اللؤلؤة.. جون شتاينبك
في تلك المدينة كان الجميع يعرفون هذه الحكاية...وكانوا يحكونها مئات المرات بكل تفاصيلها وأحداثها...ويقولون أشياء كثيرة عن "كينو" صياد السمك وزوجته "جوانا" وابنهما "كويوتيتو" ...وهم من الهنود الحمر الفقراء الذين يعيشون عند أطراف بلدة صغيرة في المكسيك...
يقولون أن "كينو" وأسرته كانوا فقراء جداً ...بل ومن أفقر الفقراء في هذا العالم...يعيشون في كوخ ضيق مبني بسيقان الأعشاب وأغصان الشجر...ويحرقون القش لإنضاج أرغفة الخبز التي تصنعها الزوجة "جوانا" عند كل وجبة ...وكانوا يحمدون الله كلما استطاعوا الحصول على حفنات من الحبوب التي يصنعون منها هذا الخبز...!!
لم يكن الكوخ العشبي الذي تعيش فيه هذه الأسرة مختلفاً عن بقية الأكواخ المجاورة التي يعيش فيها الصيادون الهنود الفقراء الذين يحصلون على قوت يومهم يوماً بيوم....والذين يعيشون تحت تهديد الجوع ...ويعتبرونه عدواً يتربص بهم ليفترسهم آخر النهار....
كانت هذه الأكواخ الفقيرة المتهالكة متباعدة عن بعضها ومتقاربة إلى بعضها في الوقت نفسه...وتتناثر على رمال شاطئ الخليج المفتوح على البحر العريض الواسع...وكان سكان تلك الأكواخ يعيشون حياة متماثلة متشابهة يدوسها الفقر بكل قوته...ويملأها الخوف من وطأة الجوع التي قد تؤدي إلى الموت...
حتى البحر الذي يعيشون على شاطئه ، كان فقيراً هو الآخر فهجرته الأسماك، عدا القليل من الأسماك الصغيرة الضئيلة الحجم والوزن ، والتي كانت تؤدي رسالتها النبيلة – دون أن تدري – في سد رمق الجوع في بطون هؤلاء الفقراء ، وتبعد عنهم شبح الموت الذي يهدد الجميع في كل حين...
ومن الغريب أن هؤلاء الصيادين الفقراء قد توارثوا عن آبائهم وأجدادهم مهنة صيد اللآلئ ...ويجيدون كتم أنفاسهم والغوص في قاع البحر للبحث عن المحارات التي قد تحتوي محارة منها على لؤلؤة صغيرة ، يبيعونها في المدينة لتجار اللؤلؤ المجتمعين في أحد الشوارع الضيقة ، والذين يقدرون البضاعة بأبخس الأثمان ، ولا يدفعون أقل القليل....
كانت تجارة اللآلئ في تلك المدينة خدعة كاملة ...فجميع هؤلاء التجار تابعون لتاجر كبير واحد ....ويتظاهرون بالتنافس في زيادة أسعار الشراء ...ومع ذلك فقد كان أعلى سعر يعرضه أحدهم يقل عن القيمة الحقيقية للآلئ بأكثر من خمسمائة وألف مرة...!!!
شقشق الفجر واستيقظ "كينو" الصياد على الصوت الخفيض الذي كانت تحدثه حركات زوجته "جوانا" حين كانت تحاول إشعال النار في بعض أعواد القش الموضوعة بداخل حفرة عند باب الكوخ لتعد خبز الصباح...
فتح "كينو" عينيه وأخذ يتأمل في نور الفجر الذي بدأ يتسلل خلال شقوق الكوخ ..وأرهف أذنيه ليتسمع صوت الكائنات عندما تستيقظ كل صباح ...هاهي زقزقة العصافير وغيرها من الطيور وقد بدأت عملية الامتزاج الهادئ مع حفيف أمواج البحر المتكسرة على رمال الشاطئ ....وهاهي الأنغام الكونية وقد بدأت تتردد في صدى عميق بداخل "كينو" وتدغدغ أحاسيسه ومشاعره...
