولوديا وصوفيا لفوفنا في شقتين مختلفتين، ولكن دائماً تحت سقف واحد، وكثيراً ما كان يزورها للعب، ومعاً تعلما الرقص واللغة الفرنسية. ولكن عندما كبر وأصبح شاباً ممشوق القامة وسيما، بدأت تشعر بالخجل منه، ثم أغرمت به بجنون، وظلت تحبه إلى أن تزوجت ياغيتش. كان لفولوديا أيضاً نجاح باهر مع النساء، فمنذ الرابعة عشرة من عمره تقريباً، كانت النساء اللواتي يخنّ أزواجهن معه يبررن لأنفسهن أن فولوديا كان فتى صغيراً. ومنذ وقت ليس بالبعيد تناقلت الألسن عنه قصة، وهي أنه عندما كان طالباً كان يقيم في غرفة مفروشة قرب الجامعة، وكان يقترب من الباب كلما دقّ ويعتذر بصوت خافت "Pardon, Je ne suis las seul"(3). اعتاد ياغيتش أن يفيض ابتهاجاً حياله، وتنبأ لـه بمستقبل عظيم كما تنبأ درجافن(4) لبوشكين، إذ يبدو أنه كان يحبه. كانا يلعبان البلياردو والبيكيت لمدة ساعة وهما صامتان، وكان ياغيتش يصحب معه فولوديا أينما ذهب في الترويكا، وكذلك لم يُطلع فولوديا على أسرار أطروحته أحداً غير ياغيتش. وقبل ذلك، عندما كان الكولونيل أصغر سناً، غالباً ما وجدا نفسيهما غريمين يتنافسان، ولكن لم يكن للغيرة مكان بينهما قط، وإذا ما اجتمعا في بيوت علية القوم، كان ياغيتش يُعرف بفولوديا الكبير، وصديقه بفولوديا الصغير. وفضلاً عن فولوديا الكبير وفولوديا الصغير، وصوفيا لفوفنا، كان هناك شخص آخر في العربة، إنها مارغريتا ألكساندرفنا، أو ريتا كما كانت تدعى، قريبة زوجة ياغيتش، وهي فتاة تعدّت الثلاثين، شاحبة الوجه، لها حاجبان أسودان، وتضع نظارة دون ذراعين. كانت تدخن سيجارة تلو الأخرى، حتى في جو الصقيع القارص، فهناك دوماً رماد على صدرها وركبتيها. كانت تخن في كلامها وتمط كل لفظة تقولها. زد على ذلك أنها امرأة باردة، قادرة على تجرع الليكيور والكونياك بأي قدر تشاؤه دون أن تثمل. كانت تروي فكاهات مريبة بطريقة ذابلة غير مستحبة. وفي المنزل، كانت تقرأ صحفاً سميكة من الصباح حتى المساء، تبعثر الرماد فوقها أو تلوك تفاحاً مجمداً. ـ توقفي يا سونيا عن إحداث هذا الضجيج! ـ قالت بصوت مترنم ـ حقاً، إن هذا سخيف. حين اقتربت من بوابة المدينة، تباطأت حركة الترويكا، فتراءت البيوت والناس بصورة خاطفة، والتصقت صوفيا لفوفنا بزوجها وقد هدأت واستغرقت في التفكير. كان فولوديا الصغير جالساً قبالتها، فيما اختلطت الآن أفكارها المشرقة السعيدة بأفكار أخرى كئيبة. فقد جال في خاطرها: هذا الرجل الجالس قبالتها كان يعرف أنها تحبه، ومن المؤكد أنه صدّق الإشاعة القائلة إنها تزوجت الكولونيل par depit. لم تبح لـه بحبها يوماً أبداً، ولم تشأ أن يعرف بذلك، فأخفت مشاعرها عنه، ولكن بدا جلياً من نظرته أنه كان يفهمها جيداً، بينما عانت كبرياؤها بسبب ذلك. إلا أن الحقيقة الأكثر إهانة لها كانت تتمثل في أن فولوديا الصغير راح يعيرها اهتمامه فجأة بعد زواجها، وهذا شيء لم يكن لـه وجود من قبل. فقد أخذ يجلس معها صامتاً لساعات، أو يثرثر في أمور تافهة، والآن، عندما كانوا راكبين في الترويكا، شرع يدوس على رجلها بخفة تارةً، ويضغط على يدها تارة أخرى دون أن ينبس بكلمة واحدة. كان واضحاً أنه أراد لها أن تتزوج فقط، مثلما كان واضحاً أنه يحتقرها وأنه كانت تثير في داخله نوعاً محدداً من الاهتمام فحسب، بوصفها امرأة فاسدة وغير مستقيمة. ولما كان شعورها بالانتصار والحب تجاه زوجها قد اختلط بالخزي والكبرياء المجروحة، فقد راودتها رغبة ملحة بالمشاكسة، لدرجة أنها أرادت الجلوس في مقعد الحوذي كي تصرخ وتصفر. وبينما هم يمرون بدير نسوي ترامى إلى أسماعهم صوت جرس عظيم يزن نحو عشرين طناً، فرسمت ريتا إشارة صليب على صدرها. ـ عزيزتنا أوليا في هذا الدير. قالت صوفيا لفوفنا وصالبت أيضاً بارتجاف. ـ لماذا التحقت بالدير؟ سأل الكولونيل. ـ par depit ـ أجابت ريتا في تلميح ساخر منها إلى زواج صوفيا لفوفنا من ياغيتش ـ إنها عادة دارجة هذه الـــ par depit. إنها تحدٍّ للعالم أجمع، لقد كانت أوليا تقهقه بصوت عال وتتغنج بطيش، وقد كان أمر العشّاق والحفلات الراقصة هو شغلها الشاغل، ولكن بغتة ـ انظروا ما حصل! لقد فاجأت الجميع. ـ هذا ليس صحيحاً ـ أجاب فولوديا الصغير وهو يثني ياقته المصنوعة من الفرو، ويكشف عن وجهه الوسيم. ـ لم يكن هناك أية par depit، بل بالأحرى خوف محض إذا ما أردت أن توجهي الموضوع هذه الوجهة. فقد حكم على أخيها دميتري بالأشغال الشاقة، ومكان وجوده غير معروف الآن، وتوفيت أمها من فرط حزنها. رفع فولوديا ياقته مجدداً واستأنف بلا مبالاة: تصرفت أولياً تصرفاً صائباً، تصوروا فقط أنها تعيش كلقيط وبالأحرى مع جوهرة مثل صوفيا لفوفنا! هذا ليس بالأمر السهل. أدركت صوفيا لفوفنا نبرة الاحتقار في صوته، فأرادت أن ترد عليه بشيء ناب، ولكنها لزمت الصمت، ثم عاودتها الرغبة ذاتها بالمشاكسة، فهبّت واقفة على قدميها، وصرخت بصوت باكٍ: أريد الذهاب إلى صلاة الصباح، ارجع أيها الحوذي، أرغب برؤية أوليا! نفذ الحوذي أمرها. كان طنين جرس الدير عميقاً للغاية، وبدا أن ثمة شيئاً فيه ذكّر صوفيا لفوفنا بأوليا وحياتها، وبدأت الأجراس تقرع في الأديرة الأخرى أيضاً. عندما أوقف الحوذي الترويكا، وثبت صوفيا لفوفنا من العربة وحدها، وتوجهت نحو البوابة مسرعة لا يرافقها أحد. ـ أسرعي، أرجوك! صرخ زوجها، فالوقت متأخر. عبرت صوفيا لفوفنا البوابة المظلمة، ثم الممر المؤدي إلى الكنيسة. كان الثلج الخفيف يهسهس تحت قدميها، وقرع الجرس فوق رأسها حتى خيّل إليها أنه يخترق كيانها كله. هاهو باب الكنيسة وهو يفضي بعد هبوط ثلاث درجات إلى رواق طويل تتدلى على جانبيه صور القديسين. كانت رائحة البخور والعرعر تعمّ هذا المكان الذي ينتهي إلى باب بدا أنه يُفتح ويظهر منه خيال عاتم لامرأة تنحني لها. لم تكن الصلاة في الكنيسة قد بدأت بعد. كانت هناك راهبة تتحرك أمام المحراب الكنسي وتشعل الشموع في شمعداناتها، بينما انشغلت أخرى بإضاءة الثريا. وقريباً من الأعمدة والمقاعد الجانبية تبدّت هيئات أشخاص يقفون في الظلمة ساكنين: هذا يعني أنهم سيقفون على هذه الحال، بلا حراك، حتى طلوع الصباح ـ فكرت صوفيا لفوفنا، وبدا لها المكان مظلماً، بارداً وموحشاً، بل وأكثر وحشة من المقبرة ذاتها. نظرت حولها بغمٍّ إلى الهيئات الجامدة الساكنة وانقبض صدرها فجأة إذ تمكنت بطريقة ما من تبيّن أوليا في راهبة ضئيلة الحجم، نحيلة الكتفين، تغطي رأسها بمنديل أسود، على أن أوليا كانت قبل دخولها إلى الدير ممتلئة الجسم، وتبدو أطول قامة. اقتربت صوفيا لفوفنا من المبتدئة مترددة ومتوترة جداً دون أن تعرف السبب، نظرت إلى أوليا عبر كتفها فعرفتها. ـ أوليا! ـ قالت وضربت كفاً بكف وهي تنطق الاسم بالكاد من شدّة تأثرها، ـ أوليا! عرفتها الراهبة على الفور فرفعت حاجبيها دهشة، فيما بدا وجهها الشاحب النظيف الطاهر، وحتى غطاء الرأس الأبيض الصغير الظاهر من تحت منديلها، مشرقين من شدّة الفرح. ـ يا لها من معجزة سماوية! قالت وهي تضرب يديها النحيلتين والشاحبتين بعضهما ببعض هي الأخرى. ثم عانقتها صوفيا لفوفنا بقوة وقبّلتها، إلا أنها كانت تخشى أن تفوح منها رائحة الخمرة. كنا عابرين للتو فتذكرناك ـ قالت منقطعة الأنفاس كما لو أنها مشت مسرعة ـ يا إلهي، كم أنت شاحبة! إنني سعيدة لرؤيتك، ما أخبارك؟ كيف حالك؟ هل تشعرين بالملل؟ نظرت صوفيا لفوفنا حولها إلى الراهبات الأخريات، ثم تابعت بصوت خافت: لقد تغيّرت أمور كثيرة في المنزل، أتعرفين؟ أنا تزوجت يا غيتش، فلاديمير نيكيتش، ما زلت تذكرينه، وأنا في غاية السعادة معه. ـ حسناً، الحمد لله، وهل والدك على ما يرام؟ ـ نعم. إنه على ما يرام، وهو غالباً ما يتذكرك. أرجو يا أوليا أن تزورينا أيام العطل، أتسمعينني؟ ـ سآتي. قالت أوليا وارتسم على محياها طيف ابتسامة ـ سأجيء في اليوم الثاني من العطلة. انخرطت صوفيا لفوفنا بالبكاء دون أن تعرف سبباً لذلك، بكت بصمت للحظة، ثم جففت عينيها وقالت: شدّ ما ستأسف ريتا لأنها لم تركِ، فهي بصحبتنا أيضاً، وفولوديا هنا كذلك، إنهما أمام البوابة الآن، كم سيكون سرورهما عظيماً لو خرجت لرؤيتهما! هيا، فالصلاة لم تبدأ بعد. ـ هيّا، فلنذهب. وافقت أوليا. فصلّبت ثلاث مرّات وتوجهت مع صوفيا لفوفنا نحو الباب المؤدي إلى الخارج. ـ إذن تقولين يا سونيتشكا إنك سعيدة؟ ـ سألت أوليا ما إن اجتازتا البوابة. ـ جداً! ـ حسناً، الحمد لله. ترجّل فولوديا الكبير وفولوديا الصغير من العربة إذ لمحا الراهبة، فحيّاها باحترام، وكان واضحاً كم أثّرت فيهما رؤية وجهها الشاحب، وجبّة الراهبات السوداء، فقد سرّهما أنها تذكرتهما وخرجت تسلّم عليهما. لفتها صوفيا لفوفنا ببطانية تقيها البرد، وألقت عليها طرفاً من معطفها الفرو. كانت الدموع التي ذرفتها تواً قد أراحت قلبها وأبهجته، وكانت سعيدة لأن هذه الليلة الصاخبة، المضطربة والمتهتكة في حقيقة الأمر قد انتهت بنقاء ولطف دون سابق توقع. ورغبة منها في إبقاء أوليا مدّة أطول اقترحت: دعونا نصحبها في نزهة، اجلسي يا أوليا، سنقوم بنزهة قصيرة ليس إلاّ. توقع الرجلان من الراهبة أن ترفض ـ فليس من عادة الأتقياء ركوب الترويكا، ولكن كم كان ذهولهم كبيراً حين وافقت الراهبة وجلست في العربة! وعندما انطلقت الترويكا كالسهم نحو بوابة المدينة، لزموا الصمت جميعاً، ولم يكن لهم من همٍّ إلا أن تنعم بالدفء والراحة، وهم غارقون في التفكير: كيف كانت من قبل وكيف هي الآن. بدا وجهها الآن جامداً خالياً من أية تعابير تقريباً، بارداً وشاحباً وشفافاً كما لو أن ماءً يجري في عروقها وليس دماً، مع أنها قبل سنتين أو ثلاث كانت مكتنزة الجسم متوردة الخدّين، تتحدث عن العرسان وتطلق ضحكتها المدوية لأتفه الأمور. استدارت الترويكا قرب بوابة المدينة، ثم توقفت قرب الدير بعد مضي عشر دقائق، فنزلت أوليا فيما كانت أجراس الكنيسة تُقرع الآن في برجها. ـ بارككم الله. قالت أوليا، وانحنت على طريقة الراهبات. ـ أرجوك يا أوليا، زورينا. ـ سأفعل، سأفعل. وابتعدت أوليا سريعة الخطى، وسرعان ما ابتلعتها البوابة المظلمة. وما إن استأنفت الترويكا انطلاقها حتى شعر الجميع بكآبة ثقيلة. لم ينبس أحد ببنت شفة. وشعرت صوفيا لفوفنا بوهن في أوصالها وخارت عزيمتها، لقد خيّل إليها أنّ إجبارها الراهبة على ركوب العربة والتنزه برفقة ثملة تصرّف غبي غير لبق، ويكاد يكون استهتاراً بالمقدسات. زال ثملها وكذلك رغبتها بخداع نفسها، وغدا واضحاً لها أنها لا تحب زوجها، وليس بمقدورها أن تحبه أبداً، وأن الأمر برمّته هراء وحماقة. لقد تزوجت زواج مصلحة، قوامه، وفقاً لرأي زميلاتها، أن الزوج فاحش الثراء، وإنه لأمر مرعب أن تبقى عانساً، مثل ريتا! ثمّ إنها ملّت أباها الطبيب وأرادت إغاظة فولوديا الصغير. ولو كانت قادرة أن تخمّن قبل الزواج أنه سيصعب عليها التحمل الذي سيكون أمراً فظيعاً وبشعاً، لكانت رفضت هذا الزواج ولو عرضوا عليها كل ثراء العالم. ولكن ما حصل لا يمكن تغييره الآن، وعليها قبوله. حين رجعوا إلى المنزل، استلقت في سريها الدافئ الناعم، وألقت الأغطية على نفسها، فتذكرت رواق الكنيسة المظلم ورائحة البخور، والهيئات المنتصبة بجانب الأعمدة. كانت تريعها فكرة أن هؤلاء الأشخاص سيبقون واقفين هناك بلا حراك طوال فترة نومها، وأن صلاة الفجر ستدوم وقتا طويلاً جداً، ثم تعقبها ساعات، ثم صلاة النهار وبعدها الصلوات القصيرة. "ولكن الإله موجود حقاً، إنه موجود على الأرجح. ولا شك أني سأموت، وهذا يعني أنه يتوجب على المرء عاجلاً أم آجلاً، أن يفكر في الروح والحياة الأبدية، مثل أوليا. لقد حصلت أوليا على الخلاص الآن، لقد حسمت كل الأمور مع نفسها، ولكن، إذا لم يكن هناك إله؟ ستكون حياتها قد هدرت سدىً، أتكون قد ضاعت فعلاً؟ ولِمَ تضيع؟ وبعد دقيقة خطرت في ذهنها فكرة: إن هناك إلهاً، والموت آتٍ لا محالة، وعلى المرء أن يفكر في روحه، إن كان مقدّراً على أوليا أن تلاقي حتفها في هذه اللحظة بالذات، فإنها لن تجزع، إنها مستعدة، ولكن الشيء المهم هو أنها قد حسمت أمور حياتها مع نفسها سلفاً". هناك إله.... أجل... ولكن، أمَا هناك من طريقة غير الترهب؟ فالالتحاق بالدير يعني حقاً إيقاف الحياة وتدميرها". تملَّكها الخوف قليلاً، فغطّت رأسها بالمخدة. ـ يجب ألا أفكر في هذا... يجب ألا أفكر... كان ياغيتش يذرع الغرفة المجاورة جيئة وذهاباً، يخشخش بمهمازه على نحو خافت مستغرقاً بالتفكير بأمر أو بآخر. باغت صوفيا لفوفنا التفكير بأن هذا الرجل كان قريباً وعزيزاً عليها لمجرد سبب واحد، وهو كون اسمه فولوديا أيضاً، فجلست في سريرها ونادت بلطف: فولوديا. ـ ما الأمر؟ ردّ زوجها. ـ لا شيء. وعادت إلى الاستلقاء. تناهى إلى سمعها طنين أجراس، ربما كان مصدره الدير نفسه. وذكّرتها هذه الأجراس من جديد برواق الكنيسة والهيئات المظلمة المنتصبة. دارت في ذهنها أفكار عن الإله وعن الموت المحتّم، غطّت رأسها كي لا تسمع هذا الطنين. فكرت: إن أمامها حياة طويلة تفصلها عن الشيخوخة والموت، ويتوجب عليها أن تتحمّل الحياة قرب الرجل الذي لا تحبّه، والذي ولج الآن إلى غرفة النوم وهو في طريقه إلى الفراش، وستكون مجبرة أن تكتم في نفسها حبّها اليائس لرجل آخر، فتي وجذاب، رجل بدا لها شخصاً خارقاً. ألقت نظرة على زوجها وأرادت أن تقول لـه تصبح على خير، إلا أنها عوضاً عن ذلك انفجرت باكية. كانت مستاءة من نفسها. ـ حسناً، ها قد بدأت الموسيقى ـ قال وهو يمطّ حرف الياء. استعادت صوفيا لفوفنا هدوءها، ولكن بعد مرور فترة طويلة نسبياً، حوالي العاشرة صباحاً. توقفت عن البكاء والارتعاد، ولكن عوضاً عن ذلك تملّكها صداع شديد. كان يا غيتش يسرع بالاستعداد للقدّاس المتأخر، وهو في الغرفة المجاورة يزمجر في وجه خادمه الذي يساعده على ارتداء ثيابه. دخل إلى غرفة النوم وهو يخشخش بمهمازه على نحو خافت. أخذ شيئاً ما، ثم دخل مرّة أخرى مرتدياً كتفيتيه وأوسمته، ويعرج في مشيته على جري عادته بسبب الروماتيزم. ولسبب ما خيّل لصوفيا لفوفنا إنه كان يمشي وهو يتلفت حوله كحيوانٍ مفترس. سمعته يتكلّم بالهاتف: من فضلك اعمل معروفاً، صلني مع ثكنات فاسيلفسكي! ـ ثم استأنف بعد لحظة: ثكنات فاسيلفسكي؟ اطلب من السيد ساليموفيتش أن يكلمني من فضلك... وبعد لحظة أخرى: من يكلمني؟ أهذا أنت يا فولوديا؟ إني سعيد جداً لسماعك، يا عزيزي، اطلب من والدك أن يعرج علينا فوراً، فزوجتي في حالة سيئة جداً بعد نزهة البارحة... ليس في المنزل؟... هممم... شكراً لك، يا للروعة!... إني ممتن جداً... مرسي. دخل ياغيتش إلى غرفة النوم للمرة الثالثة، فانحنى فوق زوجته ورسم إشارة الصليب، ثم مدّ يده لتقبّلها ـ فالنساء اللواتي أحببنه كنّ يقبّلن يده دوماً، وقد كان معتاداً على ذلك ـ قال إنه سيعود للعشاء وخرج. في الثانية عشرة أعلنت الخادمة عن قدوم فلاديمير ميخايلتش، فنهضت صوفيا لفوفنا مترنحة بسبب وهنها وصداعها. وسرعان ما ارتدت ثوبها الليلكي المزيّن بالفرو، واللافت للنظر، مشّطت شعرها على عجلة منها كيفما تفق. شعرت برقة في قلبها تفوق حدود الوصف. كانت ترتجف فرحاً وخوفاً من أن يذهب. آه ليتها فقط تستطيع أن تراه! جاء فولوديا الصغير زائراً وهو على أتمّ هندام يرتدي لباساً رسمياً ولفاعاً أبيض. وعندما دخلت صوفيا لفوفنا ردهة الاستقبال قبّل يدها وعبّر عن أسفه الشديد حيال توعكها. بعدئذ أطرى ثوبها عندما جلسا. ـ لقد انزعجت من رؤية أوليا البارحة ـ قالت ـ في البداية ساورني شعور رهيب، ولكنني الآن أحسدها. إنها صخرة صمّاء يصعب تحطيمها، ولن يكون بوسع أحد أن يزحزحها من مكانها أبداً. ولكن يا فولوديا، أما كان أمامها من مخرج آخر تسلكه؟ أيجب على المرء حقاً أن يئد نفسه حياً ليحلّ لغز الحياة؟ أتعرف؟ إنه موت بحد ذاته وليس حياة. ظهر تعبير لطيف على وجه فولوديا لدى ذكر أوليا. ـ أنت شخص ذكي يا فولوديا ـ قالت صوفيا لفوفنا ـ علّمني كيف أفعل ما فعلته هي تماماً. إنني بالطبع لست مؤمنة، وليس بمقدوري أن أدخل ديراً لكن لابد أن يكون هناك ما يماثل هذا الخيار قيمةً... إن حياتي ليست سهلة ـ تابعت بعد لحظة صمت ـ أخبرني... قل لي شيئاً مقنعاً، كلمة واحدة تفي بالغرض. ـ كلمة واحدة؟ هاك إذاً: تارارا ابومبيا. ـ لماذا تحتقرني يا فولوديا. سألته باندفاع ـ فأنت تستخدم هذه اللغة ـ اعذرني ـ الساذجة والعابثة عندما تتحدث إلي بالذات، وهي ليست من النوع الذي يستخدمه الناس مع أصدقائهم أو مع نساء محترمات. إنك ناجح جداً كإنسان متعلّم، فأنت تحب العلوم، ولكنك لا تتكلم معي أبداً عن العلوم؟ لماذا؟ ألست أهلاً لذلك؟ تضايق فولوديا الصغير فغضن وجهه وقال: لماذا تريدين أن تتكلمي عن العلوم فجأة؟ لعلّك تريدين الدخول بنقاش عن البنية؟ أو ربما عن سمك الحفش مع الفجل الحرّيف؟ ـ جيد. حسناً، إنني امرأة تافهة سيئة مجرّدة من القيم، وغبية... ارتكبت مئات المئات من الأخطاء. إنني مريضة نفسياً وفاسقة وأستحق الاحتقار على هذا النحو، ولكن انظر يا فولوديا، أنت تكبرني بعشر سنوات وزوجي يكبرني بثلاثين سنة، إنني ترعرعت أمام ناظريك، ولو أردت، لكان في مقدورك أن تجعل مني ما تشاء حتى ملاكاً، ولكنك ـ وهنا ارتجف صوتها ـ عاملتني على نحو مريع، وتزوجني يا غيتش عندما كان مسناً أصلاً وأنت... ـ هذا يكفي، هذا يكفي ـ قال فولوديا وهو يقترب في جلوسه منها ويقبّل كلتا يديها ـ لندع شوبنهاور وأمثاله لفلسفتهم وإثبات ما يريدون إثباته، أما نحن فدعينا نقبل هاتين اليدين الصغيرتين. ـ أنت تحتقرني بالفعل، ليتك تعرف فقط كم يعذبني هذا! قالت بتلكؤ وهي تعرف سلفاً أنه لن يصدقها. ـ ليتك تعرف فقط كم أريد أن أكون امرأة أخرى، وأن أبدأ حياة جديدة، إنني أفكر في هذا ببهجة غامرة. ـ وبالفعل فقد ذرفت قليلاً من دموع الفرح عندما قالت ذلك ـ لأن تكون إنساناً طيباً شريفاً طاهراً، ألاّ تكذب، وأن يكون لك هدف في الحياة! ـ هيا، هيا، هيا لا تبدئي بالتظاهر، فأنا لا أحب هذا. قال فولوديا واتخذ وجهه تعبيراً متقلباً ـ يا إلهي، لكأنك على خشبة المسرح، دعينا نتصرف كأناس حقيقيين. ولكي لا يغضب ويرحل، طفقت تجد الأعذار لنفسها، وأجبرت نفسها على الابتسام بغية إرضائه، وعاودت الحديث عن أوليا وكيف تمنّت هي أيضاً أن تحلّ مشكلات حياتها، وأن تصبح إنساناً بحق. ـ تارا.. را.. مبيا ـ غنى هامساً ـ تا...را...بومبيا. وفجأة طوّق خصرها، فوضعت يديها على كتفيه، جاهلة ما تفعل. ولدقيقة ظلت تنظر بنشوة كما لو كانت مخدّرة، إلى وجهه الذكي والساخر، وإلى جبينه وعينيه ولحيته الرائعة. ـ لقد عرفت لمدّة طويلة أني أحبك ـ اعترفت واحمرّت خجلاً وألماً، بل وشعرت بأن شفتيها التوتا بتشنج من أثر الخجل ـ إني أحبك حقاً، فلماذا تعذبني؟. أغمضت عينيها وقبّلته بشغف في شفتيه، ولعلّه مضى من الوقت دقيقة كاملة قبل أن تستطيع حمل نفسها على إنهاء القبلة، رغم أنها كانت تدرك أن هذا لا يجوز البتة، وأنه قد يدينها هو نفسه، أو أن الخدم قد يدخلون إلى الغرفة... ـ آه، كم تعذبنيّ ـ رددت. بعد مضي نصف ساعة، وكان قد حقق ما أراد، جلس في غرفة الطعام وتناول وجبة خفيفة، بينما ركعت هي بجانبه وراحت تحملق في وجهه بشراهة . قال لها إنها تبدو مثل كلب أليف ينتظر من صاحبه أن يرمي لـه ببقية من لحم، ثم أجلسها على إحدى ركبتيه وغنّى وهو يؤرجحها: تارا... رابومبيا! عندما كان يهمّ بالمغادرة، سألته بصوت متأثر: متى؟ اليوم؟ أين؟ وأطبقت كفّيها على فمه كما لو كانت تسعى إلى سحب الجواب بيديها. ـ سيكون صعباً اليوم ـ قال بعد أن فكّر ملياً ـ ولكن ربما غداً. ثم افترقا. قبل العشاء، ذهبت صوفيا لفوفنا إلى الدير لرؤية أوليا، ولكنّهم أخبروها هناك بأن أوليا ذهبت لتقرأ من سفر المزامير على روح امرأة توفيت. خرجت صوفيا من الدير وتوجهت إلى بيت أبيها، إلا أنها لم تلقه في المنزل أيضاً. بعدئذ غيّرت العربة وراحت تتجول في الشوارع والطرق الفرعية دون أيّما هدف، واستمرّت على حالتها تلك حتى حلول المساء، ولسبب ما، تذكرت خالتها الدامعة العينين، العاجزة عن إيجاد الطمأنينة أبداً. في تلك الليلة، خرجوا مرّة أخرى في الترويكا، واستمعوا إلى غناء الغجر في مطعم خارج البلدة، وعندما عبروا من أمام الدير ثانية، تذكرت صوفيا أوليا، فأرعبها التفكير بأن فتيات ونساء طبقتها الاجتماعية لا يجدن مخرجاً سوى ركوب الترويكا دوماً، والكذب، أو الالتحاق بالدير وإماتة الجسد. في اليوم التالي كان ثمّة لقاء آخر،وعادت صوفيا لفوفنا إلى التجوال وحدها في عربة مستأجرة حول المدينة، وتذكرت خالتها من جديد. انفصل فولوديا الصغير عن صوفيا لفوفنا بعد أسبوع، ثم عادت الحياة إلى مجاريها كما كانت من قبل، مملة، حزينة، بل وحتى مؤلمة في بعض الأحيان. كان الكولونيل يلعب البلياردو أو البوكيت مع فولوديا الصغير لساعات، وكانت ريتا تروي النكات بطريقتها الذابلة السمجة، بينما كانت صوفيا لفوفنا تتجوّل في عربة مستأجرة باستمرار وتتضرع إلى زوجها كي يأخذها للتنزّه بالترويكا. أضجرت صوفيا لفوفنا أوليا، إذ كانت تزورها في الدير كل يوم تقريباً، فتشكو لها عذابها الذي لا طاقة لها على احتمالـه، وتبكي وتشعر في الوقت نفسه أن ثمّة شيئاً نجساً، مثيراً للشفقة وخسيساً قد دخل معها إلى صومعة الدير. وكانت أوليا تقول لها آلياً وبلهجة امرئ يتلو درساً محفوظاً، بان لا شيء من هذا لـه أدنى قيمة، وبأن كل هذا سيمضي، وأنّ الله سوف يسامحها. (1) عربة أو زحّافة روسية تجرها ثلاثة أحصنة. (2) من أجل الإغاظة. (3) ـ اعذرني، إنني لست بمفردي. (4) ـ غافريل رومانوفيتش درجافن (1743-1816)، أشهر الشعراء الروس في القرن الثامن عشر. في عام 1815، وقبل وفاته بسنة، ترأس لجنة تحكيم لشعر الفتيان في مدرسة سانت بطرس بورغ، حيث قدّم بوشكين، ابن السادسة عشرة آنذاك، قصيدة غنائية حاكى فيها درجافن، فعانق الشاعر الفتى، وأطنب في مدحه حتى رفعه إلى السماء،وتنبأ لـه بمستقبل عظيم.
| |
| | | Fati المديــــر العــام
اسم الدولة : فرنسا
| | | | Fati المديــــر العــام
اسم الدولة : فرنسا
| موضوع: رد: انطون تشيخوف الثلاثاء ديسمبر 15, 2009 10:37 pm | |
| الحارس الليلي
- مَن هناك؟
لم يأته رد. ولم يكن بمقدور الحارس ان يرى شيئا. رغم زئير الريح المتواصل وارتطامها بالشجر، كان يسمع وقع اقدام تتقدمه على امتداد الطريق. ليلة من ليالي آذار (مارس). السماء ملبدة بالغيوم، والضباب الكثيف يغلف كل شيء، وخيل للحارس بأن الأرض والسماء وهو نفسه مع أفكاره قد توحدوا جميعا في هيئة واحدة هائلة منيعة تتسربل بالسواد. كان يتلمس طريقه في تلك العتمة الكثيفة.
عاد الحارس يصيح مناديا:
- من هناك؟
وبدأ يتخيل بانه يسمع همسا وضحكة مكتومة.
- من هناك؟
- أنا...ايها الصديق.
جاءه صوت رجل عجوز.
- ولكن من تكون؟
- أنا....مسافر.
عندها صرخ الحارس بغضب، وهو يحاول أن يخفي رعبه بالصراخ.
- أي نوع من المسافرين أنت؟ ماذا تفعل بحق الشيطان في مثل هذه الساعة داخل المقبرة؟
- ماذا ؟! أتقول أنها مقبرة ؟!
- وماذا تكون؟ بالطبع أنها مقبرة. الا ترى ذلك؟
جاءه صوت الرجل العجوز متنهدا:
- يارب السموات! لكني لا أرى شيئا. لا استطيع حتى أن أرى يدي أمام وجهي.
- ولكن من تكون؟
- أنا حاج...يا صديقي
عندها انطلق الحارس يغمغم لنفسه بتذمر:
- الشياطين وطيور الليل...نوع جيد من الحجاج...وكذلك السكارى. يسكرون طوال النهار ويخرجون في الليل ليجوبوا الطرقات
ثم أضاف بعد لحظة صمت.
- يخيل لي اني سمعت أكثر من صوت، كأنكم إثنان أو ثلاثة.
- إنني لوحدي يا صديقي، لوحدي. آآآآآآ....كم نرتكب من ذنوب.....
وتعثر الحارس بالرجل فتوقف.
- كيف جئت إلى هذا المكان؟
- فقدت طريقي ايها الرجل الطيب. فأنا متجه إلى (متريفسكي ميل) ولكن يبدو أنني قد ضعت.
- نعم، هذا صحيح، فالطريق إلى (متريفسكي ميل) ليست من هنا. كان عليك أن تتجه إلى اليسار. تخرج من المدينة مباشرة لتسلك الطريق الخارجي. واضح انك توقفت في المدينة لتشرب بضعة كؤوس، ولهذا انت الآن تائه.
- نعم يا صديقي فعلت ذلك. لن أخفي ذنوبي، ولكن ماذا افعل الآن؟
- تستمر حتى نهاية الطريق، ثم تنعطف معه إلى اليمين وتسير حتى تصل البوابة وهي نهاية المقبرة، تفتحها وتخرج مصحوبا بالسلامة. وحاذر أن تسقط في الغدير. بعد المقبرة تسير بمحاذاة الحقول حتى تصل الطريق الرئيسي.
