عيون خلف الرأس ..! - صالح خريسات
التفكير في الربط بين الماضي والحاضر، إنما يستهدف تحطيم الحواجز، والسلبيات للماضي القريب، والماضي السيئ، الذي مرت به الشعوب، في فترات من تاريخها الطويل.
وإذا كان العالم يسير في الاتجاه إلى الأمام، فنحن أيضاً، لا نبتعد عن هذا الاتجاه، لأن حضارتنا الماضية، كانت تسير في هذا الاتجاه المستقيم، فالحضارة الفكرية والمعيشية، ليس لها عيون خلف الرأس، وإنما عيونها في المقدمة. والفكر الإنساني، لا يعترف بهذا التراجع، حتى لا تسير الحياة سيراً آخر.
لقد ترك لنا الأجداد تراثاً ضخماً، ولولاه، لبقيت كثير من معالم التاريخ محتجبة عنا ، لكن هذا التراث، يبحث التاريخ بحثاً سطحياً، ولا يناقشه ، وقد كتبه هواة، لهم ميلهم الخاصة، وأغراضهم، واعتمدوا في كتابته، الرواية الشفوية، في سرد الحوادث والتواريخ، وبما توافر لديهم، من أوقات الفراغ الطويل، وإمكانيات الحفظ والنسخ .
لقد اهتم مؤلفو الغرب، الاهتمام الكلي بتاريخهم، لبيان مراحل تطور الشعوب، ورقيها، وربط نتائجها بأسبابها، فكانت من ثم أبحاثهم واقعية، ومنطقية، استلهموا فيها الآثار، من رسم، ونقش، وبناء الاستنتاج المنطقي، وتركوا للعقل مساحة واسعة، ليحييها، وينسقها، ويفسرها. على عكس ما نفعله الآن، حين نقبل على كتب التراث، فنمجدها دون بحث أو تعليل، ونلبسها ثوب القداسة، والنزاهة، فلا نكاد نغير فيها شيئاً، وإن خالفت العقل، والمنطق، ونواميس الكون. فكان يجب أن نتواضع قليلاً، وندرك بأن الذين كتبوا هذا التراث، هم بشر من بشر، يخطئون ويصيبون، وإن تاريخنا الإسلامي، جزء لا ينفصل من تاريخ البشرية. ومثل هذه النظرة، ستظهر الأثر الخير، الذي كان للحضارة العربية، على الحضارة الغربية، مهما كان هذا الأثر ضئيلاًً، ومثل هذه النتيجة، تعيد الثقة إلى نفوس الناشئة، بأن حضارتنا، وإن انقضى دورها اليوم، كانت حلقة نيرة من حلقات الحضارة البشرية .
إن الحضارة مادة التاريخ، ليست ثمرة جهود فرد، أو شعب، أو مجموعة أمم، بل هي صنع الإنسان، في مختلف عصوره القديمة، والحديثة، والمستقبلة، يتضافر، ويتكافل لخلقها مع أخيه الإنسان، للسير مرحلة مرحلة، والانتقال من طور إلى طور، ومن رقي إلى رقي، فلا فضل، والحالة هذه لشعب على آخر، إذ لا حياة، ولا استقرار، ولا استمرار، للجهد الإنساني الكبير، إن لم يتوحد الأفراد، في أي قطر وجدوا، وفي أي وقت عاشوا. وبمقدورنا أن نقرر، بأن الإسلام، كان ثورة على الماضي، الذي كان سائداً من قبل، من إتباع الآباء، أو رجال الدين، فيما كانوا يعتقدون ويرفضون، لأنه يصرح بأن الإيمان التقليدي، من غير علم وتدبر، لا يناسب الإنسان في شيء، ولكن النهوض كذلك، بعقله وروحه، عن طريق الفهم، والإدراك، لا لأن الآباء والرؤساء، كانوا هكذا يفعلون .
لقد جعلنا هذا التراث، أسرى قيود ضيقة، و ولاءات محدودة. وأصبحت موضوعاته الفكرية والأدبية، أكبر المفشلات، والمثبطات، تفت في عزائم العاملين المجدين، وتزيد من العراقيل، في سبل التقدم العلمي التكنولوجي الرفيع . فأدى ذلك إلى فقد الروح العلمية والابتكارية، اللازمين للإبداع والتقدم، وانتشر الخمول، والتقليد، والاتكالية، والجمود الفكري، وانسحب العلماء، وكبار المفكرين، من ميادين البحث، والمنافسة العلمية الشريفة. كل ذلك بسبب هذه العيون خلف الرأس، التي لا ترى غير الماضي البعيد ..!