حكايات غيوم الشعر ومكتبة الانسان*
علي حسين عبيد
سأعود بكم الى اعوام الخصب والجدب في آن، وسأحكي لكم عن أيام كان الجوع فيها يتعارك مع الحيتان، وكان الألم ينتج شعرا وجمالا وحنينا ومؤاخاة، كان سلمان ينهض صباحا، يتثاءب، يتمطى، يضرب صدره بقبضته، ينفض آلام الشعر عن رأسه وأحزان الليل عن قلبه، ليبدأ يوما جديدا في مكتبة الانسان.
مكتبة الانسان وما أدراك ما مكتبة الانسان، فقد كتب عنها القاص الكبير عبد الستار ناصر قصة لا تُنسى حملت إسمها عنوانا، إنها لؤلؤة من لآلئ العقد التسعيني في بغداد وهي مأوى الأدباء الأدباء، كانت كالأم بطيبتها وحنانها، وكانت مشرعة اليدين لناظم السعود وعبد الستار ناصر وحسن النواب وعقيل علي وكزار حنتوش وآخرين من الأحباب الخوالد، وكان سلمان يقوم بدور الأب، حين يكون الأبُ صالحا وصبورا ورقيقا، فينكر نفسه ويهمشها، ويقمع شراسة الذات فيه ليصبح أجمل مرآة للشعر وأطيب نبع في سنوات القحط وأروع لغة في أيام الصمت، حتى تجمعت بغداد كلها بجمالها وعذوبتها وألقها في مكتبة الانسان .
كان سلمان داود محمد يتحدى نفسه في كل لحظة من لحظات الصراع والخوف، فقد نأى بنفسه عن مهزلة الزيف التي طالت واستطالت سنوات وسنوات، وكان يعلن على رؤوس الأشهاد أن الشعرَ لا يعرف الهزيمة او التخاذل، إنه فارس الأزمان، والقلب الشجاع الذي لا تتوقف نبضات الحقيقة فيه حتى الموت.في النصف الثاني من التسعينيات كنا نتقاطر عليه من كربلاء ومن كل مدن العراق، وكنت على قلة زياراتي غالبا ما أجد ناظم السعود وحسين سرمك حسن وسعد الصالحي وغيرهم في (غرفة) غيوم للنشر، وكانوا يغردون خارج السرب كما هم دائما، فيما كان سلمان يضع سيجارته في زاوية فمه، ليقرأ آخر قصائده بنبرة الصدق وصوت الحقيقة، وكنت حين استمع إليه، أمزج بين صوته الصادح بالجمال وبين اللوحات التشكيلية النافرة التي كانت تتوزع الجدران، وأحيانا ترشقني عناوين المطبوعات التي تفترش أرض الغيوم، فيصير الشعر بانوراما لمشهد الصمت والبوح في آن . كان الشاعر سلمان شجاعا وصادقا مع شعره ونفسه، فلقد زرته عصر احد الايام صحبة الشاعر حسن النواب، كنت حينها ساهيا لاهيا لا اعرف من الدنيا غير التيه والضياع، وكنت أصمت بإجلال وجمال لسجال الكلام الذي لايشبه الكلام. كانت غرفة غيوم شاخصة بجوار نصب الحرية في قلب بغداد، وكانت صغيرةً محاصرة بالجدران لكنها كبيرةٌ بالادباء الذين كانوا يؤمّونها، وعظيمة بفحواها ورموزها، بكتبها وشعرها، بلوحاتها وصورها، بحكاياتها وصمتها.
حكاية الاعدام واحدة من حكايات غيوم الشعر، بدأ سلمان يقصها لحسن النواب، وكان ينظر إليّ بحيادية قلقة، ولا ادري كيف اطمئن لشخص يراه اول مرة هو أنا. قال سلمان في حكايته: حين كنت جنديا في الحرب، كنت أتلافى بحقيقة الشعر زيف الوضع الذي كنت أعيشه آنذاك، وكان الضباط والجنود يعرفون ذلك، ويعرفون بل يلمسون نوع الحياة التي كنت أعيشها بتفاصيلها، قولا وسلوكا، وهي لم ترق لبعضهم قطعا، فقد وجدوا فيها شيئا من الترفع، وخليطا من الكرامة والأنفة والكبرياء التي لا تتوافر لهم في ظل الأوامر الصارمة .
وفي لحظة من لحظات التحدي (يقول سلمان) وردني أمر عسكري لا يقبل النقاش، فلقد جاءوا لوحدتنا بمجموعة من الجنود المحكومين بالاعدام، وقد وقع الاختيار عليَّ كي أكون أحد منفذّي أمر الاعدام بأحد الجنود، لكنني شعرت بأن هذا الامر بمثابة تجاوز على حريتي وشرفي وانسانيتي (هكذا يقول سلمان) فقد رفضت تنفيذ الأمر بما لا يدع مجالا للتردد مهما كانت النتائج، وصل موقفي هذا الى آمر الوحدة، وقبلها حاول بعض المقربين أن يوضحوا لي خطورة الموقف في حالة إستمرار الرفض، لكنني وضعت حياة الجندي وحياتي في كفتين لا ترتفع إحداهما على الأخرى، أرسل الآمر يطلب حضوري، وسألني سؤالا محددا بلغة الاوامر العسكرية المعروفة، هل تنفذ أمر الاعدام أم لا ؟ ومن غير خوف او تردد او تفكير أجبته، (لن أفعل ذلك) مهما ستكون النتائج. وحين أُطلقت زخات الرصاص على جسد الجندي، كان سلمان داود محمد يكتب قصيدة جديدة خلف القضبان..... الى هنا انتهت الحكاية. حينها رأيت الشعرَ مجسدا في غرفة غيوم ونهض كالملك العظيم ونشر مظلته فوق رأس سلمان الشاعر، ورأيت الكبرياء الأصيلة ترسم وجه سلمان وتتدفق شعاعا متواصلا من عينيه، أدرت رأسي جانبا، وسألت نفسي لو أنني مررت بهذا الموقف ماذا كنت سأفعل في حينها ؟؟.
* كان الشاعر سلمان داود محمد يملك ويدير مكتبة الانسان في منطقة السنك في قلب بغداد وبعدها مكتبا للنشر والاعلان في الباب الشرقي.