الشيخ زكريا وبيرم التونسى
لا يمكن أن يأتى زكريا أحمد دون ذكر بيرم التونسى ، والعكس صحيح ، فقد تلازم الاثنان تلازما شخصيا وفنيا وكونا معا ثنائيا غزير الإنتاج عميق التأثير فى الناس والمجتمع ، ولا تزال أعمالهما المشتركة تردد للآن وكأنها صنعت بالأمس القريب
ومن أعمال زكريا وبيرم المشتركة ..
أغانى أم كلثوم ، أجمل أغانيها ومنها بكرة السفر ، يا فرحة الأحباب ، أنا فى انتظارك ، الآهات ، الأوله فى الغرام ، حبيبى يسعد أوقاته ، أهل الهوى ، غنى لى شوى شوى ، عن العشاق سألونى ، قوللى ولا تخبيش يا زين ، الأمــل ، حبيب قلبى وافانى (الحلم) ، نصرة قوية ، الورد جميل ، هوه صحيح
مونولوجات حاتجن ياريت يا اخواننا مارحتش لندن ولا باريس ، يأهل المغنى دماغنا ، آدى وقت البرنيطة ، قدر ده وده
أوبريتات أوبريت عزيزة ويونس
اقترب زكريا من بيرم كثيرا حتى فى قدرهما ، فقد عاشا تقريبا لنفس العمر وتوفى الشيخ زكريا فى ذكرى الأربعين لوفاة بيرم
إحياء ذكرى الشيخ زكريا
فى عام 1970 أى بعد وفاته بعشر سنوات كانت ألحان زكريا أحمد لأم كلثوم ملء الأسماع ، لكن بدأت تظهر على الساحة ألحان لزكريا غير تلك التى غنتها أم كلثوم ، وبعد طول غياب ، فأعيد تقديم أوبريتات سيدى منجد وعزيزة ويونس ، وعادت للظهور ألحان لم يسمعها الجمهور مثل حلاوة الدنيا ، وحاتجن يا ريت يا اخواننا ، كما قدمت ألحان لم يقم بتسجيلها مثل آدى وقت البرنيطة ، قدر ده وده ياما ناس كمالة عدد ، وجميعها من نظم بيرم ، ولاقت تلك الأعمال قبولا جماهيريا كبيرا وتنافست فرق الكورال على حفظها وتقديمها فى برامجها ، وقد بدأت هذه الحركة فى الإسكندرية مسقط رأس بيرم وسيد درويش وكان الشيخ زكريا يتردد عليها باستمرار ، وكانت تربطه صداقة بملحن سكندرى محب لألحان الشيخ زكريا وسيد درويش هو محمد عفيفى ، وبعد وفاة زكريا قرر محمد عفيفى أن يقدم ما لديه من كنوز غير معروفة للشيخ زكريا ، أسوة بما كان يقدمه من أعمال سيد درويش وقام بكتابة النوت الموسيقية وتدريب الفرق عليها ، ثم بعدها بعشر سنوات أخرى بدأ تقليدا بإحياء ذكراه مع ذكرى بيرم كل عام حيث تقاربت تواريخ مولدهما ووفاتهما فى احتفال بأحد مسارح المدينة ، كانت القاهرة مشغولة فى السبعينات بألحان محمد عبد الوهاب وبليغ حمدى والسنباطى ومن هم بعدهم ، بينما نسى الناس الملحنين السابقين الذين توقفوا عن التلحين ، حتى من كان منهم على قيد الحياة مثل كمال الطويل ، ومحمد القصبجى ، غير أن حركة الإسكندرية نجحت فى تصدير الفكرة إلى القاهرة بعد عشر سنوات ثالثة! وبدأت فرق القاهرة تقدم ألحان الشيخ زكريا من جديد وتحيى ذكراه بانتظام مع ذكرى بيرم التونسى
نقـــد زكريا أحمد
Ÿ بالرغم من موهبته العالية إلا أن الشيخ زكريا اقتصر على التلحين ولم يقتحم ميدان الموسيقى البحتة ، ولم تعرف له مقطوعات موسيقية سواء على النمط القديم أو المستحدث ، على عكس ما حاول محمد القصبجى ومحمد عبد الوهاب ورياض السنباطى وغيرهم ، وهو بذلك يشترك مع سيد درويش فى أن كلاهما لم يدخل هذا المضمار