كان "كينو" مثل بني جنسه ، يتصور أن الكون عبارة عن مجموعة من النغمات ...وأن لكل شأن من شؤون الحياة نغمة خاصة تميزه ...هناك لحن يتردد بداخل النفس ليجعل للصبر مكاناً في زوايا القلوب ، وهناك ألحان للفرح وألحان للحزن والعذاب ...وحتى عندما يواجه الإنسان شراً يهدد حياته أو عدواً مسلحاً بأسباب الأذى ، فسوف يسمع في أعماقه لحناً صاخباً مختلط النغمات السيئة النشاز...اسمه لحن العدو أو لحن الشر...!!!
وبينما كان "كينو" غارقاً في تأملاته ...تسللت إلى أذنه الداخلية نغمات من لحن الشر ، فشعر على الفور بإحساس غامض بقرب وقوع شر مستطير على وشك أن يحدث ...بل وحدث فعلاً أمام عينيه....
كان ابنه الرضيع "كويوتيتو" راقداً في صندوق صغير قرب مدخل الكوخ ...وفجأة حدث شيء فظيع هز كيان "كينو" وخلع قلب زوجته "جوانا" ...لقد شاهدا عقرباً ترفع ذنبها المسموم وتمشي فوق غطاء الطفل الرضيع الذي كان قد استيقظ وبدأ يحرك يديه كما او كان يريد الإمساك بهذا الموت المقترب الذي أرسله الشر...
وفي لمح البصر نهض "كينو" على قدميه ، وبمنتهى السرعة ليزيح هذا الشر عن ابنه الرضيع ، ولكن العقرب كانت أسرع منه وضربت ضربتها ولدغت الطفل المسكين في كتفه ...وعلا صراخ الطفل من شدة الألم ، بينما كان أبوه قد أمسك بالعقرب وبدأ يفركها بين أصابعه حتى أصبحت كالمعجون ثم ألقاها على الأرض وبدأ يهرسها بقدمه العارية حتى أصبحت أشلاء متناثرة...
وبتلقائية الأم الملتاعة ، رفعت "جوانا" ابنها المسكين بين ذراعيها ، وقربته إلى صدرها...ومدت شفتيها نحو الثقب الأحمر الذي أحدثته اللدغة ، وبدأت تمتص السم بكل قواها وتبصقه على الأرض...
*********************
تردد صراخ الطفل الجريح بين جنبات الأكواخ ...وشعر كل الجيران بالمأساة التي حدثت ...وبدأوا يتجمعون حول الكوخ صامتين لا ينطق أحدهم بكلمة ...ولكن مشاعر الحزن كانت صارخة في كل وجوه جميع الرجال والنساء والأولاد والبنات الذين كانوا لا يملكون شيئاً للمساعدة في تلك المحنة...
وبعد أن اعتقدت الأم "جوانا" أنها قد امتصت كل السم الذي نفثته العقرب في كتف ابنها...رفعت عينيها إلى زوجها وتوسلت إليه بصوت متهدج مختلط بالدموع : الطبيب...لابد أن يحضر الطبيب ليراه..!!
وسرت مشاعر الدهشة بين الجيران وبدأوا يتساءلون : كيف يحضر الطبيب إلى أكواخ هؤلاء المعدمين المفلسين ...من الأفضل أن تذهبوا إلى الطبيب بأنفسكم لعل وعسى....
وحمل "كينو" طفله الملدوغ ...وسارت الأم "جوانا" خلفه وهي تتمتم بكلمات سحرية لطلب الرحمة وإبعاد الشر...ومن خلف الزوجين انضم جميع الجيران إلى الموكب الحزين...تتردد في أعماق نفوسهم أنغام الحزن والأسى التي يعرفونها جيداً...ومع ذلك فلم يكن هناك صوت يسمع ، سوى الأنفاس اللاهثة ووقع الأقدام المسرعة فوق حبات الرمل...
وصل الموكب إلى أسوار البيت الذي يقيم به الطبيب ...وكان الطبيب من الجنس الأبيض الذين ينظرون إلى مثل هؤلاء الهنود الحمر كما ينظرون إلى حيوانات جرباء ...وأسرع خادمه الهندي بإبلاغه بأن هؤلاء الناس يطلبون علاج طفل رضيع لدغه عقرب...فأمر الطبيب خادمه بألا يفتح لهم باب البيت إلا بعد أن يتأكد من أنهم يحملون نقوداً ليدفعوا أجر العلاج...
