لملك محمد إدريس السنوسيي- ملك ليبيا- (رحمه الله تعالى) يرى أن الحياة السعيدة لاتقوم الا علي الدين والعلم والاخلاق فمن أقواله:
"إن سنن الإسلام السياسيه تعتمد علي دعائم متينة محكمة، فلو حفظت هذه السنن وسيست بها الحكومة الإسلاميه لما أصاب دولة الإسلام ما أصابها، لاريب أن ضعف المسلمين يرجع إلى إهمال هذا النظام وتركه ...
وإذا ما أراد المسلمون أن ينالوا مجدهم فليرجعوا إلى قواعد حكومتهم الأولى، ولايظنوا أن ذلك رجوعا إلى الوراء، بل علي العكس فهو التقدم التكامل".
وقال أيضا: " إن بعث الروح الإسلامية أمر يحدث قوة لايستهان بها، ولاسبيل إلى بعث هذه الروح إلا إذا فرقنا بين المد نيتين الحقيقية والصناعية، وأخذنا الأولة باليمين والأخرى بالشمال، وفتحنا باب الأجتهاد ورجعنا إلى قواعد السياسه الإسلامية".
وقال: "فمن تخلق منا بغير الأخلاق الاسلاميه نجده فاسد التربية منحطا في مستواه الأخلاقي، معطل الاستعداد الفكري الحر، مشوش العقل والاعتقاد، مقلدا تقليدا أعمى".
لقد كان الملك: إدريس رحمه الله تعالى نصيرا للدين والعلم والأخلاق، ولذلك قام بتوجيه شعبه منذ تحرير ليبيا من الاستعمار الإيطالي إلى التعليم والإكثار من المدارس، والاهتمام بالاطفال، ولما تولى أمر المملكة الليبية وجه المسئولين إلى وجوب العناية بالتعليم وتعميمه، وأهتم بوزارة المعارف ليكون نواة للجامعة الليبية.
وفي نوفمبر عام 1954م أصدر الملك إدريس توجيهاته إلى حكام الولايات الثلاث [ برقة- طرابلس- فزان]لأتخاذ السبل الكفيلة بضرورة تدريس العلوم الدينية على الطلبة في جميع المدارس كمادة أولية مفروضة، وفرض الصلاة في أوقاتها الخمس على طلاب المدارس من بنين وبنات في كافة أنحاء المملكة لإعداد هذا الجيل إعدادا إسلاميا رشيدا.
وأهتم بتطوير معهد السيد/ محمد بن علي السنوسي حتى أصبح جامعة متميزة من حيث التعليم والنظام والاستعداد، وكان يحث شعبه علي المحافظة على الصلوات في أوقاتها، ويحذرهم من المعاصي والذنوب، وقام بتوجيه رئيس الوزراء ورئيس الديوان الملكي، والولاة الليبيين وحملهم مسئولية شرب الخمر ، وحملهم المسئولية أمام الله ثم أمام الملك، وكانت حيثيات هذا التوجه مدعمة بالأحاديث النبوية الشريفة، وكان الإنذار الذي يحمله هذا التوجيه شديدا.
وكان يرى أن أركان النصر للشعوب في ثلاثة ركائز: بالتمسك بالدين الكامل والخلق الفاضل والاتحاد الشامل ولذلك قال:{ أنصح العرب الأشقاء بالتمسك بالدين الكامل والخلق الفاضل والاتحاد الشامل، فلن يغلب شعب يحرص على هذه الأركان}.
وقال: { الاتحاد العربي ضرورة والعصبية العربية مشروعة ومعقولة شريطة أن لاتتعارض مع الأخوة الإسلامية وأن لا تعتدي على حقوق اللآخرين } .