Ÿأخذ على زكريا أحمد تلحين بعض الأغانى التى لم تحمل قيما فكرية عالية وذلك فى بداية نشاطه الفنى ولو أن من غناها كان من كبار المطربين فى ذلك الوقت ، ورغم أن تلك الأغانى اعتبرت من المستوى الهابط فكريا ، إلا أنها لم تكن كذلك فنيا ، ومن أمثلتها أغانى وطقاطيق اشتهرت كثيرا مثل ارخى الستارة ، وهي اول اغنية انتشرت له في العشرينات وغنتها منيرة المهدية وكذلك عبد اللطيف البنا ، اوعى تكلمني بابا جاى ورايا لرتيبة احمد ، ابوها راضي وانا راضي لصبري البنا ، ما تخافش على ، كله الا كده ، حزر فزر ، وجميعها انتشرت بصورة كبيرة ، غير أن زكريا أحمد لا يدافع عن نفسه فقط بقيمة ألحانه ، فهو يقرر أن تلحينه هذه الأغانى كان لاضطراره المادى ، وفى حين كان يمكن للمطرب أو المطربة من الدرجة الثانية أو الثالثة أو حتى فى ذيل القائمة أن يضمن لنفسه دخلا يعينه على العيش من خلال عمله بالحفلات والأفراح ، فقد كان الملحن يعانى ماديا مهما بلغت عبقريته ، وقد علق سيد درويش ذات مرة عندما رفض عرض إحدى الشركات عشرة جنيات فى 8 أدوار ( لسيد درويش!) قائلا لصديقه بديع خيرى .. دى بلد يجوع فيها العباقرة .. وقد بلغ به الغضب أن مزق النوت الموسيقية قبل أن يغادر الاستوديو ، وخسر الفن 8 أدوار لهذا العبقرى الذى لم يلحن فى حياته غير عشرة أدوار ، وسار هو فى شوارع القاهرة مفلسا يسمع أغانيه على مسارح الفرق التى تجمع الثروات من وراء ألحانه
Ÿلم يهتم زكريا أحمد كثيرا بالمقدمات الموسيقية فى أغانيه إلا فى مرحلة متأخرة ، ونلاحظ أنه حتى عام 1946 فى أغنيته الأمل من مقام الراست لأم كلثوم قد استخدم مقدمة موسيقية تقليدية مثل مقدمات الأدوار القديمة وهى ليست إلا تمهيد قصير للمقام الموسيقى كان يتم استخدامه فى أى أغنية لأى ملحن وقد جرى العرف على ذلك أيام الأدوار ، وربما عاد هذا إلى تأثر زكريا بالأدوار القديمة وأنه هو نفسه كان من ملحنى الأدوار ، وقد خرج الشيخ زكريا عن ذلك فى أنا فى انتظارك عام 1943 ووضع لها مقدمة موسيقية رشيقة ، كما وضع من موسيقاه مقدمات لأغانى أخرى وإنا كانت غاية فى القصر حيث أن معظم تلك الأغانى كانت أغانى قصيرة ، ووضع أيضا مقدمة خاصةلأغنية الورد جميل ، لكنه استعمل نفس المقدمة كلازمة موسيقية بين الكوبليهات مما جعلها تفقد شخصيتها كتمهيد موسيقى مستقل ، ثم وضع مقدمة لأغنية هوه صحيح الهوى غلاب لأم كلثوم وأبقى عليها كمقدمة وأدخل موسيقات مختلفة كلزم بين الكوبليهات ، وهو ما اتبعه القصبجى وعبد الوهاب ورياض ، ولكنه رغم ذلك كان مختصرا للغاية فى تلك المقدمة إذ أنها فوق قصرها لم تخرج عن المقام الأساسى