- أعطاك الرب الصحة والعافية يا صديقي، وحمتك السموات. كن رحيما معي أيها الرجل الطيب وسر معي حتى البوابة.
- لا ليس عندي الوقت لذلك، عليك أن تذهب لحالك.
- كن رحيما، وسوف أصلي من أجلك. فأنا لاأستطيع أن أرى شيئا. المرء لايستطيع أن يرى كفيه أمام وجهه بسبب الظلمة. دلني على الطريق يا سيدي.
- كما لو أنني لدي الوقت الكافي كي أكون دليلا لك. هذا غير ممكن يا سيد.
- بحق السيد المسيح، أتوسل إليك أن تدلني على الطريق، فأنا لا أرى شيئا. ثم إنني أخاف أن أسير وحيدا في المقبرة. إنه أمر مرعب ومخيف.
يتنهد الحارس أخيرا ويقول:
- يبدو أن لا خلاص منك. حسنا، هيا بنا.
وسارا سوية، الحارس والمسافر، متلاصقين وصامتين. وكانت الريح المشبعة بالرطوبة تضرب وجهيهما مباشرة، بينما خشخشة الأشجار الخفية تنثر قطرات الماء عليهما، وكانت الطريق مغطاة بالوحل تماما.
قال الحارس بعد فترة صمت دامت طويلا:
- نسيت أن أسالك. كيف دخلت المقبرة والبوابة مقفلة؟ هل تسلقت السور؟ إذا كنت حقا قد فعلت ذلك، فهذا آخر شيء اتوقعه من رجل كبير السن.
- لا أدري يا صديقي، لا أدري. انا نفسي لا اعرف كيف حصل هذا. إنه عقاب من الله...إذن أنت حارس هنا يا صديقي؟
- نعم.
- الوحيد على كل المقبرة؟
ضربتهما في تلك اللحظة لفحة ريح هوجاء فتوقفا في مكانهما، وانتظرا حتى تجاوزتهما. عادا ليواصلا سيرهما. أجاب الحارس:
- نحن ثلاثة. أحد الإثنين الباقيين مريض بالحمى، والآخر نائم، ويستلم واجبه من بعدي.
- آآآآ...فقط اردت أن أتأكد ياصديقي. يا لها من ريح. تعوي كأنها وحش. آوووووووه...
- ومن أين أنت قادم؟
- من مكان بعيد يا صديقي. أنا من فولوغدا. أتنقل من مكان مقدس إلى آخر وأصلي للناس. فليحفظني الله ويشملني برحمته.
توقف الحارس كي يشعل غليونه. إنحنى خلف ظهر المسافر واشعل بضعة عيدان كبريت. وهج العود الأول أضاء لوهلة على الجانب الأيمن من الطريق شاهدة قبر بيضاء بملاك وصليب أسود. العود الثاني توهج وانطفأ بسبب الريح. ظهر كأنه برق مندفع إلى اليسار فكشف عن جانب لشيء أشبه بسقيفة. عود الكبريت الثالث اضاء جانبي الطريق كاشفا عن شاهدة القبر، الصليب الأسود، وسقيفة لضريح طفل. غمغم الغريب وهو يتنهد بصوت مرتفع:
- النائمون الغائبون، النائمون الأعزة. كلهم سواء في نومهم، الأغنياء والفقراء، العاقلون والحمقى، الطيبون والأشرار. لا فرق بينهم على الإطلاق، وسيبقون نائمين جميعا حتى النفير الأخير. لتكن جنة الخلد مأواهم يسكنونها آمنين.
أجابه الحارس معلقا:
- الآن نحن نتحرك ونتحدث عنهم، ولكن سيأتي اليوم الذي نرقد فيه إلى جانبهم.
- دون شك سنموت جميعا. ليس هنالك من لا يموت. آآآآ...وافعالنا، وأفكارنا..شريرة، ماكرة ومخادعة...
- نعم ، لكنك ستموت يوما.
- دون شك يا صديقي.
يواصل الحارس تعليقه قائلا:
- الموت على حاج أسهل منه على أشخاص مثلنا.
- الحجاج أنواع، هنالك الحقيقيون الذين يخافون الله ويحرصون على عدم معصيته، وهنالك التائهون الضائعون في المقابر يوسوس لهم الشيطان بشتى المعاصي. يستطيع أحدهم الآن أن يفتح رأسك بفأس ويضع حدا لحياتك.
- لماذا تتحدث معي بهذا الشكل؟
- اوه..لا شيء، مجرد خيالات. أعتقد أننا وصلنا البوابة، هيا افتحها أيها الرجل الطيب.
تحسس الحارس طريقه نحو البوابة و..فتحها، ثم أمسك بالحاج من كم ردائه وقاده إلى الخارج قائلا:
- هذه هي نهاية المقبرة، والآن عليك أن تسير عبر الحقول المفتوحة حتى تصل الطريق الرئيسي. فقط حاذر من السقوط في الغدير القريب من هنا.
يتنهد الحاج بعد لحظة صمت ويقول:
- لا أظن أني سأذهب إلى (متريفسكي ميل). لا أرى سببا لذلك. سأبقى معك بعض الوقت يا سيدي.
- ولأي سبب تبقى معي؟
- أوه..أعتقد أن البقاء معك أفضل.
- إذن، فقد وجدتَ رفقة حسنة. أرى أنك مولع بالمزاح أيها الحاج.
قال الحاج وهو يكتم ضحكة غليظة:
- إذا أردت الحق، نعم، أنا كذلك. آآآآ...أيها الرجل الطيب، أراهن أنك ستظل تتذكرني لسنوات طويلة.
- ولماذا... سأظل أتذكرك؟
_ لقد أتيتك من حيث لا تدري....فهل أنا حاج؟ لا..أنا لست حاجا على الإطلاق.
- فماذا تكون إذن؟
- مجرد رجل ميت. لقد نهضت من تابوتي للتو. أتذكر صانع الأقفال غوبارييف الذي شنق نفسه في أسبوع الكرنفال؟ حسنا، أنا غورباييف.
- قل شيئا آخر.
لم يصدقه الحارس، لكن قشعريرة باردة سرت في جسده، واستولى عليه رعب ضاغط، فاندفع متعجلا يتحسس البوابة. لكن الغريب أمسك به من ذراعه وصاح به:
- هَه..هَه..هَه، أين أنت ذاهب؟ هل من اللياقة أن تتركني لوحدي.
عندها صرخ الحارس وهو يحاول ان يتحرر من قبضة الغريب:
- أتركني، أتركني...
- توقفْ. قلت لك توقفْ..، فلا تقاوم ايها الكلب القذر. إذا أردتَ أن تبقى بين الأحياء، فتوقفْ وامسك لسانك حتى أقول لك. لو كنتُ اريد قتلك، لكنتَ الآن ميتا منذ زمن. هيا..توقفْ أيها الخسيس...
ومن شدة رعبه، أغلق الحارس عينيه، متكئا على السور. وكانت ساقاه تهتزان بشدة تحته. كان يريد أن يصرخ مستنجدا، لكنه كان يعرف بأن صوته لن يصل أحدا من الأحياء. وكان الغريب واقفا إلى جانبه ممسكا بذراعه.
مرت ثلاث دقائق دون أن يتكلما. أخيرا خرق الغريب الصمت محدثا نفسه:
- أحدهم مصاب بالحمى، والآخر نائم، والثالث يرى حُجاجا على الطريق. هل تعرف بأن اللصوص أكثر شطارة منكم. توقفْ.. لاتتحرك..
ومرت عشر دقائق وهما في صمت تام. فجأة جلبت الريح صوت صفير. عندها قال الغريب تاركا ذراع الحارس:
- الآن يمكنك ان تذهب. هيا اذهب واشكر ربك لأنك ما تزال حيا.
أطلق الغريب صفيرا أيضا، وركض عبر البوابة، وسمعه الحارس وهو يقفز فوق الغدير.
كان ما يزال يرتعد من رعبه، عندما فتح البوابة وانطلق يركض وهو مغمض العينين، وفي داخله يراوده إحساس ينذر بالشر.
وعند انعطافته إلى الطريق الرئيسي، سمع وقع خطوات مسرعة، وصوتا يسأل:
- أهذا أنت يا تيموفي؟ أين ميتكا؟
وظل يركض حتى نهاية الطريق الرئيسي، عندها لاح له ضوء خافت في العتمة. وكان خوفه وإحساسه بوقوع الشر يتعاظم ويكبر وهو يدنو من الضوء. قال محدثا نفسه:
- يبدو أن الضوء قادم من الكنيسة. ولكن كيف حصل هذا؟ فليحمني الرب ويشملني برحمته.
وقف الحارس لبرهة أمام النافذة المحطمة، ينظر برعب إلى المذبح. كانت هنالك شمعة صغيرة، يبدو ان اللصوص نسوا أن يطفئوها، كان ضوءها يهتز مع الريح، فينشر بقعا داكنة حمراء فوق الأردية المتناثرة على الارض، والخزانة المقلوبة وآثار الأقدام المنتشرة عند المذبح.
مر بعض الوقت والحارس متسمر في موضعه، والريح تعوي.. ويختلط عواؤها بخشخشة وصليل الأجراس.
| |
| | | Fati المديــــر العــام
اسم الدولة : فرنسا
| موضوع: رد: انطون تشيخوف الثلاثاء ديسمبر 15, 2009 11:28 pm | |
|
االالم
قصة: أنطون تشيخوف
ترجمة: رافع الصفار
عُرف غريغوري بتروف ولسنوات طويلة ببراعته الفائقة في حرفة الخراطة، لكنه في نفس الوقت كان الأكثر حمقا وسذاجة في إقليم (غالتشينيسكوي)، فلكي ينقل زوجته المريضة إلى المستشفى، كان عليه أن يقود الزلاجة لمسافة عشرين ميل في جو شتائي عاصف، عبر طريق شديدة الوعورة. ولم تكن تلك بالمهمة اليسيرة حتى بالنسبة لسائق البريد الحكومي. كانت الرياح القارصة تضرب في وجهه مباشرة، وسحب الثلج تلتف في دوامات حوله في كل اتجاه، حتى أن المرء لا يدري إن كان هذا الثلج يتساقط من السماء أم يتصاعد من الأرض، بينما الرؤية معدومة تماما لكثافة الضباب الثلجي، فلم يكن يرى شيئا من الحقول والغابات وأعمدة التلغراف. وعندما كانت تضربه ريح قوية مفاجئة، كان يصاب بالعمى التام، فلا يعود يبصر حتى لجام الحصان، ذلك الحيوان البائس الذي كان يزحف ببطء وهو يجر قدميه في الثلج بوهن شديد. وكان الخراط قلقا متوترا ومتعجلا لا يكاد يستقر في مقعده وهو يسوط ظهر الحصان.
كان غريغوري يغمغم طول الوقت متحدثا إلى زوجته.