إن الأهتمام بالدين والعلم والأخلاق عند الملك إدريس رحمه الله تعالى نابع من عقيدة الإسلام، ومن فهمه لكتاب الله وسنة رسوله[ صلى الله عليه وسلم] ويرى أن الحضارة الصحيحة هي التي تقوم على الدين والعلم والأخلاق، وبهذه المقومات قامت الحركة السنوسية، فعندما سأله كاتب دانماركي أجرى معه مقابلة صحفية أثناء وجوده بالمنفى عن موقفه تجاه الاحتلال الايطالي لليبيا آنذاك فجاءه رده مؤكدا لنظرته للحياة الروحية باعتبارها أهم من الوجود المادي، إذ قال في معرض حديثه: { إن الحضارة التي يريد الايطاليون إدخالها إلي بلادنا تجعل منا عبيدا للظروف، ولذا وجب علينا أن نحاربهم فهي تبالغ في اضفاء الأهمية على قشرة الحياة الخارجية كالتقدم التقني والآلي مثلا وتعتبر مظاهر الأبهة والسلطان معيارا للحكم علي قيمة الفرد أو الأمة حين تستهين بالنمو الداخلي للإنسان، وأستطيع أن أقول لك شيئا واحدا، وهو أنه حيث تسود الدعوة السنوسية يستتب الإسلام والرضا من كل جانب }
ملك محبوب
عندما عينت الجمعية الوطنية الليبية حكومة مؤقتة في شهر أبريل عام 1951م برئاسة السيد: محمود المنتصر رأت الحكومة أهمية زيارة الملك إدريس لمنطقة طرابلس تلبية لرغبة ابناء طرابلس لهذه الزيارة، ولبى الملك تلك الرغبة، وأبتهجت المدن الليبية في جهة الغرب بهذه الزيارة، أستقبلته الوفود من الرجال والنساء والشيوخ والشباب، وعندما وصل موكبه إلي طرابلس وأخترق شارع عمر المختار كان بعض الحقودين يتربص بالملك الدوائر، وقذف موكبه ببعض القنابل، ولكن الله سلم وظهرت من الملك شجاعة نادرة في مثل تلك المواقف، وثبات عجيب، وماكاد يذاع نبأ المحاولة الفاشلة في ليبيا حتى أجتمعت جموع الشعب في أسرع من لمح البصر بأندفاع ذاتي لا كما يحصل اليوم وذلك لفرط حبها لملكها وقائدها، وشرعت تهنئ بعضها بسلامة قائدها ، وبهذه المناسبة قال الشاعر المعروف بشاعر الوطن أحمد رفيق المهدوي:
وقاك الله من شر الأعادي ===== ودام علاك يا أمل البلاد
وعشت لأمة جعلتك رمزا ===== لوحدتها وروحا للجهاد
حياتك بيننا لله نورا ====== أيطفئ نوره أهل الفساد
أتم الله نعمته علينا ===== بحفظك واهتدائك للسداد
وقد أجاب الملك إدريس رحمه الله تعالى عن هذه الحادثة فقال: { إن هذه الحادثة لم تكن أبدا من ليبي، ولن يقدم عليها أحدا من أبناء ليبيا، وأنني أحمد الله جلت قدرته الذي وقى هذه البلاد شر المصائب إلى أن قال: والضرر الذي يلحق بقضية الوطن أخطر من الضرر الذي يلحق بشخصنا أو بأي شخص آخر، وقال: إننا لسنا من أي حزب ولن نتحزب لحزب دون آخر، وإنما نحن للجميع، ونسعى لخير الكل , ولصالحهم ، هذا هو مبدؤنا الذي فطرنا عليه وعملنا من أجله زهاء ثلاثين سنة، ونحن لانعتبر أنفسنا إلا فرد من أفراد هذا الشعب لايهمه غير مصلحة الشعب ومستقبل البلاد.)
وقام بعدها بزيارة مدن [ ترهونه- الزاويه- غريان- يفرن- مصراته- زليطن- الخمس-] وكان يستقبل من الشعب بالحب والعفوية والتلقائية تعبيرا عن فرحتهم بهذه المناسبة.
لقد كانت أعمال الملك إدريس من أسباب محبة الليبيين له فقد أصدر أوامره بأن يعفى من الضريبة الجمركية كل ما يرد إلى الديوان الملكي، وبأن لايلقب بصاحب الجلالة تقدسا بذات الله ( جلا جلاله) وقال: { إن الجلالة لله وحده وما أنا إلا عبد من عباده} ويعتبر هذا الحدث سابقة تاريخية من أروع ماشوهد في دنيا الملوك.
ويقول السيد : أحمد العرفي ( الذي كان سجينا سياسيا في سجون القذافي بطرابلس) عن حادثة تدل على تعظيم الملك إدريس للمولى ( عزوجل) وهي: أنه كان هناك مسجد جديد في مدينة البيضاء بمنطقة الجبل الاخضر، وجاء الملك لأفتتاحه ومع مجيئه ودخول المسجد شرع الناس في الترحيب بالملك وبصوتا عالي فغضب الملك وأمر الناس بالصمت وقال: { هذا المكان لاينبغي أن يذكر فيه غير إسم الله، وأستشهد بقوله تعالى: [ وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ]- الجن-18. ولذلك أحبه شعبه وأحب شعبه وكانت الإرادات السامية تصدر من الملك لتجسد هذه المعاني الرفيعة من التواضع والبساطة، والبعد عن المظاهر وتحاشي الشبهات ، فقد أصدر إرادة سامية بأن لايطلق أسمه على الشوارع والمؤسسات بقصد التمجيد والتخليد محتسبا عند الله ما عمله لصالح أمته وشعبه.