وأخرج "كينو" من بين طيات ملابسه لفافة من الورق كانت بها ثماني لآلئ صغيرة ...ولكنها كانت صغيرة جداً ورديئة وكالحة اللون ، وقدمها إلى الخادم ليعرضها على الطبيب كأجر للعلاج ...ولكن الخادم عاد بالورقة المطوية بعد لحظات ، وقال ل "كينو" ومن معه أن الطبيب قد خرج ليعالج مريضاً في المدينة ولن يعود الآن ...وفهم الجميع أن الطبيب رفض الأجر المتواضع المعروض عليه ، ورفض بالتالي علاج الطفل الملدوغ...
وقبل أن يستدير الجميع إلى طريق العودة وهم يجرون أذيال الخيبة ويتجرعون مرارة الإهانة ، ضرب "كينو" بوابة بيت الطبيب الحديدية عدة مرات حتى نزف الدم من يديه....
وعندما وصلوا إلى منطقة الأكواخ العشبية التي يقيمون فيها ، تفرق كل منهم إلى حال سبيله ، ليواجه المتاعب التي تدبرها الحياة الشاقة لكل من يعيش على هذا الشاطئ ...وتوجه "كينو" وزوجته التي كانت تحمل الرضيع المسكين إلى قارب الصيد ...وهذا هو الشيء الوحيد الذي يمتلكانه في هذا العالم...
وعندما أرقدت "جوانا" ابنها "كويوتيتو" على بطانية بقاع القارب ، لاحظت أن الأورام الحمراء قد زحفت إلى أعلى رقبته وتحت أذنيه ...وأن وجهه البريء قد خلا من الابتسامة وتورم وانتفخ ...وبطريقة تلقائية جمعت "جوانا" بعض الطحالب البنية الرخوة التي كانت طافية على سطح البحر ، وصنعتها على شكل لبخة غطت بها الأورام الحمراء وهي تدعو في سرها بصلوات الشفاء...
ولكنها تذكرت فجأة ألحان أغنية اللؤلؤة ...ونغماتها التي يرددها الهنود الصيادون لتحقيق الأمنيات الطيبة وأمل العثور على "لؤلؤة العالم" التي تبعد عنهم شبح الجوع وتغنيهم مدى الحياة...
ومن الغريب أن صدى نغمات هذه الأغنية كان يتردد أيضاً في أعماق "كينو" ويهز مشاعره...وأصبح من الواضح تماماً أن العثور على "لؤلؤة العالم" هو الأمل الوحيد لتوفير العلاج وإنقاذ الطفل المسكين...
خففت الأقدار من قبضتها وابتسم الحظ ابتسامة رائعة ، وعثر "كينو" على محارة ضخمة في أول غطسة له إلى قاع البحر ، فخلصها من الصخور التي كانت ملتصقة بها ، وصعد فوراً إلى القارب المتأرجح فوق سطح الماء ، حيث كانت زوجته تترقب وتنتظر...
وكانت اللحظات التالية من أسعد اللحظات ...فما أن استخدم "كينو" سكينه لفتح المحارة الضخمة وإزالة لحمها ، حتى وجد اللؤلؤة العظيمة ...كبيرة وضاءة في حجم البيضة ...مستوية الأسطح ولا شائبة فيها ...وكأنها القمر في ليلة تمامه بدراً ...
تماسكت "جوانا" وتحكمت في مشاعر الفرحة العظمى التي هزتها...وكأنها كانت متأكدة من أن الحظ حتماً سيبتسم ، وسيمد يده الحانية لينقذ طفلها من بلواه ...أما "كينو" فلم يستطع التماسك أو التحكم في مشاعره فأخذ يصرخ في هستيرية : لقد عثرت على "لؤلؤة العالم" ...!!! هاهي "لؤلؤة العالم" في يدي...!!!
انتشر الخبر كهبوب الرياح بين جميع الأكواخ العشبية المتناثرة على رمال الشاطئ ، وأصبح حديثاً يلوك كلماته جميع الرجال والنساء من الجيران ، الكبار منهم والصغار ...ثم وصل إلى أطراف المدينة ذات البيوت المبنية بالحجر ...ثم تخلل الخبر شوارع المدينة وطرقاتها وبيوتها ومحلاتها ، ووصل إلى أسماع القسيس والطبيب والشحاذين الذين يقفون عند باب الكنيسة ، ثم وصل أخيراً إلى المحلات الصغيرة التي يجلس فيها تجار اللآلئ ...لقد عثر صياد هندي فقير على "لؤلؤة العالم"...هل هذا معقول...؟؟؟!!
تمت