- لا تبكي يا ماتريونا. قليل من الصبر يا عزيزتي. سنصل المستشفى وعندها كل شيء سوف يكون على ما يرام... سيعطيك بافل ايفانيتش بضع قطرات، أو سأطلب منه أن يعمل لك الحجامة، أو ربما يتكرم ويرضى أن يدلك جسدك بالكحول. سيبذل كل ما في وسعه دون شك. نعم سيصرخ وينفعل لكنه في النهاية يبذل جهده. إنه رجل مهذب ولطيف. فليعطه الله الصحة. حالما نصل هناك ويرانا سيندفع من غرفته كالسهم ويبدأ بإطلاق السباب والشتائم. وسوف يصرخ: كيف؟ لماذا هكذا؟ لماذا لم تأتوا في الوقت المناسب؟ أنا لست كلبا كي أبقى عالقا هنا في انتظار حضراتكم طوال اليوم. لماذا لم تأتوا في الصباح؟ هيا اخرجوا، لا لن أستقبلكم. تعالوا غدا. فأرد عليه قائلا: يا حضرة الطبيب المبجل بافل إيفانيتش، نعم يمكنك أن تسب وتلعن وتشتم...، وليأخذك الطاعون...أيها الشيطان....
ساط الخراط ظهر الحصان، ومن دون أن ينظر إلى المرأة العجوز الراقدة في العربة خلفه واصل حديثه مع نفسه:
- يا حضرة الطبيب المبجل، أقسم بالله، ولن أقول إلا الصدق، وها هو الصليب أرسمه على صدري أمامك بأنني انطلقت قبل طلوع الفجر، ولكن كيف يمكنني أن أكون عندك في الوقت المناسب وقد أرسل الرب هذه العاصفة الثلجية؟ تلطف وانظر بنفسك..إن أفضل الجياد لن تتمكن من السير في هكذا جو، وحصاني هذا الكائن البائس التعيس كما ترى بنفسك ليس حصانا على الإطلاق. عندها سيقطب بافل ايفانيتش حاجبيه ويصرخ: نحن نعرفكم، أنتم دائما بارعون في اختلاق الأعذار، وعلى الأخص أنت يا غريشكا. فأنا أعرفك حق المعرفة، وأقسم بأنك توقفت في نصف دزينة من الحانات قبل أن تأتي عندي. لكني سأقول له: أيها المحترم، هل أنا كافر أم مجرم حتى أتنقل بين الحانات بينما زوجتي المسكينة تلفظ أنفاسها الأخيرة؟ لعنة الله على الحانات وأصحابها وليأخذهم الطاعون جميعا. سيأمر بافل ايفانيتش عندها بنقلك إلى داخل المستشفى، فاركع عند قدميه. بافل ايفانيتش، أيها المحترم، نشكرك من صميم قلوبنا، وأرجو أن تسامحنا على حماقاتنا وسلوكنا الأرعن، وألا تكون قاسيا معنا نحن الفلاحون. نعم نحن نستحق منك لا الشتيمة فحسب بل حتى الرفس، وقد كنا سببا في خروجك وتلويث قدميك في الثلج. سينظر بافل ايفانيتش نحوي كأنه يريد أن يضربني وسيقول: ألا يجدر بك أيها الأحمق أن تشفق على هذه المسكينة وترعاها بدلا من أن تسكر وتأتي لتركع عند قدمي؟ والله أنت تستحق الجلد. نعم، نعم..أنت على حق في ذلك. أنا أستحق الجلد يا بافل ايفانيتش، فلتصب السماء لعناتها على رأسي، ثم ما الضير لو ركعت عند قدميك، فأنت أبونا وولي نعمتنا، ويحق لك يا سيدي أن تبصق في وجهي لو بدر مني ما يضايقك، وأقسم بالله على ذلك. سافعل كل ما تريده وتأمرني به..إذا استرجعت زوجتي العزيزة ماتريونا صحتها. وإذا أردتَ أصنع لك علبة سجاير فاخرة من أفضل أنواع الخشب، كراتا للعبة الكروكيت، أو أروع قناني خشبية للعبة البولنج..ولن آخذ منك قرشا واحدا. في موسكو تكلف علبة السجاير أربع روبلات، لكني سأصنعها لك دون مقابل. عندها سيضحك الطبيب ويقول: حسنا، حسنا...يبدو أنك سكران حتى الثمالة. كما ترين يا عزيزتي فأنا أعرف كيف أتعامل مع أبناء الطبقة العليا. ليس هنالك من سيد يستعصي علي. فقط أدعو من الله ألا أفقد الطريق. أنظري كم عنيفة هي الريح. لا أكاد أفتح عيني من شدة اندفاع الثلج.
ولم يتوقف الخراط عن حديثه المتواصل مع نفسه، في محاولة منه على ما يبدو للتخفيف من ضغط المشاعر الحادة عليه. كانت الكلمات كثيرة على لسانه، وكذلك الأفكار والأسئلة في رأسه. جاءه الحزن مفاجئا، دون توقع أو انتظار، وعليه الآن أن يتخلص منه. لقد عاش حياته في سكينة وسلام دون أن يعرف للحزن أو للبهجة معنى، وفجأة، دون سابق إنذار، جاءه الألم ليعشش بين تلافيف قلبه، فوجد السكير المتسكع نفسه في موقع المسئول، مثقلا بالهموم، ويصارع الطبيعة.
وراح غريغوري يتذكر كيف ابتدأت المشكلة ليلة أمس عندما عاد إلى البيت سكرانا بعض الشيء، وكالعادة انطلق يشتم ويهدد بقبضتيه، فنظرت إليه زوجته كما لم تنظر إليه من قبل. عادة ما تشف نظرات عينيها عن الذل والاستكانة الشبيهة بنظرات كلب أشبع ضربا. لكنها هذه المرة نظرت إليه بتجهم وثبات، كما ينظر القديسون في الصور المقدسة أو كما ينظر الموتى. من نظرة الشر الغريبة تلك بدأت المشكلة. وفي حالة من الذهول والاستغراب استعار حصانا من أحد الجيران كي ينقل زوجته العجوز إلى المستشفى لعله باستخدام المساحيق والمراهم، يستطيع بافل ايفانيتش أن يعيد التعبير الطبيعي لنظرة عينيها.
ويستمر الخراط في حديثه مع نفسه فيقول:
- حسنا، اسمعيني يا ماتريونا، لو سألك بافل ايفانيتش فيما إذا كنت قد ضربتك، يجب أن تنفي ذلك وسوف لن أضربك بعد اليوم، أقسم على ذلك. وهل ضربتك يوما لأني أكرهك؟ لا، إطلاقا. إنما دوما أضربك وأنا فاقد لوعيي. أنني حقا أشعر بالأسف من أجلك. لا أظن أن الآخرين سيبالون مثلي، فها أنت ترين، إنني أفعل المستحيل في هذا الجو الثلجي العاصف كي أصل بك إلى المستشفى. فلتتحقق مشيئتك أيها الرب، وإن شاء الله لن نخرج عن الطريق. هل يؤلمك جنبك عزيزتي؟ ألهذا أنت لا تتكلمين؟ إني أسألك، هل يؤلمك جنبك؟
لاحظ خلال نظرة خاطفة إلى العجوز بأن الثلج المتجمع على وجهها لا يذوب. والغريب أن الوجه نفسه بدا مسحوبا، شديد الشحوب، شمعيا، جهما ورصينا. صرخ قائلا:
- أنت حمقاء، حمقاء..، أقول لك ما في ضميري أمام الله، لكنك مع ذلك تصرين على....حسنا، أنت حمقاء، وأنا قد أركب رأسي..ولا آخذك إلى بافل ايفانيتش.
أرخى اللجام بين يديه وبدأ يفكر. لم يكن في مقدوره أن يستدير تماما لينظر إلى زوجته. كان خائفا. وكان يخشى أيضا أن يكرر أسئلته عليها دون أن يحصل على جواب. أخيرا، وليحسم الأمر، ومن دون أن يلتفت إليها رفع يده وتحسسها. كانت باردة، وعندما تركها سقطت كأنها قطعة خشب. ندت منه صرخة.
- إذن فهي ميتة، يا للمصيبة.
لم يكن آسفا قدر انزعاجه. وفكر كيف أن الأشياء تمر سريعة في هذا العالم. لم تكن المشكلة قد ابتدأت وإذا بها تنتهي بكارثة. لم يسنح له الوقت كي يعيش معها ويكشف لها عن أسفه قبل موتها. عاش معها أربعين عاما لكنها مرت في ضباب وعتمة مطبقة. لم يكن هنالك من مجال للأحاسيس الجميلة وسط السكر والعربدة والشجار المتواصل والفقر المدقع. ولكي تغيظه فقد ماتت في اللحظة التي بدأ يشعر فيها بالأسف عليها، وبأنه لا يستطيع العيش من دونها وأنه كان قاسيا معها وقد أساء لها كثيرا.
قال لنفسه متذكرا:
- كنت أبعثها كي تدور في القرية تستجدي الخبز. كان يمكن أن يطول العمر بها لعشر سنوات أخرى. المصيبة أنها ماتت وهي تعتقد بأني ذلك الإنسان...... يا أمنا المقدسة. ولكن بحق الشيطان أين أنا ذاهب الآن؟ ما عاد بي حاجة إلى الطبيب، ما أحتاجه الآن قبرا كي أدفنها.
استدار بالزلاجة وهو يلهب ظهر الحصان بسوطه، وقد ازداد الجو سوءا حتى انعدمت الرؤية تماما. ومن حين لآخر كانت تضرب وجهه ويديه أغصان الأشجار وتخطف من أمام عينيه أجسام سوداء.
- لو أعيش معها مرة أخرى.
وتذكر بأن ماتريونا قبل أربعين عاما كانت مليحة الوجه مرحة الروح، وهي من عائلة ميسورة الحال، وقد رضي أهلها أن يزوجوها له بعدما شاهدوا وعرفوا مدى براعته في مهنة الخراطة. كانت كل الأسباب لحياة سعيدة متوفرة لهما، لكن المشكلة أنه في ليلة عرسه شرب حتى الثمالة ومن يومها وهو سكران طول الوقت ولم يستيقظ أبدا. نعم فهو يتذكر عرسه، ولكنه لا يتذكر شيئا مما حدث بعد ذلك وطوال حياته، باستثناء أنه كان يسكر ويضطجع عند الموقد ويتشاجر. هكذا ضاعت منه أربعون سنة.
بدأت الغيوم الثلجية البيضاء تتحول تدريجيا إلى اللون الرمادي مما ينبئ عن قرب الغسق. عاد يسأل نفسه:
- إلى أين أنا ذاهب؟ مطلوب مني أن أفكر بدفن الجثة... بينما أنا الآن في طريقي إلى المستشفى..كأنني فقدت عقلي..
واستدار بزلاجته ثانية. كان الحصان يشخر وراح يتعثر في خببه، فعاد الخراط يجلده من جديد. وكان يسمع صوت ارتطام خلفه، ومن دون أن يلتفت كان يعرف بأنه صادر عن رأس العجوز وهو يضرب بحافة المقعد.
ازداد الثلج عتمة، واشتدت برودة الريح.
- لو أعيش معها مرة أخرى، سأشتري مخرطة جديدة، وأشتغل...وأجلب لها الكثير من النقود.
أفلتت يداه العنان. بحث عنه. حاول أن يلتقطه، فلم يستطع. قال لنفسه:
- لا يهم. يستطيع الحصان أن يتولى الأمر بنفسه، فهو يعرف الطريق. يمكنني أثناء ذلك أن أنام قليلا قبل أن أتهيأ للجنازة وصلاة الميت...