وأصدر إرادة سامية بأن لاتنشر صور ذاته على العملة أو على الطوابع البريديه أبتعادا عن المظاهر الدنيويه الزائله ، وأصدر قرارا ملكيا بأن لايتخذ من ذكرى ميلاده عيدا رسميا، وأن لاتقام الاحتفالات بهذه المناسبة وذلك لأنه ليس مما جرى العمل به في السلف الصالح( رضوان الله عليهم).
وأصدر أمرا بتعديل قانون البيت المالك، وأغى بموجب ذلك الأمر حصانات وامتيازات الأسرة السنوسية، كما ألغى ألقاب الإماره والنبل من أعضاء البيت السنوسي، وأمر أيضا بأن لايقبل أية هدية يرى الشعب فرادى أو جماعات تقديمها له في المناسبات تتعلق بذاته أو غيرها من المناسبات.
كان الملك إدريس ( رحمه الله تعالى ) يقوم صباح كل يوم مبكرا لأداء صلاة الفجر في وقتها ويشرع في قراءة القرآن الكريم، وأوراده اليوميه، ويتناول إفطاره حوالي الساعة التاسعة، ثم يخرج إلى مكتبه حوالي الساعة العاشرة، فيستقبل موظفي الديوان والخاصة الملكية لتصريف الأعمال اليومية، فيستقبل زواره من الضيوف ورجال الحكومة، وأصحاب الحاجات من الحادية عشر إلى الواحدة ظهرا، ثم يتناول طعام الغداء بعد تأدية صلاة الظهر مباشرة، وكانت الجولة البرية من أحب الرياضات عنده وكان يستقبل بعض زواره قبل صلاة المغرب، وبعد صلاة العشاء يتناول الشاي مع موظفي القصر وضيوفه، وينام عادة حوالي الحادية عشر مساءا.
وكان يحب المطالعة في مكتبته الخاصة ويعكف عليها طويلا، وأحب ماعنده قراءة القرآن ودراسة كتب التاريخ العام، وكان يحرص في غالب الأحيان علي استماع نشرات الأخبار من المذياع، وكان لايهتم بالمظاهر في تحركاته.
وقد ذكر السيد: عمر فائق شنيب- رئيس الديوان الملكي- أن الملك ( رحمه الله تعالى) كان في يوم ربيع 1952م راجعا من جولته التقليدية ورأى سيارة تقف بسبب خلل فيها ، وكان صاحبها الاستاذ: محمد بن عامر فأمر الملك سائق سيارته أن يقف حتى تلتحق به سيارة الحرس ، وأمر هذه السيارة بأن تعود إلى الاستاذ : محمد بن عامر فتحمله حيث شاء.
إن هذه الصفات الرائعة تدلنا على جوانب مضيئة في شخصية الملك إدريس الإسلامية، وحبه لمعالي الأمور وأهتمامه بالتواضع والبساطة، كما تدلنا على أنه تحصل على قسط من التربية الإيمانيه من حركة أجداده الميامين الطيبين الطاهرين
-------
نادى باستقلال الوزارة لوجود شبهة تحيز لأحد أقاربه
بذل الملك إدريس (رحمه الله) مافي وسعه في القضايا التي تتنامى الي سمعه فيغضب لله ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، وإليكم هذه الرسالة التي وجهها إلى الحكومة الأتحادية ( رئاسة الوزراء) في 13 يوليو 1960م التي عممت على جميع الإدارات الحكومية، ثم نشرتها الصحف ووسائل الأعلام بسبب حصول أبن عم الملك -عبد الله عابد السنوسي- على أمتياز تنفيذ طريق فزان بكيفية مريبة، فأطلق الملك صرخته المدوية { لقد بلغ السيل الزبى } وكانت الرسالة موجهة إلى رئيس الحكومة الأتحادية والوزراء وإلى والي برقة ووالي طرابلس ووالي فزان وكل مسئول ، أنه قد بلغ السيل الزبى وما يصم الأذن من سوء سيرة المسئولين في الدولة من أخذ الرشوة سرا وعلانية والمحسوبية القاضيتين على كيان الدولة، وحسن سمعتها في الداخل والخارج مع تبذير اموالها سرا وعلانية، وقد قال تعالى : [ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس با لأثم وأنتم تعلمون]- البقرة- 188- وقد قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) في حديثه الشريف: { لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم).