Ÿ الإقلال من شعر الفصحى فى ألحانه ، وهو فى ذلك قد اشترك مع محمد القصبجى وسيد درويش فى كون معظم أعمالهم من شعر العامية ، لكن يحب النظر إلى هذا فى إطار أن زكرياأحمد كان ملحنا شعبيا بالدرجة الأولى ، وإذا أخذنا فى الاعتبار قول أمير الشعراء .. أخشى على الفصحى من عامية بيرم .. ندرك مدى خطورة هذا الشعر ، و بيرم التونسى كان شاعر زكريا الأول ، وكذلك كان الأمر مع سيد درويش الذى أطلق العنان لألحانه الشعبية لتسرى فى كلمات بيرم وبديع خيرى ، وهما شاعران على أقصى درجة من الخطورة ، وإذا تذكرنا أن الشيخ زكريا لم يكن يصنع موسيقاه للقصور والصالونات ، فإنه يكون قد حقق مبتغاه
Ÿ عدم وفاق زكريا مع أم كلثوم لسنوات جعله خارج حلبة المنافسة الكلثومية لفترة طويلة مما قلل من إبداعه الفنى دون شك ، إذ أن أم كلثوم كانت حامل لواء الأغنية فى الأربعينات والخمسينات والستينات ، وكان صوتها هو المحك الحقيقى والمعبر الرئيسى للملحنين ، نستثنى من ذلك عبد الوهاب لأنه هو نفسه كان مطربا كبيرا ولم يكن فى حاجة لصوت أم كلثوم ، وفى الحقيقة لم ينج من الخلاف مع أم كلثوم من ملحنيها من الكبار غير رياض السنباطى فقد اختلفت معهم جميعا ولم يكن خلافها سهلا وإنما كان ينتج عنه قطيعة طويلة ، وزكريا لم يكن اسثناءا
Ÿ اختلفت الآراء فى زكريا أحمد من حيث كونه محافظا أى تقليديا أو مجددا ، وقد عرف عنه أنه من أصحاب الألحان الشرقية الأصيلة ، وهذا الوصف يعتبر ميزة بالنسبة للمحافظين ، أما عند المجددين فقد يترجم أحيانا بالميل للقديم وعدم التجديد ، وإذا استمعنا إلى ألحان الشيخ زكريا نجده علما من أعلام الشرق ، وقد قام أقام حدودا له هى حدود عدم التغريب ، أى عدم اللجوء للموسيقى الغربية كمصدر من مصادر التجديد ، واستطاع زكربا التجديد فى إطار من الشرقية وطور ألحانه من الأشكال التقليدية كالدور والطقطوقة إلى الأغنية الحديثة ، كما أن ألحانه المسرحية غاية فى الخفة والعمق فى ذات الوقت ، فهى خفيفة الحركة عميقة النغم ، وقد استطاع الوصول إلى قلوب الناس وهز مشاعرها ، وإن كان هذا هو المطلوب فى عالم الموسيقى فيبدو أنه نجح فى مهمته دون استيراد عناصر من الخارج
وإذا كانت شرقية الألحان هى مقياس المحافظة فإن زكريا أحمد يعتبر من كبار المحافظين فى ميدان الموسيقى إذ أن شرقيته ليست محل شك ، ومحلية موسيقاه جعلتها أقرب إلى الناس وأسهل فى الاستيعاب ، غير أن التجديد لا يكون فقط باستخدام أساليب غربية فسيد درويش استطاع فك هذه المعادلة بمنتهى التمكن ، ولا نستطيع القول بأن السنباطى ، وهو مجدد ، كان مغربا ، لكن الاعتماد على الميلودى والطرب ، وهو من سمات القديم ، يضع الشيخ زكريا على رأس قائمة المحافظين
وكما هو الحال مع غيره من رواد الموسيقى العربية ، يمكننا قياس فن زكريا أحمد بمقياس بسيط هو مدى إمكانية أن يقوم ملحن آخر بصنع مثل ما أبدعه زكريا من فن ، ولا نظن أن هذا ممكن الآن ، ولا حتى قبل ذلك .. زكريا هو زكريا!