أغلق الخراط عينيه وغاص في إغفاءة. بعدها بفترة قصيرة شعر بأن الحصان قد توقف عن السير. فتح عينيه فرأى أمامه شيئا معتما يشبه كوخا أو كومة من القش. أراد أن ينهض ليكتشف ذلك الشيء، لكنه أحس بأنه عاجز تماما عن الحركة، ووجد نفسه دون ضجة أو مقاومة يستسلم لنوم هادئ عميق.
عندما استيقظ، وجد نفسه في غرفة فسيحة، مطلية الجدران، وضوء الشمس يتوهج عند الشبابيك. ورأى ناسا حوله، فكان شعوره الأول أن يعطي الانطباع بأنه سيد محترم ويعرف كيف يلتزم بالسلوك السليم الذي يفرضه الموقف. قال مخاطبا إياهم:
- الصلاة على روح زوجتي أيها الأخوة. لابد من إعلام القس بذلك...
قاطعه أحدهم بصوت حازم:
- حسنا، حسنا، ولكن لا تتحرك.
صرخ الخراط مندهشا وهو يرى الطبيب أمامه:
- بافل إيفانيتش! ولي نعمتنا المبجل.
أراد أن يقفز ليركع على ركبتيه أمام الطبيب، لكنه شعر بأن ساقيه وذراعيه لا تستجيب له. صاح مرعوبا:
- أين ساقيَّ ؟ وأين ذراعيَّ يا سيدي ؟
- قل لهما وداعا. كانت متجمدة تماما فاضطررنا إلى بترها. هيا...هيا...علام تبكي ؟ لقد عشت حياتك، واشكر ربك على ذلك. أنت الآن في الستين على ما أعتقد، وأظن أن هذا يكفي بالنسبة لك.
- أنا حزين، حزين جدا...وأرجو أن تسامحني يا سيدي. كم أتمنى لو أعيش خمس أو ست سنوات أخرى.
- لماذا؟
- الحصان ليس لي، ويجب أن أعيده لأصحابه..ويجب أن أدفن زوجتي...أوه يا إلهي..كم تنتهي الأشياء بسرعة مذهلة في هذا العالم. سيدي..بافل ايفانيتش، سأصنع لك علبة سجاير من أجود أنواع الخشب، وكذلك كرات للكروكيت...
غادر الطبيب الجناح وهو يلوح بيده. كان كل شيء قد انتهى بالنسبة للخراط.
| |
| | | Fati المديــــر العــام
اسم الدولة : فرنسا
| موضوع: رد: انطون تشيخوف الثلاثاء ديسمبر 15, 2009 11:32 pm | |
| وفاة موظف
ذات مساء رائع كان إيفان ديمتريفيتش تشرفياكوف، الموظف الذي لا يقل روعة، جالسا في الصف الثاني من مقاعد الصالة، يتطلع في المنظار إلى " أجراس كورنيفيل" . وراح يتطلع وهو يشعر بنفسه في قمة المتعة . وفجأة ... وكثيرا ما تقابلنا "وفجأة" هذه في القصص . والكتاب على حق، فما أحفل الحياة بالمفاجآت ! فجأة تقلص وجهه، وزاغ بصره، واحتبست أنفاسه .. وحول عينيه عن المنظار وانحنى و ... أتش !!! عطس كما ترون . والعطس ليس محظورا على أحد في أي مكان . إذ يعطس الفلاحون ورجال الشرطة، بل وحتى أحيانا المستشارون السريون . الجميع يعطس، ولم يشعر تشرفياكوف بأي حرج، ومسح أنفه بمنديله، وكشخص مهذب نظر حوله ليرى ما إذا كان قد أزعج أحدا بعطسه . وعلى الفور أحس بالحرج . فقد رأى العجوز الجالس أمامه في الصف الأول يمسح صلعته ورقبته بقفازه بعناية ويدمدم بشيء ما . وعرف تشرفياكوف في شخص العجوز الجنرال بريزجالوف الذي يعمل في مصلحة السكك الحديدية . وقال تشرفياكوف لنفسه : " لقد بللته . إنه ليس رئيسي بل غريب، ومع ذلك فشيء محرج . ينبغي أن أعتذر". وتنحنح تشرفياكوف ومال بجسده إلى الأمام وهمس في أذن الجنرال : - عفوا يا صاحب السعادة، لقد بللتكم ..لم أقصد . - لا شيء ، لا شيء . - أستحلفكم بالله العفو . إنني .. لم أكن أريد ! - أوه، اسكت من فضلك ! دعني أصغي ! وأحرج تشرفياكوف فابتسم ببلاهة وراح ينظر إلى المسرح، كان ينظر ولكنه لم يعد يحس بالمتعة . لقد بدأ القلق يعذبه . وأثناء الاستراحة اقترب من يريزجالوف وتمشى قليلا بجواره، وبعد أن تغلب على وجله دمدم : - لقد بللتكم يا صاحب السعادة .. اعذروني .. إنني لم أكن أقصد أن ... فقال الجنرال : - أوه كفاك ! أنا قد نسيت وأنت ما زلت تتحدث عن نفس الأمر !.. وحرك شفته السفلى بنفاد صبر . وقال تشرفياكوف لنفسه وهو يتطلع إلى الجنرال بشك : " يقول نسيت بينما الخبث يطل من عينيه . ولا يريد أن يتحدث . ينبغي أن أوضح له أنني لم أكن أرغب على الإطلاق .. وأن هذا قانون الطبيعة، وإلا ظن أنني أردت أن أبصق عليه .. فإذا لم يظن الآن فسيظن فيما بعد ! ..." . وعندما عاد تشرفياكوف إلى المنزل روى لزوجته ما بدر عنه من سوء تصرف . وخيل إليه أن زوجته نظرت إلى الأمر باستخفاف فقد جزعت فقط، ولكنها اطمأنت عندما علمت أن بريزجالوف "غريب" . وقالت : - ومع ذلك اذهب إليه واعتذر وإلا ظن أنك لا تعرف كيف تتصرف في المجتمعات . - تلك هي المسألة ! لقد اعتذرت له، لكنه ... كان غريبا .. لم يقل كلمة مفهومة واحدة، ثم إنه لم يكن هناك متسع للحديث . وفي اليوم التالي ارتدى تشرفياكوف حلة جديدة، وقص شعره وذهب إلى بريزجالوف لتوضيح الأمر .. وعندما دخل غرفة استقبال الجنرال رأى هناك كثيرا من الزوار ورأى بينهم الجنرال نفسه الذي بدأ يستقبل الزوار . وبعد أن سأل عدة أشخاص رفع عينيه إلى تشرفياكو . فراح الموظف يشرح له : - بالأمس في "أركاديا" لو تذكرون يا صاحب السعادة عسطت و .. بللتكم عن غير قصد .. اعذر .. - يا للتفاهات .. الله يعلم ما هذا ! – وتوجه الجنرال إلى الزائر التالي – ماذا تريدون ؟ وفكر تشرفياكوف ووجهه يشحب : " لا يريد أن يتحدث أذن فهو غاضب .. كلا لا يمكن أن أدع الأمر هكذا ... سوف أشرح له ..." وبعد أن انتهى الجنرال حديثه مع آخر زائر واتجه إلى الغرفة الداخلية، خطا تشرفياكوف خلفه ودمدم : - يا صاحب السعادة ! إذا كنت أتجاسر على إزعاج سعادتكم فإنما من واقع الإحساس بالندم ! . لم أكن أقصد، كما تعلمون سعادتكم ! . - فقال الجنرال وهو يختفي خلف الباب : - إنك تسخر يا سيدي الكريم ! وفكر تشرفياكوف : "أية سخرية يمكن أن تكون ؟ ليس هنا أية سخرية على الإطلاق ! جنرال ومع ذلك لا يستطيع أن يفهم ! إذا كان الأمر كذلك فلن أعتذر بعد لهذا المتغطرس . ليذهب إلى الشيطان ! سأكتب له رسالة ولكن لن آتي إليه . أقسم لن آتي !". هكذا فكر تشرفياكوف وهو عائد إلى المنزل . ولكنه لم يكتب للجنرال رسالة . فقد فكر ولم يستطع أن يدبج الرسالة . واضطر في اليوم التالي إلى الذهاب بنفسه لشرح الأمر .. ودمدم عندما رفع إليه الجنرال عينين متسائلتين : - جئت بالأمس فأزعجتكم يا صاحب السعادة، لا لكي أسخر منكم كما تفضلتم سعادتكم فقلتم . بل كنت أعتذر لأني عطست فبللتكم ... ولكنه لم يدر بخاطري أبدا أن أسخر وهل أجسر على السخرية ؟ فلو رحنا نسخر فلن يكون هناك احترام للشخصيات إذن ... - وفجأة زأر الجنرال وقد أربد وارتعد : - اخرج من هنا !! فسأل تشرفياكوف هامسا وهو يذوب رعبا : - ماذا ؟ فردد الجنرال ودق بقدمه : - اخرج من هنا !! - وتمزق شيء ما في بطن تشرفياكوف . وتراجع إلى الباب وهو لا يرى ولا يسمع شيئا . وخرج إلى الشارع وهو يجرجر ساقيه .. وعندما وصل آليا إلى المنزل استلقى على الكنبة دون أن يخلع حلته ... ومات . | |
| | | Fati المديــــر العــام
اسم الدولة : فرنسا
| موضوع: رد: انطون تشيخوف الثلاثاء ديسمبر 15, 2009 11:33 pm | |
| بعد المسرح
ما إن عادت نادية زيلينيا مع والدتها من المسرح، حيث شاهدتا "يفجيني أنيجين" * ودخلت غرفتها، حتى نزعت فستانها بسرعة وحلت ضفيرتها، وأسرعت بالجونلة والبلوزة البيضاء فقط فجلست إلى الطاولة لتكتب خطابا كالذي كتبته تاتيانا. وخطت : "إنني أحبك، ولكنك لا تحبني، لا تحبني". كتبت هذا وضحكت . كان عمرها ستة عشر عاما فقط، ولم تحب أحدا بعد . وكانت تعلم أن الضابط جورني والطالب جزوديف يحبانها، ولكنها شعرت الآن بعد الأوبرا برغبة في التشكك في ذلك الحب . أن تكون غير محبوبة وتعيسة .. ما أروع ذلك ! ثمة شيء ما، حين يحب الشخص بقوة ولا يكترث به الآخر، شيء جميل، ومؤثر وشاعري .
أنيجين ممتع لأنه لا يحب مطلقا أما تاتيانا فهي خلابة لأنها تحب بقوة، ولو أنهما أحبا بعضهما البعض بنفس الدرجة وكانا سعيدين لأصبحا علي الأرجح مملين . " كف عن التأكيد بأنك تحبني ـ واصلت نادية الكتابة وهي تفكر في الضابط جورني ـ فأنا لا استطيع أن أصدقك، أنت ذكي جدا مثقف جاد ولديك موهبة كبيرة وربما كان في انتظارك مستقبل باهر، أما أنا فلا شيء يميزني فتاة لا وزن لها وأنت نفسك تعرف جيدا أنني لن أكون سوي عقبة في حياتك حقا. أنت همت بي وظننت أنك في شخصي عثرت على المثال الذي تبحث عنه، لكنها كانت غلطة والآن تسأل نفسك بيأس : ما الذي جعلني ألتقي بهذه الفتاة ؟ وطيبة قلبك فقط هي التي تمنعك من الاعتراف بذلك !..." . أحست نادية بالإشفاق على نفسها، فبكت ومضت تكتب : " صعب علي فراق ماما وأخي، وإلا كنت ارتديت مسوح الراهبات ومضيت أينما يمتد بي النصر .. ولأصبحت أنت حرا وأحببت فتاة غيري . آه لو كنت أموت ".