وبالرغم من أن التحقيقات التي أجريت قد أثبتت براءة حكومة السيد: كعبار من التهم التي علقت بها إلا أن الملك رأى أن نزاهة الحكم لا تتحمل وجود مثل تلك الشبهات ، فطلب من الحكومة تقديم استقالاتها فتقدمت وقبلها الملك في 16 اكتوبر 1960م.
-----
أدب العبارة في خطاب السنوسي
تميزت خطابات الملك إدريس ( رحمه الله) برصانة الأسلوب ،ومتانة التعبير، وقوة الحجة، وحرص الراعي على الرعية ، ونصحه لشعبه، وكانت خطاباته عامرة بالدعوة إلى الخير والتقوى ومكارم الأخلاق، وهذا خطاب ألقاه بمناسبة توحيد الحكم في المملكة وإلغاء الحكم الاتحادي في عام 1963م يوم 26 من إبريل يؤكد ما ذهبت إليه:
مواطني الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
في هذه اللحظات التاريخية التي تمر بها أمتنا المجيدة، وفي هذه المرحلة التي يجتازها ركبنا الصاعد يسرني غاية السرور أن أعلن للشعب الليبي الكريم إنتهاء العمل بشكل الحكم الاتحادي والبدء رسميا في نظام الوحدة الشاملة الكاملة تطبيقا للتعديل الدستوري الذي وافقت عليه المجالس النيابية والتشريعية بالأجماع، وإنني أحمد الله تعالى كثير الحمد ، وأتوجه إليه بالشكر العظيم والثناء الجميل على ما من به سبحانه وتعالى من نعمة حتى مشاهدة ولادة هذا الأمل الوطني الكبير، ووفقنا جميعا بتأييده وعونه إلى تحقيق هذه الأمنية الغالية.
إن الوحدة التي تبدأ اليوم عهدها الميمون هدف جديد من أهدافنا الوطنيةالتي جاهدنا من أجلها وضحى شعبنا في سبيلها، فهي ثمرة طيبة للجهاد ووفاء لأجر الصابرين، ومن بعد ذلك خير وبركة ورمز الأجتماع الكلمة وتآلف القلوب، ووعاء للمحبة والتآخي والوئام، ومبدأ يتبوأ السمو في عالم الأخلاق والفضيلة، وحبل الله المتين الذي أمرنا سبحانه وتعالى با لأعتصام بعروته الوثقى، قال تعالى وهو أصدق القائلين: [واعتصموا بحبل الله جميعا ولاتفرقوا] وهو الدين القويم دين سيدنا محمد( صلى الله عليه وسلم)وقال تعالى: [ ولاتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم] وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم): { مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا أشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى} . فالحمد لله الذي جمع على المحبة قلوبنات ، ووحد على الوفاق بلادنا وجعلنا من أمة التوحيد التي هي خير أمة أخر جت للناس. وإني لأنتهز فرصة إعلان الوحدة المباركة السعيدة فأوصيكم جميعا بتقوى الله تعالى ومراعاة وجهه في السر والعلن... إلى أن يقول وفقنا الله جميعا إلى ما يحب ويرضاه، وألهمنا الرشد والصواب، وجعل وحدتنا فاتحة عهد سعيد يفيض خيره ويزيد نفعه ، وتعم بركاته، وتبدأ مرحلة تنشط فيها العزائم، وتقوي الإرادات فإنه تعالى أقرب مسئول يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ومنه الهداية والتوفيق وإليه الملجأ والنصير".
إن هذا الخطاب ملئ بأدب العبارة ، وبسمو المعاني ، والتواضع الجم والدعوة إلى الخير والبر والتقوى.
إن كثيرا من الحكام لايتحملون النقد ولا كلمة الحق الموجهة اليهم والي حكوماتهم أو ذواتهم ويقتدون بفرعون مصر الذي قال فيه تعالى: [ ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ]- غافر- 29-
ويستعملون كافة الاساليب الوحشية لتكميم الأفواه ، ومصادرة الحريات ويبررون مواقفهم أمام شعوبهم عند قمع الأخيار والمصلحين كما قال تعالى: [وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد]-غافر-26- وهكذا كل الطغاة يقولونها عندما يواجهون المصلحين، وكلما تواجه الحق والباطل، والإيمان والكفروالصلاح والطغيان على توالي الزمان وأختلاف المكان ، وهكذا الطغاة في كل زمان ومكان يقدمون أنفسهم على أنهم الحريصون على الفضائل ، والغيورون على الأخلاق والراغبون في التعمير والتقدم ، والأمن والأزدهار، بينما يقدمون أهل الخير والصلاح على أنهم مفسدون مخربون ضالون مضلون ، ولهذا وجب القضاء عليهم قبل تحقيق أهدافهم الباطلة.