من خلال الدموع استحال تبين الكلمات المكتوبة، وتراقصت ألوان طيف قصيرة فوق الطاولة، وعلى أرضية الغرفة وعلى السقف كما لو أن نادية كانت تنظر عبر منشور، وتعذرت الكتابة فتراجعت إلى ظهر المقعد وأخذت تفكر في جورني . يا إلهي، أي سحر في الرجال، وأية جاذبية ! تذكرت نادية ذلك التعبير الرائع، المتزلف والمذنب والناعم الذي يرتسم على وجه الضابط عندما يجادلونه في الموسيقى، وأية جهود يبذلها أثناء ذلك لكيلا يرن صوته بحماسة . ففي المجتمع الذي يعتبر فيه الترفع البارد واللامبالاة دلالة على حسن التربية والأخلاق الفاضلة لابد أن تداري حماستك وهو يداريها . لكنه لا يوفق في ذلك، فالجميع يعرفون جيدا أنه يهوى الموسيقي بشغف. إن المناقشات التي لا تنتهي عن الموسيقى والأحكام الجريئة لغير الفاهمين من الناس . تجعلانه في توتر دائم فهو مفزع خجول وصموت وهو يعزف على البيانو بصورة رائعة مثل أي عازف أصيل ولو لم يكن ضابطا لكان في الغالب موسيقيا مشهورا.
وجفت دموعها، وتذكرت نادية أن جورني قد صارحها بحبه في حفل سيمفوني، ثم بعد ذلك في الطابق الأرضي بجوار المشاجب حيث هبت تيارات الهواء من جميع النواحي . "أنا سعيدة جدا لأنك أخيرا تعرفت على الطالب جروزديف – مضت تكتب- إنه إنسان ذكي جدا ولعلك ستعجب به . كان عندنا بالأمس ومكث حتى الساعة الثانية وقد انبهرنا به جميعا وتأسفت أنك لم تأت لقد حدثنا بالكثير من الأشياء الرائعة ". عقدت نادية يديها فوق الطاولة وأسندت إليهما رأسها فسقط شعرها وغطى الخطاب . وتذكرت أن الطالب جروزديف أيضا يحبها وأن له الحق في رسالة منها مثلما لجورني تماما. وبالفعل أليس من الأفضل أن تكتب إلي جروزديف ؟ وبلا أية أسباب دبت البهجة في صدرها .. بدأت بهجة صغيرة تواثبت في صدرها مثل كرة من المطاط، ثم صارت أعرض وأكبر وتدفقت كالموجة .
ونسيت نادية جورني وجروزديف واختلطت أفكارها، بينما أخذت البهجة تكبر وتكبر وتنساب من صدرها إلى ذراعيها وساقيها وخيل إليها كأن نسمة رقيقة باردة هفت على رأسها فحركت شعرها . واهتزت كتفاها من الضحك الخافت . واهتزت الطاولة وزجاجة المصباح وطفر الدمع من عينها إلى الخطاب، لم يكن بوسعها ان توقف ذلك الضحك ولكي تظهر لنفسها أنها لا تضحك بدون سبب أسرعت تتذكر شيئا ما مضحكا. - يا له من مضحك ذلك الكلب البودل ! تمتمت وقد شعرت أنها ستختنق من الضحك . – يا له من مضحك ذلك البودل. تذكرت كيف لاعب جروزديف، بعد شرب الشاي بالأمس، الكلب البودل مكسيم، ثم حكي لها عن بودل ذكي جدا لاحق في الفناء غرابا، فالتفت الغراب نحوه وقال : - أنت يا أفاق ! ولم يكن الكلب يدري أن أمامه غرابا مدربا فارتبك بشدة وتراجع في حيرة ثم عاد ينبح . - كلا، الأفضل أن أحب جروزديف قررت نادية ومزقت الرسالة، وراحت تفكر في الطالب، في حبه وفي حبها، لكن الذي حدث أن الأفكار ساحت في رأسها فأصبحت تفكر في كل شيء : في أمها في الشارع في القلم في البيانو .
فكرت ببهجة فوجدت أن كل شيء حسن، رائع . وأوحت إليها البهجة بأن هذا ليس كل شيء بعد . وأنه عما قريب ستكون الأمور أروع . قريبا يحل الربيع، الصيف، السفر مع والدتها إلى "جوربيكي"، سيأتي جورني في فترة إجازته وسيتحول معها في الحديقة ويحيطها باهتمامه . وسيجئ جروزديف أيضا ويلعب معها الكروكيت والكجل ويقص عليها أشياء مضحكة أومدهشة وانتابتها رغبة جارفة في أن تجد نفسها في الحديقة في العتمة تحت السماء الصافية والنجوم . واهتزت كتفاها ثانية من الضحك، وخيل إليها أن الغرفة تعبق برائحة الشيح، وأن غصنا قد احتك بالنافذة. مشت نحو فراشها وجلست، ودون أن تدري ماذا تفعل ببهجتها التي أضنتها، نظرت إلى الأيقونة المعلقة فوق ظهر سريرها وتمتمت : - يا إلهي ! إلهي ! يا إلهي ! .
ترجمة الدكتور أبو بكر يوسف
| |
| | | Fati المديــــر العــام
اسم الدولة : فرنسا
| موضوع: رد: انطون تشيخوف الثلاثاء ديسمبر 15, 2009 11:36 pm | |
|
فــــــــانـــــــكــــا بقلم " أنطون تشيخوف "
في ليلة عيد الميلاد لم ينم الصبي " فانكا جوكوف" ابن الأعوام التسعة والذي أعطوه منذ ثلاثة أشهر للاسكافي "الياخين" ليعمل صبياً لديه. وانتظر حتى انصرف أصحاب البيت والاسطوات إلي الصلاة فاخرج من صوان الاسكافي محبرة وقلماً بسن مصدي، وفرش أمامه ورقة مجعدة وراح يكتب. وقبل أن يخط أول حرف نظر إلي الباب والنوافذ بحذر، وتطلع بطرف عينه إلي الأيقونة الداكنة التي امتدت على جانبيها أرفف محملة بالنعال، وزفر زفيراً متقطعاً. كانت الورقة مبسوطة علي الأريكة، أما هو فقد جثا علي ركبتيه أمامها. وكتب: " جدي العزيز " قسطنطين مكاريتش" ! أنا اكتب إليك خطاباً. أهنئكم بعيد الميلاد وأرجو لك من الله كل الخير. أنا ليس لدي أب أو أم، ولم يبق لي غيرك وحدك". وحول " فانكا" بصره إلي النافذة المظلمة التي عكست ضوء شمعته المتذبذب، وتخيل بوضوح جده " قسطنطين مكاريتش" الذي يعمل حارساً ليلياً لدي السادة لدي " آل جيفارف ". و هو عجوز صغير نحيل إلا انه خفيف الحركة بصورة غير عادية، في حوالي الخامسة والستين، ذو وجه باسم دائماً وعينين ثملتين. كان نهاراً ينام في مطبخ الخدم أو يثرثر مع الطاهيات، أما في الليل فيطوف حول بيت السادة متدثراً بمعطف فضفاض من جلد الحمل ويدق علي صفيحة. ومن خلفه يسير مطأطأ الرأسين مع الكلبة العجوز "كاشتانكا" والكلب "فيون" الذي سمي هكذا للونه الأسود وجسده الطويل كالنمس. كان هذا الـ " فيون " مهذباً ورقيقاً بصورة غير عادية، وكان ينظر بنفس الدرجة من التأثر سواء لأصحابه أم للغرباء، ولكنه لم يكن يحظى بالثقة. كان يخفي تحت تهذيبه واستكانته خبثاً غادراً إلي أقصي حد. فلم يكن هناك من هو أحسن منه في التلصص في الوقت المناسب ليعض الساق، أو التسلل إلي المخزن، أو سرقة دجاجة من بيت فلاح. وقد حطموا له ساقيه الخلفيتين غير مرة، وعلقوه مرتين، وكانوا يضربونه كل أسبوع حتى الموت، ولكنه كان يبعث من جديد. وربما يقف الجد الآن أمام البوابة ويزر عينيه وهو يتطلع إلي نوافذ كنيسة القرية الساطعة الحمرة، ويثرثر مع الخدم وهو يدق الأرض بحذائه اللباد. والصفيحة التي يدق عليها معلقة إلي خصره،. ويشيح بيديه ثم يتململ من البرد، ويضحك ضحكة عجوز ويقرص الخادم تارة والطاهية تارة أخري. ويقول وهو يقدم للفلاحات كيس تبغه: - ألا ترغبن في استنشاق التبغ؟ وتستنشق الفلاحات ويعطسن، ويستولي علي الجد إعجاب لا يوصف ويقهقه بمرح ويصيح: - بقوة و إلا لزقت! ويقدمون التبغ للكلاب لتشمه. وتعطس "كاشتانكا" و تلوي بوزها، وتبتعد مغضبة. أما " فيون" فلا يعطس تأدبا، بل يهز ذيله. والجو رائع. الهواء هادئ، وشفاف ومنعش. والليل حالك ومع ذلك تلوح القرية كلها بأسقف منازلها البيضاء وأعمدة الدخان المنبعثة من المداخن، والأشجار وقد كساها الثلج ثوباً فضياً، وأكوام الثلج. والسماء كلها مرصعة بنجوم تتراقص بمرح، ويبدو درب التبانة واضحاً وكأنما غسلوه قبل العيد ودعكوه بالثلج.. وتنهد " فانكا" ، وغمس الريشة في الحبر ومضي يكتب: " بالأمس ضربوني علقة، شدني المعلم من شعري إلي الحوش وضربني بقالب الأحذية لأني كنت أهز ابنه في المهد فنعست غصباً عني. وفي هذا الأسبوع أمرتني المعلمة أن أقشر فسيخة، فبدأت أقشرها من ذيلها، فشدت مني الفسيخة وأخذت تحك رأسها في وجهي. والاسطوات يسخرون مني ويرسلونني إلي الخمارة لشراء "الفودكا" ويأمرونني أن اسرق الخيار من بيت المعلم، والمعلم يضربني بكل ما يقع في يده. وليس هناك أي طعام، في الصباح يعطونني خبزاً، وفي الغداء عصيدة، وفي المساء أيضا خبزاً، أما الشاي أو الحساء فالسادة وحدهم يشربونه. ويأمرونني أن أنام في المدخل، وعندما يبكي ابنهم لا أنام أبداً وأهز المهد. يا جدي العزيز، اعمل معروفاً لله وخذني من هنا إلي البيت في القرية. لم اعد احتمل أبداً... أتوسل إليك وسوف اصلي لله دائماً، خذني من هنا و إلا سأموت.. وقلص " فانكا" شفتيه ومسح عينيه بقبضته السوداء وأجهش بالبكاء. ومضي يكتب: " سأطحن لك التبغ، واصلي لله، وإذا بدر مني شيء اضربني كما يُضرب الكلب. وإذا كنت تظن أنه ليس لي عمل فسأرجو الخولي بحق المسيح أن يأخذني ولو لتنظيف حذائه، أو أعمل راعياً بدلاً من " فيدكا" . يا جدي العزيز، لم اعد احتمل أبداً، لا