إن الملك إدريس (رحمه الله) سمح للمصلحين أن يتكلموا ،وينتقدوا الدولة والحكم،وشجع الصحافة والنواب على قول كلمة الحق ، وحتى الذين يتجاوزون حدود القانون من المعارضة يعترفون بالمعاملة الحسمة التي يلاقونها من الشرطة، فقد ذكر الاستاذ/ محمد بشير المغيربي في كتابه{ وثائق جمعية عمر المختار} مايدل على ما ذهبت إليه فقال: (لابد أن أقول بعد كل ذلك إننا طيلة تلك المرحلة، ونحن نعارض ونواجه بحدة وبشدة وتتخذ ضدنا إجراءات بالسجن والاعتقال والنفي ، وتحديد الإقامة إننا لم نتعرض لإهانة أو إذلال معنوي أو جسدي، بل إن كل مايطبق علينا من تلك الاجراءات كان في جو من الاحترام وبما لايحرج كرامتنا ،أو يحط من انسياتنا.
إن من يدرس دور الصحافة في فترة الملك إدريس( رحمه الله) يلاحظ أنها حرة،ولكل شخص الحق في حرية التعبير عن رأيه وفي إذاعة الأراء والأنباء بمختلف الوسائل، وذلك في حدود الحق الدستوري المنظم لقانون المطبوعات الذي ظهر عام 1959م
كان قانون المطبوعات يشترط موافقة مجلس الوزراء على وقف إصدار الصحيفة مما أعطاها منعة وحصانة ضد أي قرار تعسفي في حالة تفرد جهة معينة بذلك، وأعطت الحكومة الليبية زمن الملك إدريس( رحمه الله)حرية الصحف في مباشرة نشاطها دون تدخل او تعويق إداري ،ورغم أنه بدرت من الحكومة بعض الممارسات التعسفية إلا أن طبيعة النظام الحاكم كانت دائما تعطي مجالا وبراحا للأخذ والعطاء ، كما أن دستورية المؤسسات تضمن للصحف والمجلات حقوقها، وعندما قامت الحكومة في عام 1952م بإغلاق صحيفة ( التاج) عارضت الصحيفة ذلك القرار،ورفعت دعوى ضد الحكومة، والقى الشاعر { أحمد رفيق المهدوي} قصيدة في تجمع لرفض القرار جاء فيها:
التاج يشكرا لرب التاج مالاقى ===== من الوزارة تعطيلا وإغلاقا
وزارة جاوزت مالا يطاق فأكثرت ===== على الشعب إعناتا وإرهاقا
وقد نشرت القصيدة في اليوم التالي في جميع الصحف،ولم يتعرض الشاعرلأي أذى، ويوم تعرضت صحيفتي{ البلاغ- الميدان} للإغلاق،ودخلت هذه الصحف في معارك عنيفة ضد وزارة الإعلام كانت هذه الصحف تدافع عن وجهة نظرها علانية امام الجميع،وفي المحاكم، وكان هناك نوعان من الصحافة [ حكومية- اهلية] فالصحافة الحكومية من أشهرها [ ليبيا الحديثة-برقة الجديدة-طرابلس الغرب]ومع كونها حكومية إلا أنها لم تخل في مرات عديدة من نقد واضح للسلطات الحاكمة، رغم كونها من أدواتها الإعلامية، ونذكر هنا بالقصيدة الشعبية التي نشرتها صحيفة حكومية:
وين ثروة البترول ياسمساره ===== اللي ع الجرايد نسمعوا باخباره
وقد تضمنت القصيدة رسالة جريئة وعنيفة في مهاجمة الحكومة.
أما الصحافة الأهلية، وهي قائمة على الشكل التجاري فكانت تتلقى دعما غير مباشر من الحكومة على هيئة[ إعلانات- إشتراكات] وكانت تعتبر بمثابة ورقة ضغط غير مباشر وقيد يمنعها من الحرية الكاملة، إلا أنها ساهمت في إنضاج الرأي العام المحلي وتوعيته سياسيا،وقد عرفت صحف [ كالبلاغ -الرقيب-] بمقالاتها المنتقدة للحكومة ،كما اشتهرت صحيفة [ الحقيقة] بأسلوبها الساخر في تناول الحكومة والتعريف بمساؤها.
وكان وجود هذه الصحف يدل على بداية نهضة فكرية وسياسيه جيدة للغاية،كما يدل على مرونة النظام الملكي،وبعده عن مصادرة الأصوات المعارضة لسياسة الدولة، أما حاليا فلاتوجد صحيفة أو مجلة يملكها فرد فجميع الصحف هي ملك النظام الحاكم في ليبيا الآن وجميعها قد صبغت بلون أعلامي على نمط واحد وهي الدعاية للحاكم المتفرد بالحكم هناك.
مع مرور الزمن وتقدم السن رأى الملك ( رحمه الله) أن يتخلى عن الحكم ، وأن يقدم إستقالته،ويترك إلى الشعب أو ممثليه إسناد الأمر إلى من هو أحق منه، وأقدر على تحمل الأمانة والقيام بالواجب المطلوب ،ولذلك لم يتردد الملك إدريس ( رحمه الله) في عام 1965م في عهد حكومة السيد - محمود المنتصر- الثانية أن يقدم أستقالته بسبب التقدم في العمر وخشيته نتيجة لذلك من التقصير في القيام بما عليه من الواجب والمسؤوليات إلى البرلمان الليبي تاركا له أن يتخذ من يراه مناسبا من نظام للحكم لصالح البلاد،ومن رئيس للدولة فيها،ولكنه عندما تقاطرت إلى مدينة (طبرق) -حيث كان يقيم الملك(رحمه الله)- الجماهير الغفيرة من مختلف أطراف البلاد بما في ذلك قادة المعارضة ،وأحاط الآلاف منهم بالقصر عدة أيام يطالبون بإلحاح الملك المحبوب بالعدول عن إستقالته،ولم يكن أمام الملك سوى الرجوع عن هذه الاستقالة ، وموضحا أن أستقالته كانت بسبب تقدم السن به وخشيته من أن يؤدي ذلك إلى التقصير في حسن القيام بما عليه من المسؤوليات،وأنه أمام هذه المعارضة للإستقالة فلا يسعه إلا العدول عنها على أن يكون لهم الحق في رفع يده عن الحكم إذا ماشعروا مستقبلا بعجزه عن حمل ماعليه من الواجبات ،وتكليف من هو أقدر منه علي حملها.
قدم الملك استقالته لتقدمه في السن...ولم يقبلها الشعب
كانت استقالة الملك الثانيه والاخيره هي تلك المؤرخه في 4/8/1969م والتي وجهها اثناء رحلة استشفائيه الي تركيا ثم اليونان ،إلى كلا من رئيس واعضاء مجلس النواب ورئيس مجلسالوزراء ورئيس مجلس الشيوخ عبد الحميد العبار ورئيس مجلس النواب مفتاح عريقيب عندما جاء الي تركيا للاجتماع بالملك بناء عليطلبه وفي هذه الاستقالة اكد الملك ادريس انه وقد تقدم العمر به حتى وهن العظم منه وبلغ من العمر عتيا ولهذا قرر التخلي عن العرش الي ولي العهد ( السيد الحسن الرضا السنوسي) مشترطا موافقة البرلمان على ذلك ومن ثم عليه حلف اليمين واعتلاء العرش ومطالبا في هذه الاستقالة الشعب الليبي بتقوى الله ومخافته وحمد الله تعالى وشكره على ما اكرم به بلاده من النعم وافاض عليها من الخيرات وان عليه الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وذلك خوفا من ان يرفع الله تعالى عنها نعمه وخيره ويوليها الاشرار من عباده وكان نص الرسال’:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاةوالسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين أما بعد :
يا أخوتي الأعزاء ..رئيس واعضاء مجلس الشيوخ واعضاء مجلس النواب
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أقدم لكم هذا الخطاب قائلا : منذ أن قلدتني هذه الامه الكريمه الليبية ثقتها الغالية بتيوئي هذا المقام الذي شغلته بعد إعلان استقلال بلادنا العزيزه ليبيا ، قمت بما قدره الله لي مما أراه واجبا علي نحو بلادي وأهلها، وقد لايخلوا عمل كل إنسان من التقصير ، وعندما شعرت بالضعف قدمت استقالتي قبل الآن ببعض سنوات فرددتموها فطوعا لإرادتكم سحبتها ، وإني الآن نسبة لتقدم سني وضعف جسدي أراني عاجز عن حمل هذه الأمانه الثقيله ، ولايخفى أنني بليت في سبيلها خمسة وخمسين ستة قبل الاستقلال وبعده،وقد أوهنت جلدي مداولة الشؤون وكما قال الشاعر:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ===== ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
وقد مارست هذه القضية وعمري 27 سنه والآن في الثانية والثمانين.ولله الحمد أتركها في حالة أحسن مما باشرت في بلائي بها ،فأسلمها الآن لولي العهد السيد الحسن الرضا المهدي السنوسي الأول على ان يقوم بعبئها الثقيل امام الله وامام اهل هذه البلاد الكريمة على نهج الشريعة الاسلامية والدستور الليبي بالعدل والانصاف فاعتمدوه مثلي مادام على طاعة الله ورسوله والاستقامة.