شيء سوي الموت. أردت أن اهرب إلي القرية ماشياً ولكن ليس لدي حذاء واخشي الصقيع، وعندما أصبح كبيراً فسوف أطعمك مقابل هذا ولن اسمح لأحد أن يمسك، وإذا مت يا جدي فسأصلي من أجل روحك كما أصلي من أجل أمي " بيلاجيا". وموسكو مدينة كبيرة.. والبيوت كلها بيوت أكابر، والخيول كثيرة، وليس هناك غنم، والكلاب ليست شريرة. والأولاد في العيد لا يطوفون بالبيوت منشدين ولا يسمح لأحد بالذهاب للترتيل في الكنيسة. ومرة رأيت في أحد الدكاكين، في الشباك، صنانير تباع بخيوطها لصيد كل أنواع السمك، عظيمة جداً، بل وتوجد صنارة تتحمل قرموطاً وزنه "بوذ". ورأيت دكاكين فيها مختلف أنواع البنادق التي تشبه بنادق السادة، ويمكن الواحدة منها تساوي مائة روبل.. وفي دكاكين اللحوم يوجد دجاج الغابة وأرانب، ولكن الباعة لا يقولون أين يصطادونها. يا جدي العزيز، عندما يقيم السادة شجرة عيد الميلاد خذ لي جوزة مذهبة وخبئها في الصندوق. قل للآنسة " أولجا اجناتيفنا" أنها من أجل "فانكا". وتنهد " فانكا" وسمر عينيه في النافذة من جديد. وتذكر أن جده كان دائماً يذهب للغابة لإحضار شجرة عيد الميلاد ويصحب معه حفيده. يا له من عهد سعيد! كان الجد يتنحنح والثلج يتنحنح و"فانكا" يتنحنح مثلهم. وكان يحدث أن الجد، قبل أن يقطع الشجرة، يجلس ليدخن الغليون، ويشم التبغ طويلاً وهو يضحك من "فانكا" المقرور.. وشجيرات عيد الميلاد الشابة تقف متلفعة بالثلج وساكنة وهي تنتظر أيها التي ستموت؟ وفجأة يمرق أرنب كالسهم عبر أكوام الثلج.. ولا يستطيع الجد أن يمسك نفسه عن الصياح: - امسك، امسك.. امسك! آه، يا شيطان يا ملعون، ثم يسحب الجد الشجرة المقطوعة إلي منزل السادة، حيث يشرعون في تزيينها.. وكانت الآنسة "اولجا اجتاتيفنا" التي يحبها "فانكا"، هي التي تشغله أكثر من الجميع، وعندما كانت أم "فانكا" "بيلاجيا" علي قيد الحياة كانت تعمل خادمة لدي السادة، كانت " اولجا اجتناتيفنا" تعطي " لفانكا " الحلوى، ولما لم يكن لديها ما تعمله فقد علمته القراءة والكتابة والعد حتى مئة، بل وحتى رقصة "الكادريل"، ولما ماتت" بيلاجيا"، أرسلوا "فانكا" اليتيم إلي جده في المطبخ مع الخدم، ومن المطبخ إلي موسكو عند الاسكافي "الياخين"... ومضي فانكا يكتب: " احضر يا جدي العزيز، استحلفك بالمسيح الرب أن تأخذني من هنا. أشفق علي أنا اليتيم المسكين، لان الجميع يضربونني، وأنا جوعان جداً، ولا أستطيع أن أصف لك وحشتي، وابكي طول الوقت. ومن مدة ضربني المعلم بالنعل علي رأسي حتى وقعت ولم أفق إلا بالعافية. ما أضيع حياتي، أسوأ من حياة أي كلب.. تحياتي " لاليونا و "يجوركا الأحول" ، والحوذي، ولا تعط "الهارمونيكا" لأحد. حفيدك دائماً " ايفان جوكوف"، احضر يا جدي العزيز". وطوي " فانكا" الورقة المكتوبة أربع مرات ووضعها في مظروف كان قد اشتراه من قبل " بكوبيك".. وفكر قليلاً ثم غمس الريشة وكتب العنوان: إلي قرية جدي وحك رأسه وفكر، ثم أضاف " قسطنطين مكاريتش". وارتدي غطاء الرأس وهو سعيد لأن أحداً لم يعطله عن الكتابة، ولم يضع المعطف علي كتفيه، بل انطلق إلي الخارج بالقميص فقط... كان الباعة في دكان الجزار الذين سألهم من قبل قد اخبروه أن الرسائل تلقي في صناديق البريد، ومن الصناديق تنقل إلي جميع أنحاء الأرض علي عربات بريد بحوذية سكاري وأجرس رنانة. وركض " فانكا" إلي أول صندوق بريد صادفه، ودس الرسالة الغالية في فتحة الصندوق. وبعد ساعة كان يغط في نوم عميق وقد هدهدت الآمال الحلوة روحه.. وحلم بالفرن. كان جده جالساً علي الفرن مدلياً ساقيه العريانتين وهو يقرأ الرسالة للطاهيات.. وبجوار الفرن يسير " فيون " ويهز ذيله...
تمـــــــــــــــــــــــــــــــت
| |
| | | Fati المديــــر العــام
اسم الدولة : فرنسا
| موضوع: رد: انطون تشيخوف الثلاثاء ديسمبر 15, 2009 11:37 pm | |
| الساذجه للكاتب الروسي الكبير: أنطوان تشيكوف ترجمة حصه العمار
طلبت - قبل بضعة أيام - من مربية أولادي ( جوليا فاسيليفنا ) موافاتي بغرفة المكتب. - تفضلي بالجلوس ( جوليا فاسيليفنا ) - قلت لها - كيما نسوي مستحقاتك . ويبدو أنك تلبسين رداء الرسمية والتعفف إذ أنك لم تطلبيها رسميا مني رغم حاجتك الماسة للمال ... حسنا ... كنا إذا قد اتفقنا على مبلغ ثلاثين روبلا في الشهر ... - بل أربعين قالت باستحياء. - كلا .. اتفاقنا كان على ثلاثين ، دونت ملاحظة بذلك . أدفع إلى المربيات ثلاثين روبلا عادة . لقد عملت هنا مدة شهرين لذا .. - شهران وأيام خمسة قالت مصححة - بل عملت لمدة شهرين بالتمام والكمال - قلت بإصرار - لقد دونت ملاحظة بذلك ، وهذا يعني أنك تستحقين ستين روبلا يخصم منها أجر تسعة أيام تعرفين تماما أنك لم تعملي شيئا لـ ( كوليا ) أيام الأحد وكنت تكتفين بالخروج به للنزهة ... هناك أيضا ثلاث إجازات و ... ولم تعقب .. اكتفت المسكينة بالنظر إلى حاشية فستانها فيما كست محياها حمرة شديدة .. مانبست ببنت شفه - ثلاث إجازات فلنخصم من ذلك إذا اثنى عشر روبلا ... كما وأن ( كوليا ) قد مرض فاستغرق ذلك ثلاثة أيام لم يتلق عبرها أي درس ... شغلت إبان ذلك بـ ( تانيا ) فقط ، هناك أيضا أيام ثلاثة شعرت فيها بآلام في أسنانك ممضة اعفتك زوجتي خلالها من العمل بعد الظهر ... اثنا عشر وسبع يساوي تسعة عشر ، واطرحي ذلك فيتبقى بعد ذلك ... آ ... واحد وأربعون روبلا ... أصبح ذلك واحمرت العين اليسرى ( لجوليا فاسيليفنا ) ثم ... غرقت بالدمع ، فيما تشنج ذقنها وارتعش ... وسعلت بشدة ثم مسحت أنفها ... إلا أنها ... لم تنبس بحرف - " قبيل ليلة رأس السنه كسرت كوب شاي وصحنه ، يخصم من ذلك روبلان رغم أن تكلفة الكوب هي في الواقع أكثر من ذلك إذ إنه كان ضمن تركة قيمة ... لا يهم ليست تلك هي أولى مامنيت به من خسائر ... بعد ذلك ونتيجة لإهمالك صعد ( كوليا ) شجرة فتمزق معطفه ، يخصم من المجموع عشرة روبلات ... كما وأن الخادمه قد سرقت - بسبب لامبالاتك حذاء ( فانيا ) ينبغي أن تفتحي عينيك جيدا ... أن تتوخي الحذر والحيطة فنحن ندفع لك ثمن ذلك ... حسنا نطرح من كل ذلك خمسة روبلات وإني قد أعطيتك عشرة روبلات يوم العاشر من يناير - لم يحدث ذلك ّ همست ( جوليا فاسيليفنا ) - بلى دونت ملاحظة بذلك قلت بإصرار - حسنا وإذا أجابت بنبرات كسيرة . - فإذا ما خصمنا سبعة وعشرين من واحد وأربعين فسيتبقى لك أربعة عشر روبلا وغرقت بالدموع حينها كلتا عينيها فيما ظهر العرق على أنفها الصغير الجميل ... ياللبنية المسكينة - لم أحصل على مال سوى مرة واحدة - قالت صوت راعش متهدج النبرات - وكان ذلك من زوجتك . ماتجاوز ما استلمته ثلاث روبلات ... لا أكثر سيدي - حقا أرأيت لم أدون ملاحظة بذلك - سأخصم من الأربعة عشر روبلا ثلاثة فيتبقى لك أحد عشر روبلا ودفع إليها بالمبلغ فتناولته بأصابع مرتجفة ثم دسته في جيبها . شكرا قالت هامسة . - ولماذا هذه الـ ( شكرا ) سألتها - للمبلغ الذي دفعته لي . لكنك تعرفين أني قد غششتك ... أني قد سرقتك ونهبت مالك فلماذا شكرتني - في أماكن أخرى لم يكونوا ليدفعوا لي شيئا البتة - لم يمنحوك على الإطلاق شيئا زال العجب إذا لقد دبرت هذا المقلب كي ألقنك درسا في المحافظة على حقوقك ، سأعطيك الآن مستحقاتك كاملة ... ثمانون روبلا ... لقد وضعتها في هذا الظرف مسبقا ... لكن - تساءلت مشدوها - أيعقل ذلك أن يتسم إنسان بكل ذلك الضعف والاستسلام لماذا لم تعترضي لم كل ذلك الصمت الرهيب ... أيعقل أن يوجد في هذا العالم النابض بالظلم والأحقاد والشراسة إنسان بلا أنياب أو مخالب إنسان في سذاجتك وخضوعك وابتسمت في ذل وانكسار فقرأت في ملامحها " ذاك ممكن " واعتذرت منها مجددا عما سببته لها من ألم وإحراج ، إذ إن الدرس كان قاسيا حقا قبل أن أسلمها الظرف الذي يحوي أجرها ... ثمانون روبلا تناولتها بين مكذبة ومصدقة ... وتلعثمت وهي تكرر الشكر ... المرة تلو المرة ثم غادرت المكان وأنا أتأملها وسيل من جراحات الإنسان المعذب في أرجاء غابة الظلم يندح في أوردتي وهمست لنفسي : - حقا ما أسهل سحق الضعفاء في هذا العالم
| |
| | | | انطون تشيخوف | |
|
مواضيع مماثلة | |
|
| صلاحيات هذا المنتدى: | لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
| |
| |
| |
|