وبعد اعتماده من مجلس الامه يحلف اليمين الدستوريه امام مجلس الامه قبل ان يباشر سلطاته الدستوريه والتي شاء الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون، فالله الله مما يغضب الله، وتعاونوا على البر والتقوى ولاتعاونوا على الإثم والعدوان ولاتفرقوا قال [ (صلي الله عليه وسلم) : لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعوا خياركم فلا يستجاب لكم] ...والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
محمد إدريس المهدي السنوسي
في 21 من جمادى الاولى 1389ه
الموافق 4 من اغسطس 1969م
وحينما وقع انقلاب العسكر في سبتمبر 1969م كان الملك في رحلة علاجية إلى تركيا واليونان،ولم يكن معه مال خاص ينفق منه، ومع ذلك فحينما عرض عليه المسؤول المالي للرحلة العلاجية استلام ماتبقى في عهدته من مخصصات رفض الملك ذلك بعزة نفس وقال : يابني أنا بالأمس كنت ملك ليبيا ،وكنني لم أعد كذلك اليوم ،وبالتالي فإن هذا المال لم يعد من حقي ويجب أن يسلم إلى خزينة الشعب.
تقول الملكة - فاطمه -زوجة الملك- في رسالة لها بتاريخ 12 سبتمبر 1969م تصف فيها حالها وحال زوجها الملك بعد وقوع الانقلاب العسكري : إننا نحمد الله على أن تيجان الملكية لم تبهرنا قط ولانشعر بالأسف لفقدها فنحن كنا دائما نعيش حياة متواضعة ولم يغيب عن اذهاننا مثل هذا اليوم، كما نحمد الله كثيرا على إننا لانملك مليما واحدا في أي مصرف حتى يشغل بالنا المال، ولم نغير معاملتنا لأصدقائنا وهي لم تتغير مع الأيام.
لقد تحدث الكثيرون عن سيرة الملك إدريس ويجدر أن نشير إلى بعض اللذين عاصروه ،وأتصلوا به شخصيا واطلعوا عن قرب على الكثير من اخلاقه الرفيعة، ففي مقال نشر في صحيفة الشرق الاوسط في عددها بتاريخ 32 يوليو 1983م نعى السيد مصطفى بن حليم - رئيس وزراء ليبي سابق- الملك إدريس السنوسي ( رحمه الله) وتحدث عن جهاد ليبيا تحت قيادته،وكان ضمن ماقاله عن شخصيته :: لقد عرفت الملك إدريس ( رحمه الله) معرفة واسعة وحميمه على مدى نصف قرن تقريبا عرفته منذ ان كنت صبيا وعملت معه وزيرا ثم رئيسا للوزراء ثم مستشارا له ، كما عرفته وأنا مواطن عادي، وكما عرفته وهو لاجئ في مصر وكنت دائما اتردد عليه في ملجئه بالقاهرة وفي طول نصف قرن عرفت فيه المجاهد المسلم الزاهد المتواضع لم يعر مباهج الحياة الدنيا أي اهتمام ،وكان الملك المؤمن الورع والآب العطوف والقائد الحكيم المتواضع،كما كان يحن دائما للهجرة إلى مكة والمدينة ليجاور من في الأراضي المقدسة.
مرة واحدة رأيته يتلوى ألما ويبكي دما ويهدر هديرا وهو الهادئ الصبور كان ذلك يوم سقوط القدس الشريف في أيدي الصهاينه، كان يخشى الله في السر والعلن وفي سنة 1955م عندما أنشأت الجامعة الليبية تبرع بقصر المنار في بنغازي ليكون لها مقرا، وكذلك فعل سنة 1956م عندما تنازل عن قصر الغدير كمقر للكلية العسكرية وكان دائم التردد على الأراضي المقدسة للحج والعمرة.
ويقول الدكتور مجيد خدوري عن دوره في إنشاء الدولة الليبية وتحقيق الوحدة الوطنية : إن الدور الذي قام به الملك إدريس في إنشاء الدولة الليبية بالغ الأهمية إذ أنه لم يكتف بأن أقدم على العمل بجرأة لتخليص برقة من ايطاليا في الحرب العالمية الثانية فحسب بل استعمل نفوذه الشخصي وحنكته السياسيه لإقناع أصحاب النفوذ من الزعماء الطرابلسيين بوجوب الألتفاف حول النظام الأتحادي الذي لولاه ماكانت لتتم وحدة ليبيا قط ولما كان حفيدا وخليفة للسيد محمد بن علي السنوسي - مؤسس الحركه السنوسيه-فضلا عن ذلك فقد كسب ايضا ثقة زعماء القبائل البرقاويه واحاط نفسه بنفر من الرجال المقتدرين الذين تفانوا في تأييده كان بعض هؤلاء الزعماء قد تبعوه إلى المنفى والآخرون ظلوا في البلاد لمقاومة الطليان مثل عمر المختار..وأما المؤرخ - دي كاندول- صاحب كتاب [ الملك إدريس عاهل ليبيا] فقد قال : على الرغم من محاولات تشويه صورة الملك إدريس في أذهان الناس ،وتهويل بعض نقاط الضعف التي لاينفرد بها عن بقية البشر ، إلا أن الحقبة الطويلة التي قضاها في خدمة بلاده وامته قد ترسخت في اعماق التاريخ بما يكفي للصمود امام كل المساعي الخبيثه.
إن الملك إدريس رمزا لعهد مضى ولن يعود ، لكنه عهد زاخر يجدر بالليبيين جميعا والمسلمين عموما أن يعتزوا به وقال أيضا: كانت الدعاية التي رافقت الانقلاب كاذبة مفترية في مزاعمها ضد الملك التي حاولت ان تصوره مثل فاروق فاسقا متهتكا فاسد الذمة،وهو أبعد مايكون عن تلك الصفات فسمعته الشخصية كانت فوق مستوى الشبهات سواء في البلاد او في العالم العربي والاسلامي عامة كرجل شديد الورع والتقوى كرس حياته لحرية شعبه وكان في سلوكه الخاص مثلا للأعتدال والاستقامة الكاملة، وأن الحملة الدعائية التي تواصلت ضده على ذلك النمو كانت من نوع الاسفاف الرخيص الذي لايقوم على أساس.
وفاته
استقر الملك إدريس ( رحمه الله) في مصر حيث بقى مدة حياته الاخيرة بها،ولم يغادر مصر إلا مرتين ذهب فيهما إلى مكة حاجا، وكانت وفاته في القاهرة بتاريخ 25/ مايو/ 1983م وهو في سن الرابعة والتسعين،ولقد دفن الملك ( رحمه الله) في المدينة المنورة، وكان قد طلب من جلالة المغفور له بإذن الله - الملك خالد بن عبد العزيز- في لقاء لهما بموسم الحج سنة 1977م أن يأذن بدفنه متى حانت المنية في البقيع فكفل الملك خالد للملك إدريس رغبته ( رحمهما الله) ثم إن الملك فهد بن عبد العزيز أجاز ذلك بعد وفاة الملك خالد بن عبد العزيز ونقل جثمانه من القاهرة إلى المدينة المنورة في طائرة مصرية خاصة.
فنسأل الله له الرحمة والمغفرة والرضوان ونقول ماقاله المولى عز وجل : [ربنا اغفر لنا ولأخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولاتجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم ] - الحشر..10-.
الأخوة الكرام هذه صفحات مختصرة من حياة ملك حاول الاقتداء بسنة الحبيب ( صلى الله عليه وسلم) وخلفائه الراشدين،فسدد وقارب وأجره على الله..وللأسف النظام الجاثم في بلادنا الآن حاول طمسه وتشويهه ولقد اكرمني الله بمعرفة أناس عاصروا الملك ورأوه ولامسوا افعاله عن عيان وقرب فتحدثت معهم وأستجليت كثيرا من الغوامض التي كنت اجهلها عن سيرة ذاك الملك الطيب ( رحمه الله)إضافة إلى الكتب والمراجع التي حصلت عليها وأنوه هنا وأشيد بكتب الشيخ الدكتور : علي محمد الصلابي التي نهلت منها الكثير والكثير من مقالتي هذه فأسأل الله تعالى أن يجعلها في ميزان حسناته ...وآخر دعوانا أن الحمد للله رب العالمين.